قال الشاعر الكفيف بشار بن برد :
من راقب الناسَ لم يظفرْ بحاجته – وفاز بالطيبات الفاتك اللهِجُ
أرجو ألا يظنن الصديق الكريم وهو يقرأ عنوان الفرزة أن يخطر بباله قول أشبه بالمثل السائر: من راقب الناس مات همّاً..
أرقبهم أقرأ سماتهم وربما أجعلهم يبتسمون في بلد تعتبر الإبتسامة فيه فرض عين !
مرة كنت أقف في المطار منتظراً سمة الدخول فقرأت لائحة تقول : أهلا بك في بلد الإبتسامة ! قدمت جوازي للشرطية الشابة التي أدت واجبها وكانت عابسة، فأضمرت لها قولاً بعد حصولي على سمة الدخول، قلت لها أتسمحين سيدتي لي بسؤال قصير.. هزت رأسها بالإيجاب : هل قرأتِ اللائحة ؟ فندّت منها ابتسامة عريضة وقالت : نعم، فقلت لها لمّ لا تبتسمين ؟! فانطلقت منها قهقهة : وقالت حصلتَ على ابتسامة وضحكة.. واستأنفت : عملت طيلة الليل وقد أخذ مني الجهد والسهر مأخذه، بعد ربع ساعة ينتهي عملي !!
جاءت الحافلة الزرقاء ذات التكييف تتهادى، وبقيت واقفاً والطريق يستغرق ساعة أو أكثر، هناك فرغ مقعد جنب كاهن متلفع بالرداء البرتقالي فلم أبادر بالجلوس تأدباً قالت لي سيدة : تفضل تذكرت أن لا يُسمح بجلوس السيدات في المقعد المجاور لمقعد الكاهن.. جلست واحتضنت حقيبتي.. فوجئت بالكاهن يميل نحوي ويقول : أهلا بك، فحييته متفاجئاً، فالكهنة لا يبادرون بالكلام قط ! شكرته باحترام وخاطبته بلقب "فرا".. وابتدأ الكلام بصوت خفيض عن فايروس الكرونا ! وكان سؤاله لمّ لا تضع الكمام، فقلت : لا فائدة كبرى تُرتجى لأن الفيروس لاينتقل بالهواء إلّا إذا تُنشِق هواء به رذاذ عطس أو سعل من المصاب أو حامل الفايروس.. فسألته : وأنا لا أرى "الفرا" يضعه ؟ فأجاب جواب الواثق : نحن معشر الكهنة لا نخافُ الموتَ بل نعتبره راحة أبدية ..
وتشعب الحديث معه وكان ممتعا للغاية سألني عن الإسلام وعن الفرق بين الشيعة والسنة، فرددت مختصراً كالفرق بين مذهبي البوذية هنايان و مهايان.. وشرحت بإيجاز أن كل الأديان وإن اختلفت مسمياتها تهدف إلى غاية واحدة وهي تحرير الإنسان من العدوانية والكذب والحقد وإيذاء الغير وتحث على المحبة والسلام، ومضينا في الحديث نحو ساعة وبعض الساعة حتى لاحت المحطة ببنائها العتيد، وقال سجل اسمي وتلفوني حتى نكمل الحديث انحنيت له مودعا !!
***
القطار ينطلق من بانغكوك على الساعة الثالثة بعد الظهر وينتهي في سنغافورة، هو "قطار الشرق السريع" سيقطع سبع عشرة ساعة حتى الحدود الماليزية حينها سأركب القطار الماليزي الى بتروورث لنحو ساعتين، وسأعبر بالباخرة لمدة 17 دقيقة حتى جزيرة بينانغ الساحرة.. حيث حجزت في أوتيل ملائم وسط مدينة جورج تاون ..
جلست في مقعدي ونصبت منضدة وضعت عليها مشروبي ومأكلي، القطار يحتوي على منامات تنصب من المقاعد، السرير الأسفل أغلى وأعرض وأمامك شباك يتيح مشاهدة المناظر الخلابة وخاصة الغسق والشفق.. تنصب الأسرّة، والأفرشة والأغطية الناصعة البياض مغلفة تغليفاً لحفظها.. تفض الأغلفة فتنبعث رائحة طيبة..
