للكاتبة: د. نادية هناوي
ليس من تجنٍ على النسوية العربية إذا قلنا إنها بلا تنظير فكري واضح وناجز على مختلف مستويات الإبداع .
ليظل درسنا النسوي ثقافة وأدباً ونقداً بلا تأسيس يوصف بأنه عربي ولا اتفاق يتوحد في فرضياته المبدئية ومحصلاته الإجرائية. وما دام المسار العام لأي دراسة نسوية يظل تنميطيا، فيه المرأة العربية قابعة في الحال نفسه بلا تقدم واضح فلن نجد ما يشير إلى عكس ما تقدم .
وهو بالضبط ما تريده المنظومة الثقافية الذكورية المتسلطة بطريقة بها تريد أن تقوقع النسوية العربية في المربع نفسه على وفق اعتبارات محددة، غير سامحة لها أن تتعدى الشعارات الجاهزة ولا أن تخوض في ما هو تجريبي أو مغامر كي تستمر مرتكنة إلى ما هو معتاد وأغلبه إعلامي، كي لا ينفتح أي مجال أمام النسوية للتحرر أو الاستقلالية .
وبالرغم من قساوة هذا الوضع؛ فإن المنظومة الثقافية لا ترى فيه أية إهانة للنسوية؛ بل تراه من أخلاقيات التعامل مع النسوية كميدان من ميادين الحياة التي ينبغي أن تظل فيها الذكورية هي المتحكمة في النسوية. ومن ثم لا اعتراف تظهره هذه المنظومة لأي مشروع نسوي إلا وهو في تطبيقاته الأدبية أو الثقافية محصور في حدود الترويج الإعلامي والتمظهر الذي يصور السطوح مبتعداً كل البعد عن العمق .
وبسبب هذا التحكم تمَّ تفريغ النسوية من محتواها الفكري، الأمر الذي لم يعد معه ممكنا تجريد واقع المرأة العربية تجريدا يضع بين أيدينا طرائق معينة للتنظير الفكري.
وما بين تفريغ المضامين والعجز عن التشكيل مسافة ثقافية كبيرة وشاسعة تفصل بين الإنتاج النظري الغربي والعوز العربي إلى استهلاك ذلك الإنتاج . وأغلب ما نعتمده من مفاهيم وآليات وكيفيات وتنويعات عائد إلى التنظير الغربي . وما دام للغرب تجاربه المختلفة عن تجاربنا حوى درسنا النسوي العربي قدراً كبيراً من التضاد والتداخل والتناظر والتلاقي والتقاطع والتوازي والتعاكس والتشاكل. ومن ثم لا حراجة أن نحن درسنا الرواية النسوية بناء على تجريدات تنظيرية مستخلصة من الرواية النسوية الغربية كما لا تثريب أو مؤاخذة في دراسة النوع الاجتماعي ترابطاً واستجابة ونحن ننأى عن واقعنا العربي واضعين ثقتنا في فكر الآخر الغربي .
ولكن كيف لنا أن نطمئن إلى تنظيرات ذات مفاهيم تجريدية حول اللغة والطبقة والجنس والهوية والعرق كانت قد استخلصت من استقراء واقع نسوي مختلف عن واقعنا لنعتمده من ثم في دراسة واقعنا النسوي بشكل جاهز واوتوماتيكي مخالفين القاعدة المعرفية التي تقول إن الكليات لا تستحصل إلا من التفصيلات، وأن دراسة الجزئيات هي التي تفضي بنا الى التعميمات التي تضعنا أمام ظواهر واستنتاجات مؤكدة ودقيقة ؟!.
