أول الكلام :
يوم أمس، وقد مالت الشمس نحو الغروب في شارع الورود، وقفت تحت شجرة أتأمّلُها بحثاً عن ثمارها الحلوة العبقة، فلاح لي عُش عصافير محكم الصنعة كأنه سلّة صغيرة، اقتربت منها هامساً : أتسمحين لي أيتها العصافير أن أبيت ليلة معكم في عشكم الجميل لأرى كيف تعيش العصافير ؟! فأوجستْ خِيفة وطارت فزِعةَ ولسان حالها يقول : لا أمان منكم معشر البشر!!
***
أروي لكم ذكريات من ذاكرتي لكنها ليست لي، طالعتها وسمعتها وأكثرها أستقر في خاطري، ومنها ما لممته من الشابكة العنكبوتية مما تفرق من ذكريات دونها أصحابها أو من رواها عنهم.. ولكن أجملها ما رواه الدكتور عبد الواحد لؤلؤة في كتابيه " النفخ في الرماد" و "الصوت والصدى"، وجدت أن أرويها لعلها تلطِّف زمناً موحشاً بعض التلطيف، هذا الذي تكمن في طياته جائحة وبائية ناهيك عن جوائح الفساد والنهب والعسف مما ابتلي به شعبنا .. فىمعذرة إن تطفلت على زمن غير زمني وذكريات ليست لي ضمن سلسلة كتبتها عمّاعشته من ذكريات : زمان يا زمان !
كانت دار المعلمين العالية في نهاية الأربعينات وما قبلها وما بعدها في الخمسينيات والستينيات لا تشبه بقية الكليات والمعاهد العالية.. فهي عالية حقاً في مستواها، تمور بنشاط ديناميكي لا يعرف الإستكانة، في الشعر كأنها سوق عكاظ، تستقطب المواهب الشعرية حتى من الكليات الأخرى مثل كلية الآداب والعلوم، وبرز فيها شعراء وشواعر مرموقون سيحلّقون نجوماً ساطعة في سماء الشعر.. منهم بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة ولميعة عباس عمارة وقريبها الأدنى عبد الرزاق عبد الواحد (وكلاهما يكتب القريض والشعبي) وعبد الواحد لؤلؤة وسعدي يوسف وشاذل طاقة ويوسف الصائغ وفائز الزبيدي.. ومن السوريين أبرزهم سليمان العيسى.. وفيها نشاط تشكيلي يشرف عليه رسامون لامعون من وزن جواد سليم والفنان حافظ الدروبي.. الذين أقاموا عدة معارض للطلبة.. وفرقة مسرحية أذكر من نشطائها نور الدين فارس.. ومسابقات للقصة القصيرة.. أما عن نشاطها السياسي فهي قلعة لليسار وبؤرة مضيئة للحزب الشيوعي العراقي .. وقد حازت قائمة الشيوعيين في انتحابات الطلبة في 67-1968 على 78% لصالح الشيوعيين ! لهذا حاول البعثيون إلغاءها وأصبحت "كلية التربية الملغاة" وأُلحِق الشق العلمي بالعلوم والأدبي بالآداب!!
كانت أجواء الكلية يومذاك، وأعني النصف الثاني من الأربعينات، الغلبة المطلقة للذكور وحظ الطالبات هو الأقل، والعلاقة محافظة معظم الطالبات يتلفعن بالعباءة التي تُزاح عند الدخول إلى الكلية، وفي الإستراحات البينية يكون مأوى الطالبات في غرفة الطالبات أما الطلاب فهم في باحة الكلية وحدائقها وناديها ومن النادر أن تجد طالباً وطالبة معاً منفرديْن ! العلاقة لاتتعدى تحية الصباح وجمل قصيرة يتبادلها الطلبة ! هذا ماروته الأستاذة الفاضلة "أنيسة" في اجتماع تروبوي جمعني معها سنة 1976، وسردت لي وصف الحياة الجامعية حيث وصفت لميعة عباس عمارة أنها كانت تختلط كثيراً - منذ التحاقها بالكلية - بالشعراء وتنشط معهم وقلما تأتي غرفة الطالبات، وقالت عنها أنها لم تكن على قسط وافر من الجمال وإنما كانت خفيفة الظل ومتحدثة لبقة وتلقي الشعر بطلاقة وصوت متأنٍ جميل ! وقالت هي الآن أجمل مما كانت عليه بفعل المساحيق التي قلما تجد طالبة تستخدمها ذلك الوقت !..
وكان الطالب الذي يأتي من الأوساط المحافظة يتصورفي مثل هذه الأحوال أو يعوّل ويؤول ما تجترحه الزميلة على أنه حب، وخير من عبّر عن هذه الحالة السياب نفسه في قصيدته المتسائلة الحيرى " هل كان حبّا ؟"! يمكن مراجعة لكاتب هذه السطور القسم الأول من "بين تائيتين"..
