أول الكلام:
إنه الموت فاستعد وترجّلْ - فالمنايا وعودها لا تؤجَّلْ
كلُّ حيٍّ بكأسها سوف يُسقى - وبذاتِ الشرابِ حتماً سينهل
لا بطول السنين أرجو حياتي - أرذل العمر حين يصبح أطولْ
فدعوني أمضي وكلي يقينٌ - أعزلاً جئتُها وغادرت أعزلْ
في هذا الزمن المميت حيث يحلق شبح الموت قريباً منّا ككف عفريت لا يعرف المرء في أي لحظة يُطبق كفه ليعتصرَ الجسم وليُزهق الروح، جاءتني هذه الأبيات الأربعة الرائعة، تصف حالنا من الشاعرة الهامة وئام ملا سلمان ..
وبيتها الأخير في عجزه الذي هو يجسد المبدأ البلاغي في حسن الختام يذكرني بقصة علي آل صويح، وهو يُحتضَر أوصى ابنه حسين وابنته الشاعرة الذائعة فدعة أن يُمرروا جِنازته على مضيف حمد آل حمود شيخ الخزاعل الذي كانت لعلي معه جفوة، وأن يخرجوا كفه من التابوت مفتوحة.. واستغرب الناس من هذا المشهد الذي أدركه الشيخ حمد فقال: أبا حسين تنصحني وأنت ميت !!
أترك المغزى الفلسفي للأصدقاء..
***
ما أردت أن أعطف كلمة "العضوي" للمثقف الذي صاغة المفكر الإيطالي الماركسي الثوري أنتونيو غرامشي ( 1891 – 1937)، فقد منح نسغاً جديداً للثقافة والمثقفين من نخبة الانتلجنسيا التي أدانها بقوله : أنا متشائم من الثقافة (النخبوية) متفائل بالإرادة.. جاء ذلك في"دفاتر السجن" التي حررها وهربها من السجن ..
ومن الإنصاف أن أذكر مفهوم المثقف الملتزم لدى الوجودي جان بول سارتر (1905 – 1980). والذي يتماس مع مفهوم غرامشي الأعمق والأشمل ..
فكتابات غرامشي كتبها مع الصعود الستاليني وتحنيط الثقافة وتجميد ديناميكية الفكر وتحويله الى أيديولوجيا جامدة (الدوغما) التي حنطت فكر لينين بتحنيط جثمانه وعولت على تمجيد القائد أبو الشعوب وإضفاء صفة الخوارق عليه، وقد انعكس كل ذالك في "الواقعية الاشتراكية" والغدانوفية التي مجدت البطل الايجابي وجعلت الطبقة العاملة هي المنتصرة روائيا، وشطبت على الابداع والخيال الخصب في مجال الثقافة والفكر والأدب..ومن ناحية أخرى تماماً انعزال المثقفين وجعل انشغالهم الثقافي منغلقاً ومنفصلًا عن هموم المجتمع وحصر المثقفين في برج متعال عن أن يمس المشكلات الحياتية التي تشكل هما ووجعا للطبقة المسحوقة والمهمشة...
فالمثقف الحقيقي هو من يلتزم قضايا القاعدة العريضة من الجماهيرة وينحاز لها ويربط مصيره بمصيرها مناضلا صلبا من أجل تحقيق أمانيها بالعيش الكريم وهو يعكس عمليا مطالبها الحرية الكرامة بعيداً عن الأمراض التي تنتعش في ظل الشُّح والافقار وسوء الخدمات وتعريض حياة الناس للمخاطر عند اشتداد الأزمات.. إن هذه الظروف الصعبة ينبغي أن تكون عامل توحيد وتضامن بعيداً عن عوامل الفرقة والتشتت من قبيل التعصب والتمييز بشتى أشكاله الطائفي والعرقي والديني والذي تغذيه الطغم الاسلامية السياسية الحاكمة.. أن مهمة المثقف العضوي الحقيقي أن يتجرم الأقوال والمنطلقات النظرية الى واقع يمارسه مع الناس على مختلف مشاربهم السياسية والدينية والعرقية والمذهبية.
لا شك أن المواهب والعقول ثروة وطنية ومفخرة للبلد، وقد فقد العراق بمدى أسبوع شخصيتين رياضيتين هامتين هما الكابتن علي هادي والكابتن أحمد راضي.. وقد عبّر المثقفون العراقيون عن أسف حقيقي وكتبوا عنهما بما يليق بأهميتهما ودورهما المُشرِّف.. وقد لمست ما يبعث على التفاؤل من النخبة المثقفة والكتّاب في تجاوزهم البعد الطائفي أو السياسي الى تأكيد خسارة البلد لهما بحسّ إنسانيّ صادق..
بيد أن هناك كتابات نزرة للغاية تناولت الراحل أحمد راضي والتذكير بعلاقته بالنظام وبعدي صدام حسين .. الخ وتشهير يتعلق بتحوله المذهبي! وشخصيا وبتجرد أجدها تهم باطلة لاتصمد أمام الواقع فلا ينظَر للشخص من خلال الزوايا الحادة..
لقد اطلعت على مذكرات أحمد راضي ووجدت أنه بخلاف ما أشاع عنه البعض، فقد ذكر بالتفاصيل ما لحقة من اختطاف واعتداء وضرب مبرح من جماعة عدي حين رفض الالتحاق بفريق الرشيد الذي شرع بتأسيسه عدي وحسين كامل.. ثم اضطر مكرها للتجاوب معهم في مجال الرياضة لا غير.. وعن الإشاعات المغرضة بتغيير مذهبه فالإنسان حُرّ في ما يختار من دين أو مذهب وهو حُرٌّ في قضايا الإيمان أو الإلحاد.. إن التشهير إن صدر من كاتب طائفي معروف لا يكون معاتبا ولا ملوما فمن يعض الكلب إن عض ؟! إنما أن ينزلق مثقف - ومسؤول ثقافي وشاعر- فهو أمريدعو بحق للأسف متأملاً أن تكون كبوة جواد يمكن لصاحبها أن يتجاوزها..
لكن أن أقرأ لمثقف شيوعي ومقاتل نصير يتهدد ويتوعد كاتباً آخر بالفضح والتشهير لأنه انتقد الحزب بموضوعية وأخلاص لسياسة الحزب التحالفية والتسرع بالحكم السلبي على انتفاضة اكتوبر، أمر يثير العجب ويبعث على الإستغراب حين يتساوى لدى صاحبه النقد والشتيمة فهل مثل هذه الأخلاق تليق بمثقف وشيوعي ونصير سابق ؟! أتمنى لهذا الأخ الذي لعن ذات مرة النقاد الذين لم يلتفتوا لإبداعه ولم يقدروا موهبته حق قدرها !!! أتمنى لهذا "المثقف الملتزم" أن يثب إلى رشده لا غير، ويتخلق بأخلاق الشيوعيين المُشرِّفة والمعهودة بهم وبثقافتهم الإنسانية..
23 حزيران 2020