في العربة كنا أربعة أجانب اثنان من بريطانيا وأنا وراكب ياباني.. والباقي تايلنديون..كان الياباني لايمثل الصورة النمطية للشخصية اليابانية، فهو كثير اللغو، لا يقر له قرار، يتنقل بين المقاعد وجلس في مقعد غيره ليربط تلفونه وعبوته بنبعي الكهرباء، حيث احتكرهما، يحمل معه حقيبتين أحداهما ظهرية تنفرها العين، ويحمل أكياساً وترموس ماء مثلج يشرب منه بدون كأس حتى اندلق الماء والثلج على المقعد والأرضية.. جاءه المفتش وأخبره أنه يشغل مقعد غيره، قال : سامحني لأشحن التلفون !! ثم جاءت شابة تايلندية معها حقيبة فلم يتحرك وظلت حاجياته مبعثرة.. فنظرت لي معبرة عن استيائها.. كلمها بالتايلندية راجيا أن تصبر عليه.. فردت عليه : أريد أن ارتاح بمقعدي، ثم مرّ مفتش وقال له : اجلس لطفا في مقعدك.. وجاء المنظف ينشف المقعد، فأخرجت التايلندية كتبها وراحت تحل مسائل من كتاب " كولج فيزكس"، الذي درست فيه قبل خمس وأربعين سنة !
القطار يزدحم بالباعة حيث لكل منطقة أطباقها الشائعة، بيتشبوري مشهورة بلذائذها وحلوياتها عمادها ثلاثة جوز الهند والأناناس وطعام البتاي.. وحجاي مشهورة بأفخاذ الدجاج، والعصائر.. وهناك مطعم جيد في القطار، كان يقدم المشروبات الروحية، منعت قبل ثلاث سنوات !
على السابعة نظمت الأفرشة وأصبحت المقاعد أسرّة، حيث أصبحت في النهاية مخادع، الكامرات نصبت حديثاً على الممرات، الشباب من السائحين يختلطون في مخدع !! أما في القطار الماليزي فهنا لائحة لصور المنع .. من طعام وشراب ومنع التدخين ورمي الأوساخ ولكن المنع الملفت هو منع القُبل !!
كان الأنكليز وهم رجل وزوجته في أواسط العمر غاية في التهذيب تبادلنا كلاما قصيراً للمجاملة، وكانا منزعجين من تصرف الياباني، .. يعمد قاطعوا التذاكر اليابانيون أن يجمّعوا السائحين في مقاعد متقاربة ! لم يكن عدد السائحين في كل القطار يتجاوز اليد الواحدة ! في الرجوع من ماليزيا كان مجموعنا ثلاثة ! وقدأصاب السياحة ضرر كبير، المطاعم فارغة والفنادق خفضت أسعارها.. كل هذا بسبب الخوف من فايروس كرونا!! في الظروف العادية كان عدد السائحين يصل مائة وخمسين سائحاً في القطار الواحد !
كان متعهد المطعم يلف على الناس ولم أجده قد باع شيئاً.. في الصباح رفع سعر القهوة من 10 بات الى 30 بات، ليعوض عن خسارته !! كنت أتيت بالطعام معي من البيت طبخته بنفسي وهذا أمر اعتدت عليه.. وبالرجوع اشتري اطباق السمك من ماليزيا.. تفاديا لمشاكل في غنى عنها..
في بينانغ التي كان آخر عهدي بها العام الماضي، هناك ازدياد بالمطاعم السورية التي اكتسحت المطاعم الصينية والهندية والماليزية.. مطعم الشام ومطعم حلب ومطعم عربة فلافل.. الأقبال عليها مذهل من قبل الماليزيين والسائحين.. فهي نظيفة وأنيقة ومعتدلة السعر ..
أما في الساحل فهناك مطعم الباشا ذو الأسعار الغالية وأكثر رواده من عرب الخليج ..
شيء مفرح أن يتبوأ العرب مكانة في الطعام حين ينعدم المكان في الصناعة والتجارة سوى بيع البترول؛ فالبطون العربية مشهورة بالكبسة الخليجية !! .وقيل أن معظم طباخي الكبسة هم من الهنود والباكستانيين واللبنانيين فلم تعد الكبسة خليجية !! تماماً مثل اليشماغ والغترة والدشداشة والعُقُل والنعل أصبحت تصنع في الصين بل أن صناعة فوانيس رمضان أصبحت تصنع في الصين وتصدر لمصر أم الدنيا !
جورج تاون في 14/آذار 2020