سفيان اكديرة/ جامعة محمد الخامس بالرباط
أكدت الدراسات والأبحاث المعاصرة على أهمية شعر الملحون باعتباره ديواناً يحمل في مخزونه قيم الفن والتاريخ والمجتمع والهوية المغربية في عصورها المتعددة . وقد اكتفت هذه الدراسات بحكم طبيعتها التأسيسية بالجمع والتصنيف للقصائد والشعراء والمصطلحات، بالإضافة إلى التأصيل ومحاولة لملمة الأطراف التاريخية والمفاهيمية والقضايا والظواهر الأساسية المرتبطة بهذا المجال، كما بدأت تتعالى أصوات نقدية أخرى لاجتراح آفاق جديدة تقوم على خلفيات منهجية تقيس مدى شعريّة هذا اللون ومدى طربيّته ومدى تفاعله مع السياق الذي وجد فيه وما إلى ذلك .
إن مجال البحث في شعر الملحون هو مجال رحب ومغرٍ نظرًا للبياضات التي تكتنفه طولًا وعرضًا وكذا العتبات المنهجية التي تنبع من صلبه التداولي والتي تجعل منه في أحايين كثيرة موضوعًا عصيًا على المفاتحة الأكاديمية .
وقد يتضح أن سؤال النقد في الممارسة الملحونية هو سؤال اعتباطي لا جدوى منه لأن الملحون القديم إبداع شعري غير مصحوب بمتابعات نقديّة خارجيّة، إلا أن هذا الأمر على صحته مردود، لأن الشاعر أو "شيخ لنشاد"[1] أو العارف بالملحون عموما في ممارسته الشعريّة قد يصرح بمواقف وآراء نقديّة تضبط ممارسته الشعريّة وتجوّدها، وهل يمكن أن يبدع شاعر بدون وجود وعي نقدي ضمني كان الذوق أول عتباته ؟
نعم، لقد عبّر شاعر الملحون عن آرائه النقدية داخل القصائد وكذا خارجها، تفسر ذلك عدة قرائن سنقف عند نموذج منها في هذه الدراسة، ألا وهو البرولة التي تعتبر أحد الأصناف النظميّة التي تشكل مدونتي طرب الآلة والسماع المغربي. لقد اتخذ أهل الملحون في بادئ أمرهم موقفا مُقصيّا للبرولة – كما يتضح من خلال المصطلح- فتبناها أهل الآلة والسماع فأصبحت "نصًا" بعدما كانت "لا نصًا" .
ترجع ثنائية النص واللانص إلى الدراسات والأبحاث السردية التي أكدت على التمييز الذي طال مختلف أنواع الإبداع اللفظي العربي القديم حيث "تم إغفال وتجاهل قطاعات عديدة من الإبداع اللفظي"[2] ومن ثم فالإبداعات التي تم التركيز عليها دخلت إطار النص، وهو الذي يكوّن النموذج الأمثل والأساس النقدي في المؤسسة الأدبية خلال حقبة من الحقب، والإبداعات التي لم يُركّز عليها دخلت إطار اللانص وهو إبداع ينزاح عن النموذج الأدبي المكرس[3] .
ولكي نوضح الأمر أكثر نعطي مثالا بكتاب ألف ليلة وليلة الذي كان يعتبره القدماء "لا يصلح إلا للأذهان التافهة"[4]، لأن الليالي كانت لا تخضع للمعايير والشروط النصيّة المكرّسة في القديم والتي منها مجهولة المؤلف والبعد الشفاهي الذي يجعلها نصّاً متغيًّرا غير قار، بالإضافة إلى أسلوب العامية وغير ذلك . وبالتالي كانت "خارج المؤسسة الأدبية "[5]، ولم يُعتَرفُ بها في الثقافة العربية إلا بعد ترجمة أنطوان غالان الذي ألهب بها المخيال الأوروبي الذي كان يرزح تحت أدران الأدب اللاتيني وقتئذ، وتبعًا لذلك يقول عبد الفتاح كيليطو: إن الليالي "إحدى مفاخر العرب" لأنها مرآة لمجتمعهم وثقافتهم وفكرهم[6] .