لا شك في أن أي تنظير لا يتحقق ما لم ينطلق من واقع عياني وبخلافه سيكون ذلك التنظير ضربا من الوهم والعجز وشكلا من أشكال البطر والخواء. ولو عدنا إلى أقدم نظرية وضعها الإنسان في تاريخه لوجدنا أنها انطلقت من واقع عياني مشاهد ومعيش وحقيقي، وعليه بنى الإنسان تجريداته. وهل كان لأرسطو مثلاً أن يضع نظرية في فن الشعر عموماً والشعر المسرحي تحديداً لو لم يكن الواقع الذي عاشه مزدهراً بالمسرحيات الشعرية التي بلغت في زمانه أوج نضجها وكانت متضمنة من التفصيلات ما مكن أرسطو من أن يتأملها ليقوم بتجريدها في شكل نظرية تجتمع فيها كليات ما زالت إلى اليوم موضع اهتمام المنظرين والنقاد ؟
ومن ثم خلد الإبداع المسرحي اليوناني بالفكر الأرسطي الذي أشّر على واقع بلغ من النضج والشهرة مبلغا لم ينافسه عليه أي إبداع آخر في العالم القديم .
وإذا قلنا إن أي تنظير لابد أن يكون متمخضاً عن تجريد الواقع؛ فإن هذا التجريد لا يعني الاستقلال عن ذلك الواقع أو الانفصال التام عنه. وإلا ما فائدة النظر في الواقع وتأمله إن كان هذا النظر غير عائد بالفائدة على تطوير الواقع أو تصحيحه والارتقاء به ؟
وما من نظام من أنظمة أي مجتمع من المجتمعات إلا هو حصيلة واقع معيش فيه الذكورية هي المهيمنة هيمنة لا مجال للانزلاق عنها أو الانحراف عن نهجها لاسيما إذا كان من يريد الانزلاق لا يملك نظاماً قائماً بذاته وليس لديه ما يؤهله للانتظام كالنسوية مثلاً .
ولا غرابة في أن يكون وضع منظور عربي للعلاقة الثنائية بين الرجل والمرأة في مجتمعنا، متطلبا الانطلاق من واقع عملي يتحدد فيه موقع الذكر من الأنثى بشكل حقيقي لا افتراضي وبجينالوجية ليس فيها تشويه كأن تجعل النسوية مسترجلة أو تُظهر الذكورية مستضعَفة .
وما دمنا نفتقر إلى تنظير يجسد حقيقة الواقع؛ فإن مثل هذا التشويه حاصل حتما، لاسيما أن الاستنتاج عندنا يسبق الاستقراء وأن التحصيل هو الذي يفضي بنا إلى التفاصيل .
وهو للأسف ما يسم درسنا النسوي الذي يبدو اليوم مشوها أو محكوما عليه بالتجزيئية واللااكتمال إن لم نقل الفشل بسبب هذا التداخل بين نظر نسوي غربي وتطبيق إبداعي عربي .
وللتمثيل على هذه الرؤية المعيارية في تلاقي النظر بالواقع والواقع بالنظر كمشروع لبناء نظرية نسوية عربية؛ نتناول ما قامت به ثلاث محررات غربيات هن ليزا سهير مجج وبولا سندرمان وتريزا صليبا في كتابهن المشترك( تقاطعات: الأمة والمجتمع والجنس روايات النساء العربيات ) بترجمة فيصل بن خضراء والصادر عن المشروع القومي للترجمة في مصر .
وعلى الرغم من اندفاعهن الواضح في مناصرة الأدب النسوي العربي؛ فأنهن كغيرهن ممن درس النسوية العربية وقعن في مشكل التنظير الجاهز الذي لا يبدأ من الواقع بل ينتهي إليه. فكان اهتمامهن بالمرأة العربية منطلقاً من اهتمام الغرب بهذه المرأة بوصفها الوسيلة التي بها يصل إلى أغراض هي بالنسبة إليه أهم من موضوعة النسوية.
وغدا ما كتبنه وحررنه من دراسات لناقدات أخريات واقعا تحت تأثير التنظير الغربي وهن يبحثن عن واقع عربي مطمور وخفي، من دون أي تعمق يُذكر أو استقراء دقيق في النصوص الأدبية العربية وما فيها من موضوعات الاستعمار والنضال ضده والتصورات ما بعد الاستعمارية للعنف والاضطهاد والقمع والحروب والتغيير الاجتماعي.
