عصا الترحال

2021-07-10

حيث كان العرب في ترحال دائم وفق متطلبات العيش بحثا عن الكلأ والماء، بيد إذا ما طال السفر لضرورة تراه خرج عن روتين الحياة البدوية، فيصبح مجهداً، بسبب طول الطريق والحر الشديد وتقلبات الطقس بين النهار والليل، ورتابة حركة الناقة وتكرار مشهد الصحارى على مرمى البصر فلا سبيل من التأسي بالحداء !، وقد قال العربي المسافر حين ينتهي من رحلته جملة معبّرة : ألقيتُ بعصا التَّرحال، وقال أيضا : أزحتُ وعثاء السفر..

ومع ذلك أحب العرب السفر وقد قال أبو الصعاليك عروة بن الورد :

 ذريني أطوّف في البلاد لعلني – أخلّيكِ أوأُغنيك عن سؤ محضرِ

وقال أحدهم محبذاً السفر والغربة على مقام الذل والهوان :

  • فإِن قيلَ في الأسفارِ ذلٌ ومحنةٌ - وقطعُ الفيافي وارتكابُ الشدائدِ

         فموتُ الفتى خيرٌ له من قيامهِ – بدارِ هوانٍ بين واشٍ وحاسدِ

وقال بن زريق البغدادي :

كأنما هو في حِلٍّ ومرتَحَلٍ – مُوَّكّلٌ بفضاء الله يذرعُهُ

وهكذا تبدو دوافع الترحال متعددة، يدفع ثمنها المهاجر من الحنين وخير من عبّر عن ذلك (عبد الرحمن الداخل) الذي شاهد نخلة في غير أرضها، شاهدها في رُصافة الأندلس فقال :

تبدتْ لنا وسْطَ الرُّصافة نخلةٌ - تناءت بأرض الغرب عن بلد النخلِ
فقلتُ شبيهي في التغرب والنوى - وطول التنائي عن بنيِّ وعن أهلي
نشأتِ بأرض أنت فيها غريبةٌ  - فمِثلُك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتكِ غوادي المُزن من صوبها الذي - يسُحّ ويستمري السماكين بالويل

لا أريد أن أطرق باب الحنين فهو موضوع يشكل جزءاً مهماً من ديوان العرب؛ وشعر القرن الثامن عشر وأغانيه في انكلترا وحتى رواياته مترعة بالحنين والحزن، فقد هاجر أبناء الريف من فقرهم نحو المدينة، فكانت خيبة أمل كبرى وخاصة لعمال المناجم والنسيج، حيث يوم العمل طويل وظروف قاسية والسل ينخر في صدورهم.. لقد صور أنجلز في كتابه عن الطبقة العاملة في انكلترا أحسن تصوير !

تقاعد داعيكم مُبكراً لأسباب خاصة، ما أتاح له أن يُشبع توقه إلى السفر فمنذ أكثر من عشرين سنة طلقت المال والتجارة التي لم أحببها، فقد وفرّ لي بيع محلي التجاري مالا، فلم أشتر عقاراً، أو أكنز ثروةً، وإنما أنفقت غير نادم على السفر في أوربا وأسيا وأمريكا اللاتينية وهكذا كانت تجربتي..

 سحرتني آسيا بجمال طبيعتها وطيبة ناسها وما توفره من أمان وهذا شأن اليابان التي زرتها مرتين ولم أرتو، وكوريا الجنوبية وتايوان لمرتين أيضا، والهند لا أدري كم مرة ! والنيبال لمرتين، وأخترت تايلندا مستقراً لرخصها وجمالها وموقعها الهام، فهي منطلقي إلى ماليزيا وسنغافورة النظيفة الساحرة الباهظة جنوباً؛ أما شمالاً فكمبوديا ولاووس وفيتنام.. وهي بلاد تحمل الإرث الثقافي والتاريخي والبوذي ! في تايلندا تطوعت للعمل وكتبت عن تجربتي في التعليم حيث كنت أنفق من جيبي بكل سرور حين أرى إقبال الصينيين وبعض الأمريكيين ناهيك عن التايلنديين مسلمين وبوذيين على تعلم العربية !

حاولت أن أجعل من تركيا مستقراً فقضيت فيها أشهراً معدودات، وقررت لأسباب لاطائل نت شرحها أن أغادرها.. ورجعت إلى السويد حيث داري التي أطل عليها مرتين في السنة على الأقل.. متأسيا بقول الشاعر (عمرو بن الأرطاءة):

أبت لي عِزّتي وأبى حيائي – وكسبي الحمدَ بالثمن الربيحِ

وإقدامي على المكروه نفسي – وضربي هامة البطل المُشيح

وقولي كلّما جَشَأت وجاشت – مكانُك تُحمدي أَو تستريحي

وحسبي من هذه الأبيات الثلاثةِ الثالثَ منها، فما أردت أن أقطعه من سياقه الآسر.. وهكذا رجعت الى شقتي، وأخرجت كتبي من مخبئها وصرفت وقتا غير قليل، فقد خرجت لي كتب ومظان نأت هي الأخرى عنّي فرحت أتصفحها أقرؤها بنهم .. ثم أرتبها في خزاناتها الثلاث .

نعم رجعت الى أنقى هواء رغم حساسيتي من طلع الأشجار والأزهار، ولم تزرني نزلات الحساسية المؤذية بعد، وأتمتع بأنقى ماء، من الحنفيه بارداً زلالا لا طعم للبلاستيك فيه كما هو شأن المعبّأ في القناني !

سأستقر بهذا البلد الأمين (نسبيا)، حيث بلد الوفرة (الغالية) وبلد المواصلات المريحة، وبلد العناية الصحية.. العمال منهمكون في صيانة الطرق في الصيف وتزيين الحدائق.. مررت أمس على عامل يقطع الآس في الحديقة في بمحاذاة الطريق الذي أسلكه كل يوم، وجدته مستعدا للتحية والكلام، فحييته فرد التحية بأحسن منها وقلت : عملك متقن وجميل يدل على مهارة وذوق فنيّ، ففرح وشكرني..

في الصيف المزاج في السويد يكون رائقاً، وحيث تلتقي الناس تجدهم منفتحين للحديث بخلاف الشتاء، حيث لا ينبس السويدي إلّا بكلمة أو اثنتين وغالبا ما تكون تحية واستياء من الجو! على أننا لم نستمتع بجو صيفي حقيقي لحد الآن وقد عبرنا منتصف الصيف بأسبوعين إلّا من أيام صيفية قليلة ..

ولا بأس أن يأتي الخريف حيث ستتلون الطبيعة بألوان أجملها الناري، ولعل هذا هو السر الذي جعل الموسيقار الإيطالي فيفالدي في فصوله الأربعة أن يبدع بالخريف ويجعله الأجمل.. وكان صيفه هو الأقل جمالا بسبب نوبات حساسية الصدر التي تضيّق عليه نَفَسه، ولله في خلقه شؤون وشجون !

التاسع من تموز 2021

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved