أول الكلام:
يوم أمس وأنا على متن سفر في شرق آسيا، قلت في نفسي : قبل أن يحل موعد مغادرة هذه القارة الى مستقري في القارة العجوز، علىّ أن أذهب الى بعض المغاني لأصفّي البال ولأمتع النظر، وهكذا اخترت بارك الملكة سري كيت.. وهو قريب من صومعتي، فهيأت زوادة طعام عراقي وشراب أجنبي بارد جدا، "أخف ما لمّ من زاد أخو سفر" والقول لأبي فرات ..
وصلت محطة المترو التي تحمل اسم الملكة السيامية، وخرجت وفق المؤشر الى البارك، فلم أجد للبارك أثراً، وحيث وجدت ثلاث فتيات احداهما تحمل قيثاراً على ظهرها فسألت عن مبتغاي فقلن : هو مبتغانا أيضا، فمشيت أمامهن بمسافة كي لا أكون شوكة بين أزهار.. فبدأ الطريق يلوح لي واستدرت : فتعالت أصواتهن : لا تستدر ياعم الى الأمام، فتوقفت وأشرت لهن هو ذا الطريق، فسألت العمال، وكان العم هو الصحيح، فاعتذرن بحياء !!
***
فدخلت من البوابة فكان هذا البارك "روضة من رياض الحسن معشبة" بالأزهارمن الأزاليا والجوري والأستر والخزامى والأقاحي ... في في جزيرة كأنها صحن عملاق وسط بحيرة، تصلها قوارب صغيرة للايجار.. بقيت في البر وهو حديقة نباتية متنوعة من أشجار من مختلف القارات ومن العالم كله.. ومجمع رياضي في الهواء الطلق ومسبح... أخذت جولة لأجد أن المكان المناسب المسقوف والأجمل قد خلا إلا من شاب وشابة.. في سقيفة وأمامي الطبيعة البحيرة والعمارات والأبراج الشاهقة.. أم الشباب من الجنسين ففضلوا الجلوس تحت الأشجار لا يكاد يراهم الزائر المتجول بل يسمع همساً، كما قال أبو فرات : كل أُملودة لها أملود !!
جلست أتصفح وأقرأ أخبار العراق والعالم .. فحزنت لاستمرار استهداف المثقفين والمراسلين.. وهو أسهل الطرق الجبانة الشائنة للتخلص من الشبيبة المتوهجة.. ثم دونت بطاقة حمراء وبحروف كبيرة " إن حبل الكذب قصير!" وكنت انتويت أن اسجل من التنزيل فخطر هذا المثل العربي وبقيت عبارة "جاء في التنزيل" حيث انتهى الشحن ولا مصدر لكهرباء لكي أصحح، فتذكرت ذلك الحقوقي النائب الذي استخدم مقولة : العدل أساس الملك" وهي مقولة قديمة من القانون الروماني فجعلها آية من التنزيل الحكيم، فلم أهنأ بجلستي، وانتابني قلق وبعد لأي ذهبت لغرفة الحرس وطلبت لربط الموبايل بالكهرباء لتصحيح العبارة، وكان لي أن صححت بعد ساعة أو اكثرعلى الخطأ.. لأشك أن الكثيرين أدركوا المعنى في البطاقة الحمراء !
فجلست أستريح لأصيب من طعامي ولأمزج شرابي السائغ متذكراً الشاعرالعبقري أبا الوليد البحتري وهو يستقبل المتوكل عند زيارته لدمشق بقصيدة من سبائكه الذهبية :
الليلُ في ظل داريّا إذا برَدا – والراحُ نمزُجها بالماء من بردى
داريّا (*) ضاحية جميلة في غوطة دمشق عُرِفت بأديرتها ومشاريبها، ترى ماذا أبقى الظلاميون منها ؟!
وإذ كنت أدور بين الأشجار حيث دُوِّن تحت كل شجرة مهداة الاسم العلمي للشجرة وسفارة البلد الذي أهداها.. شاهدت عشرات من أشجار المعمورة وجدتني محموماً حتى تبدت لي نخلة أنيقة تشير اللائحة تحتها إنها هدية من سفارة المملكة السعودية، فرحت بها فرحا شديداً فرح طفل بهدية جميلة وأنشدت لعبد الرحمن الداخل :
تبدت لنا وسط الرصافة (**) نخلة – تناءت بأرض "الشرق" عن بلد النخلِ
فقلت شبيهي في التغرب والنوى – وطول التنائي عن بنيّ وعن أهلي
رجعت الى مكاني فوجدت شاباً وشابة في مكانهما .. سلمت ورجعت الى مكاني، كان الشاب وسيماً على خلاف الشابة التي لم يكن لها نصيب من الجمال سوى من شعرها الحريري كبحر المنسرح ..
سألني الشاب بالتايلندية عن بلدي وكم مضى عليّ، وهل أعيش وحدي ؟ فاجبته بأجوبة قصيرة لا تكلفني مشقة اللغة، وقال هل يعجبك طعام بلدنا، قلت له نعم .. فضحك وقال شاهدتك تأكل طعاماً من بلدك، قأدركت هدفه، فقلت لا أطيق التوابل اللاذعة.. وذكرت لها أسماء أكلات أحبها فابتسما وانتهى الكلام، وعندما شاهدت صديقته كيف تعامله بود وكأنه طفل مدلل وأجرت له المساج وراحت أصابعها تمر على رأسه وصدغيه وأذنيه حتى قدميه وتطعمه من حين لأخر بعض الفواكه حتى غاب في غطيط عميق ..
أدركت أن هناك وجه للمرأة جدُّ جميل غير مرئيّ في باطنها يفوق ربما الذي في ظاهرها !!
------
(*) كتاب تاريخ داريا لعبد الرحمن الخولاني الداراني.
(**) الرصافة حي من أحياء قرطبة الأندلسية .
13ك2 -2020