هناك في جهة معبَّدة من صمتها العنيد يرقد أمل خفيف الظل، لم يكن صراخها
المتراكم بوجه أبو البنات "زوجها على الورق" مجرد صراخ، كان أشبه بصراخ جمانة السلال وهي طالبة في الحادي عشر، دهستها قاطرة مقطورة في صبيحة رمضانية وهي ذاهبة للثانوية كعادتها، صراخ تلك المدهوسة، وصراخها بوجه ذلك العلقة المستوطنة الرئة كان ذات الصراخ القهري، بمجرد وصوله للبيت ليرى صغيراته، وقفت له بمنتصف الدرج الصاعد للأعلى حيث غرفة الأولاد، راحت بنبرة منخفضة وقوية وبعينين تقدحان شرراً تقول :
أيها العلقة الممتصة دمي، كأني علقة شربتها من مياه مستنقع مكتظ بالضفادع الحبلى، تمص حياتي وصباي أنا ضحية تلك الصفقة الكوبانية اللعينة، آن أن تتركني وشأني أيها المسخ، علا حرف الخاء صدى مدوياً بأذنيه .
لم تصدق والدتك مجيئي لطلبك، أم هل نسيت كم كنت بحاجة إلي، ألم أخرجك من ذلك الوكر اللعين، لقد وافقت على الزواج بك شريطة أن تساعدني في إكمال دراستي في الخارج، لكنك لم تبر بوعدك بعد أن قام أهلك بالضغط عليك ووضع المنية علي، إبني يتكفل بدفع أقساط تعليمك، ثم ماذا كانت النتيجة، قلت لي أني أعيش في ضائقة مادية ولن أستطيع الاستمرار في دفع الأقساط الدراسية، جعلتني كالبقرة لإنجاب الأطفال، ثم لك لسان يتحدث أيها الإمعة، لم يقف بجانبي سوى والدي الذي تحمل القيل والقال لأستمر في حياتي، أنا التي كنت أذهب للجامعة تحت وطأة الغيارى والحساد والقبليين من عشيرتنا، وقت كان محرماً على المرأة في كوباني إكمال دراستها الجامعية،
وبعد أخذ ورد وصراخ وتسمر الصغيرات بمنظرهما وهما في حالة من الاحتقان انسحب وخرج من البيت مطبقاً الباب بقوة وأخرج هاتفه من جيبه، فراح يتصل بإخوتها ووالدها المريض .
اختكم عادت لنوبة جنونها وتعيد أنشودة الطلاق -
وهاتف والدها المريض قائلاً :
ابنتكم تصر على الطلاق بعد ان استلمت الجنسية .
هنا وعلى الفور دار هرج ومرج مهول في البيت، مما ساءت صحة والدها غطفان فعلقوا له سيروما في البيت، ساءها ما سمعته :
تريدين تشويه سمعتنا بهذا الطلاق يا بنت...
- تبا لكم ولسمعتكم
أنا أموت لأجل أن تعيشوا على جثتي يا أولاد ال.-
إن الانعتاق من هذا الأسر ليس سهلاً، وراءه تحدث قطيعة كاملة ستدفع ثمنها هي وحدها، تحيا ممزقة الأوصال والأنفاس كحياة نسوة الحريم، تربي الأطفال لوحدهم تحرص أن تكون لهم أباً قبل أن تكون أماً .
قرر نظمي السفر ربما هو الحنين لهواء روسيا قاده للتفكير والابتعاد عنها، أو لعله يريد تحريك مشاعر الشفقة والتعاطف من زوجته كي تقول له مثلاً لماذا تريد ترك الأولاد فهم يحتاجون لأبيهم، اعتقد أن سيدفعها لشعور التأنيب، هو إسلوب يتبعه بعد شجار عنوانه الواضح الطلاق، سيترك البقالية ويحزم أمتعته ويسافر تاركاً المسألة لريح الزمن،ستبقى ريم معلقة في الفضاء، وسيقبع سجانها في سجن انعدام حبها وفي قفص الزواج يعاني الاثنان صعوبة الانفكاك، اتصل بأخيها عمر قائلاً :
أفكر بالمجيء لأوكرانيا والاستقرار فيها إن أمكن، لم أتأقلم على أجواء بريطانيا رغم أني ولخمس سنوات لم أبرحها، هناك مكان دراستي وقد أمضيت فيها سنين مراهقتي وتنقلي بين أحضان شقراوات روسيا، آه كم أحن لتلك الأيام .
إنه الهروب إذن ؟
ربما-
وماذا عن ريم وبناتك الثلاث، ستبقيهن يتربين دون وجود أب ؟
- لقد تعبت من كل شيء، أود الخلود إلى نفسي وأشياءي، والعودة لذاتي، لتلك الأيام الخوالي، لحياة كنت فيها حراً حتى من نفسي، سئمت الشجار مع امرأة لا أتذكر من فصول حياتي معها سوى الشكوى والتأفف، مؤلم أن تعيش وتنجب من امرأة حلم حياتها أن تنفصل عنك، إنها لا تحبني، ولم تحبني يوماً، تخيل أني ذات يوم أخذتها في نزهة عبر الحقول الروسية الواقعة قرب جبال أورال، راحت تعبر لي عن خوفها مني وخشيتي أن أخنقها هناك، أو أذبحها وأتركها في البراري .
لم تكن سعيدة معي، شعرت أنها تمضي في الاعتناء بالبنات وقضاء جل وقتها في المطالعة، حتى أني حاولت مجاراتها والقراءة مثلها كي أشعرها أني لست فقط بارعاً في التجارة وانما قد أكون مثقفاً لكني لم أصل لمستوى أن تعجب بي، لا حل أمامي سوى العودة لتلك الأماكن التي كنت أجد فيها راحتي .
اشتقت ل-كازان - لنواديها، لزويا، ليف وأليكسي المولعات بحفلات الإثارة المشتركة، لم يكنَّ للإثارة فحسب بمعنى آخر لم يكنّ عاهرات بالمعنى المعتاد، إنما كنَّ بحق أكثر من نساء، كنا يقدمن لي رعونة الشباب، رهافة العشق، كانت للقبلات المنبعثة من شفاهنَّ مذاق الفودكا يلهبن باللمسة فقط سيبيريا الروح ويجعلن البرد، بنظرة منهن لهيباً أبيضاً...
: ظل يستفيض في سرد مواجعه ولم يكن يعرف بغياب المتصل وانقطاع الخط منذ مايقارب الساعة .
ألو..
- .! أأنت معي -لست على الخط وأنا صار لي ساعة أتحدث .
.قال في نفسه : جيد إنك لم تسمع ماكنت أقوله .
ريم بكامل رهافتها دونت شقاء حياتها ببكاءها، بطموحاتها التي توقفت عند المنتصف ، مضيفة الطيران كان أحد أحلامها وبقيت بمستودع الحلم طموحاً أكله الغبار ولم تنه دراستها للأدب الانكليزي، ولم تتمكن من إطفاء نار هواها العابر بشاب تزوج قبل أن تبوح له بما يعتلجها، زوجها نظمي هو ذا الآخر يطوقه الندم، تراه في لحظة شجار وسكر يبوح لريم اعترافاته الداخلية .
- طيف -فارفارا - يلاحقني، مايحدث لي معك هو الجزاء الإلهي الذي أستحقه بجدارة، خذلتها رغم عيشي معها لسنوات، بل طعنتها من الصميم بتخليي عنها .
كانت أعنف عشق في حياتي وأعمق خنجر يغرز بصميم قلبي دون أن يتوقف ذلك القلب عن الخفقان، آه لو تكف الأرض عن الدوران ويعود الزمن للوراء
آه لو أن تلك الليالي التي جمعتني بأنفاسها ما انقضت . لا أدري أأنا من خذلت نفسي أم أن ماحدث كان بفعل تدبير الزمن .
كلما يعم ذلك الشجار المثخن بالاعترافات على وقع قرقعات الكؤوس، ينتشر حريق . في أرواحهما الذاهبتين كل منهما في اقصى اتجاه معاكس .
براكين لا تخمدها مياه المحيطات، وسرعان مايغرق التائهان في حوض الماضي المتكسر، لتخرج من أعماقهما الصارخة أسماك الندم، تسحب أشلاءها على صالة فارهة، بلاط أرضيتها، أشبه بلوحة شطرنج .