وبسبب هذا البون بين النظر والتطبيق افتقر الكتاب موضع الرصد إلى تنظير أصيل لا يتضاد مع المتحقق على أرض الواقع النسوي ومن ثم بدت( التقاطعات) أمراً طبيعياً لا على مستوى مضمون الكتاب حسب وإنما أيضاً على مستوى إعداده وترتيبه، ومن ذلك اقتصار الباحثات في مصادرهن على أبحاث ونصوص نسوية أدبية مترجمة إلى الانجليزية كتبتها ناقدات وأديبات عربيات متقاطعات مع الأدب النسوي غير المترجم. ومن التقاطعات أيضاً خروجهن عن دائرة السرد الروائي إلى الشعر واهتمامهن بالحركة الحقوقية للمرأة على حساب الحركة الإبداعية التي في تتبعها جوانب مهمة تتعلق بموقع الأدب النسوي الذي هو بلا تقاليد من الأدب العربي الذكوري الذي هو راسخ التقاليد.
ولم يخل عرضهن في المقدمة من نوايا مبيتة كإشارتهن الى العلاقة بين عبودية المرأة والاسلام مع أن هذه العبودية عرفتها المرأة على طول تاريخها في شرق العالم وغربه وعلى اختلاف الاديان والمعتقدات والمذاهب أو توكيدهن أن ما كتبته الناقدات الغربيات عن الادب النسوي العربي ومنهن مارغوت بدران وميريام كوك هو وحده الذي فتح الآفاق للنسوية العربية لتكون على مسار يخالف التصور الشائع المتعلق بالجنس ومن ثم صار هدف كتابهن هو "تحدي الاستطلاعات التبسيطية لحياة النساء العربيات والتي تضفي على الجنس ميزة تبز كل فئات التحليل الأخرى" ص10.
ولا يخفى ما في الكتاب من انتقاء مقصود لأديبات وناقدات عربيات يتناقض أصلاً مع فرضيتهن في البحث عن تأثر الأدب النسوي بالثقافة الفرنسية وما حمله الاستعمار الفرنسي من رسالة تمدينية على رأيهن و(تذويبية على رأينا) وما تركه الاحتلال والانتداب البريطانيين من أثر على بواكير النهضة النسوية العربية.
كذلك اقتصار دراستهن على بلدان مصر ولبنان والجزائر وفلسطين حتى أن القسم الثاني والثالث من الكتاب كان مخصصاً للروائيات سحر خليفة ولبانة بدر وهدى بركات وحنان الشيخ وايتيل عدنان وكاتبة جزائرية هي أسيا جبار، مع تجاف غير مبرر للأديبات السوريات اللائي لهن حضور غربي كالفة الادلبي وكوليت خوري كما لم يرد أي ذكر للروائيات العراقيات باستثناء نازك الملائكة التي تناولها بحث سلمى خضراء الجيوسي مع أن الملائكة ليست روائية ولا هي تنتمي الى التجارب النسوية المبكرة التي اختارها الناقدة (مي زيادة ونظيرة زين الدين ودرية شفيق).
وإذا كانت الجيوسي قد أولت اهتماماً لمقالات نازك الملائكة التي شخّصت واقعاً متخلفاً ومتشرذما وسلبيا تعيشه المرأة العربية منتصف القرن العشرين؛ فإن ذلك لم يمنع الجيوسي من الانحياز الواضح إلى فدوى طوقان التي شبهت تجربتها بالملائكة وحجتها" الإنجاز الأصيل لفدوى وهو في حدود معرفتي أمر لم يلحظه أي ناقد كان يكمن في التغيير المحسوس الذي أدخلته على نبرة الشعر العربي والصوت الحميم الأنثوي بالمطلق الذي خاطبت به عالمها الشخصي" ص48
وهذا بالطبع كلام غير موضوعي لأن ما قامت به الملائكة ـ وهي التي امتلكت تجربة نقدية متقدمة على زمانها ـ ظل خاصا بها وحدها لا تشاركها فيه اية شاعرة. أما ما رأته الجيوسي من ان تداول اسمي الملائكة وفدوى معا في اواسط الخمسينيات فلا يعطيها الحق في عقد الصلة بين مشروع الملائكة في تحديث الحركة الشعرية وبين فدوى في التعبير عن الاحتلال الاسرائيلي او في امتلاك نبرة انثوية في التعبير عن المعاناة الشخصية في مخيمات اللجوء والهجرة. أما ميلان الجيوسي إلى ليلى بعلبكي فظهر في قولها إنها ( انقذت السرد النسوي من الحب الميلودرامي وقصص الغرام الموهومة) وفاتها أن القاصة العراقية سافرة جميل حافظ فعلت ذلك مطلع خمسينيات القرن العشرين في مجموعتها الاولى (دمى واطفال).
أما ما انتهت اليه الجيوسي من أن ( النساء بدون تقاليد نسوية) وأن المبدعات الأربع اللائي تتبعتهن (كن يخضن معركة صامتة ولكن بتصميم على جهات عدة ) ص28 فطبيعي باستثناء الملائكة التي ما كانت صامتة بل رفعت صوتها مدوياً وتثويرياً وهي تضع الشعر العربي على طريق الحداثة والتجديد..ومن جانب آخر نتساءل كيف تكون للأدب النسوي تقاليد والنسوة العربيات اللائي درستهن الناقدة الجيوسي يمثلن بواكير النهضة النسوية في العصر الحديث ومن ثم هن أبعد ما يكن عن تدشين أساسات أدب نسوي أو إقامة لحمة مع الإرث الماضي؟ !!
أما النزعة الاستعراضية فتبدو واضحة في ما قدمته الناقدة آمال عميرة عن نوال السعداوي وأول تميز تظهره لها هو ترجمة مؤلفاتها الى اللغة الانجليزية ومنها كتابها الوجه العاري للمرأة العربية 1977 ثم روايتها امرأة عند نقطة الصفر 1983 ثم المسرد السيري الطويل للسعداوي الذي كشف لنا عن فرص مهمة نالتها هذه الكاتبة على المستويين الشخصي والعام.. ولا أدري هل تنتصر الناقدة بهذا المسرد لنسوية السعداوي أم أنها تشكك في حقيقة توجهات السعداوي النسوية ؟ وقد نقلت الناقدة عن ادوارد سعيد تشكيكه فيما حظيت به السعداوي من الاستقبال الغربي لكتاباتها وكيف انها تعرضت للأضواء أكثر مما يجب كناشطة نسوية( مضطهدة ) وكذلك ما بينه جورج طرابيشي من أن الطابع الجنسي في رواياتها يعادي المرأة ويتعارض مع تصريحات السعداوي بتحرير المرأة الى جانب ما أخذه عليها صبري حافظ من اختلاط الخيال بالحقيقة.
وإذا أضفنا إلى هاتين الناقدتين ماجدة النويهي وماري ليون وما كتبتاه عن الروائيتين المصريتين سلوى بكر وأندريه شديد فان الذي نصل اليه واحد وهو ان هناك تلاقيا وليس تقاطعا بين هؤلاء الناقدات في النظر الى الأدب النسوي والتعبير عنه من وجهة نظر غربية لا ترى في النسوية العربية واقعا وأنما تاريخا، تسود فيه ثنائيات المحلي/ القومي والحرية / الالتزام والاضطهاد الجنسي / الكفاح السياسي على الصعد الفكرية والادبية والثقافية .
واذا انتقلنا الى القسم الثاني للكتاب فسنجده مخصصا لدراسة الرواية تحت عنوان( الشعب والرواية) والمفروض أن يكون المجتمع وليس الشعب وذلك بالعودة إلى العنوان الرئيس الذي فيه قدم المترجم كلمة الأمة على المجتمع والجنس.
وما نريد الوصول إليه من وراء التمثيل بهذا الكتاب هو أن لا سبيل للنسوية العربية لأن تمتلك نظريتها الخاصة المنطلقة من صميم واقعها سوى سبيل التعميم الذي فيه تغادر النسوية الحصر والتحديد والتقييد، ظاهرةً الى السطح وممتدةً في العمق غير متخصصة في مجال دون مجال وهو ما كنا قد عبرنا عنه بمفهوم اجترحناه هو((النسوية العمومية) .
|