عندما التحقت الشابة لميعة بدار المعلمين العالية، في السنة الأولى قسم الأدب العربي، كان السياب في السنة الثالثة من قسم الأدب الإنكليزي، وسرعان ما لفتت لميعة الطلبة بسبب انفتاحها الإجتماعي على زملائها وتعاطيها الشعر.. فسرعان ما انعقدت الصداقة مع الشاعر المرهف البصري بدر شاكر السياب، الذي اشتهر بكونه من المبرزين من الشعراء، حيث طبع للتو "ديوان شعر" الذي أصابه بشيء من الإزدواجية المقلقة، فالطالبات يعجبن بشعره ولايرين في شخصه شاعريته ولا ثقافته ولا جمال إلقائه المُمسرَح للشعر وقد عبّر السياب عن حالته هذه حين يقول :
ديوان شعر ملؤه الغزل – بين العذارى راح ينتقل
الى أن يبث لوعته في :
ياليتني أصبحت ديواني – لأفِرَ من صدر الى ثان
قد بتُّ من حسدٍ أقول له – ياليت من تهواك تهواني
وقد وجد السياب ضالته بالشاعرة لميعة بمثل ما وجدت ضالتها به، فهو أسنّ منها ب ثلاث أو أربع سنوات، وأخصب مخيلة، وأثرى لغة، وأطول نفساً، وأوسع ثقافة، تكتب له بيتا فيجيبها بقصيدة، ولا شك أنه كان يقوّم من قصائدها وقد يصلح حال بعض ما اعتراها من ركّة في شعرها في هذا البيت أو ذاك.. بل أحسب أن الشاعرة قد هجس في خاطرها حبٌ من جانبه فلم تصدَّه إنما كانت لينة ودودة معه تطمح أن يقول فيها شعراً يخصها به ويسميه باسمها، لقد توثقت العلاقة إلى درجة أنها استجابت لدعوة زيارة لأبي الخصيب، ولقريته جيكور بصحبة خالها، وباتا كضيفين عنده وفرحت بأجواء القرية وبساتينها، وشاء لها أن مدت بعضاً من ساقيها في نهر بويب عابثة مبتهجة بأجواء القرية !
وتذكر أنها خصته بقصيدة "شهرزاد" وهي في السنة الثانية والسياب في السنة الرابعة، وقد أجاب على كل بيت ومقطع بشاعرية مذهلة..
لم تكن لميعة قد دخلت قلب السيّاب وحده بل غيره أيضاً حتى أن طالباً سوريا يتعاطى الشعر كان يحتج على لميعة حين تمر ولا تلقي عليه تحية الصباح فيُسمعها ما يبهجها وتتظاهر بعدم الاكتراث؛ معذرة لا أتذكر صدر البيت الثاني :
ماذا جرى لك يا لميعه؟ – حتى انتهيت الى قطيعه
( رفقا بحالي.........) – فإن عاطفتي فظيعه
لو عُدّتِ الغيدُ الحسان – لكنتِ دوماً في الطليعة !
وحيث كان يقام في نهاية كل عام دراسي مهرجان شعري، يساهم فيه الطلية الشعراء والشواعر، فلا بدّ أن أنقل لكم ما ذاع يومها من قصيدة منسابة صادقة الأحاسيس من الشاعر السوري سليمان العيسى وهو يودع الكلية بعد تخرجه عام 1947هو والشاعرة نازك الملائكة وقد ظل هذا الشاعر يحن لبغداد وأيام الدراسة فيها ورأيته بنفسه في عام 1969 في دعوة لمهرجان شعري يزور الكلية ووقف قرب الحديقة الكبيرة يرتشف الشاي من كشك الشاي وفي عينيه دمعة :
سليني وقد أوفى على السفر الرَّكبُ – أعام مضى يا دار أم حلُمٌ عذبُ
تفقدتُ قلبي للوداعِ فتمتمت – يداي على صدري ... وأين لكَ القلبُ
وعودة الى لميعة وقصة اللوحة التي ذكرها جبرا إبراهيم جبراعن حياته في العراق، والتي ذكرتها بشكل مفصل الروائية إنعام كججي؛ أن لميعة جلست في مرسم أستاذ الرسم الفنان جواد سليم في دار المعلمين العالية ليرسم لها بورتريه زيتي، فجلست رابطة الجأش وقالت له : اعتنِ يا أستاذ، غداً سيقولون هذا هو الفنان الذي رسم الشاعرة لميعة». وردّ عليها : «بل سيقولون هذه هي الشاعرة التي رسمها جواد سليم» .
ولجبرا فضل كبير على الشعراء العراقيين في نقل الشعر الإنكليزي ونقده بما في ذلك "الأرض اليباب" حيث كان يُعير السياب كتبه ويتطوع لتوضيح ما قد يشكل لهم في قراءتهم الصعبة.. يراجع "النار والجوهر" لجبرا في فصل عن السياب..
هذا أهم ما خطر على خاطري مختصِراً الموضوع كي لا يمل الأصدقاء..
بانغكوك في الخامس من أيلول/ سبتمبر 2020