نستعير ثنائيتي النص واللانص من حقل النقد السردي بغية توصيف حالة البرولة في الملحون، وقبل دخول مسارب هذا المبحث تجدر الإشارة إلى أن الموضوع الذي نحن بصدده يترجم وجهًا من وجوه المعايير النقدية التي تبناها الملاحنة، وهو أمر يحتاج إلى مقاربة موسّعة لفهم مظاهر وتجليّات النقد الملحوني، وذاك موضوع بكر في مجال البحث والدرس الأكاديميين .
يرجع أصل كلمة "بروال" إلى مجال الحرف والصناعات التقليدية بالمغرب وتحديدًا إلى ميدان الحياكة أو الدرازة إذ يعني في دلالته الأصلية "الخيط الذي يبقى على هامش الغزل" أو "الغزل الخشن غير المتقن الصنع"، وقد أصبحت هذه المفردة حمالة لدلالات مجازيّة متعدّدة في مجال التواصل الشعبي. فعندما ننطق بفعل "برول" معناه أن فلانًا "غزل غزلًا رديئًا؛ رمق في عمله، أي لم يتقن عمله؛ أرسل الكلام على عواهنه" ومن ثم كان مصطلح "التبرويل " دالًا على الكلام الذي يرمى على عواهنه[7] .
يتضح إذن أن مصطلح "بروال" انتقل من دلالة تعينيّة تقريريّة إلى دلالةٍ إيحائيّة أفرزت صيغًا صرفيّة متعدّدة فمن "بروال" إلى "بَرْوَلَ" إلى "تبرويل" إلى "برولة" التي دخلت معاجم الملحون والآلة والسماع والعيطة أيضا وتصغيرها "بريولة " وتجمع على " براول" أو "برولات" أو " بريولات" .
إن تسرب هذه الدلالة إلى مجال الملحون ومنه إلى المجالات الفنية الأخرى راجع إلى العلاقة الوطيدة التي ربطت هذا الفن-أي الملحون- بمجالات الحرف والصنائع التقليدية، وقد أشار إلى هذا الارتباط وأسبابه أحمد سهوم بقوله: "ربما لا يخفى على أحد أن فن الملحون نشأ في ربوع سجلماسة، ونما وترعرع في كل من مراكش، فاس، مكناس، وسلا أي في أحضان الصناعة التقليدية التي كانت ولا تزال متمركزة في هذه المدن، ولا غرابة، والحالة هاته، أن تكون جل المصطلحات التي استعملتها مدرسة الملحون ما هي إلا عطاءات الصانع التقليدي"، من هنا يفهم أن شعراء الملحون استلهموا من مجالات الحرف التقليديّة "لغتها ومرجعيتها في النظم والاصطلاح والتقعيد فخلقوا بذلك مجالًا خصبًا لانتعاش الاستعارة والقياس وحيويتهما وتطويرهما لمعجم اللغة في الملحون ولاصطلاحاته. لكن فئة منهم كانوا مثقفين (علماء وفقهاء وسلاطين) استجابوا لمؤثرات عصرهم ولمؤثرات ذاتيّة وموضوعيّة فنظموا في الفصيح والعامي معا، بل ومنهم من نظم نفس القصيدة بالفصحى ثم بالعامية استجابة لإكراهات اجتماعيّة وثقافيّة واعية أو غير واعية، ومنهم من اختار للفصيح موضوعاته وللعامية موضوعاتها"[8].
من هنا أصبح مصطلح "البراول" دالًا على تلكم المقاطع الشعرية القصيرة، وهذا الاصطلاح يحمل معنى الاستصغار لأن أهل الملحون كانوا يعتبرون قصائدهم التي تتوفر فيها معايير نصيّة معيّنة بمثابة النسيج المترابط الخيوط، في حين أن النصوص التي لا تكاد تتوفر فيها تلك المعايير كالأقسام المتوالية واللازمات والزرب -مما يعطي إمكانية الإبحار النغمي والإيقاعي- وتشعب الأعاريض والأغراض والموضوعات اعتبرت بمثابة " براول" أي الخيوط التي هي على هامش النسيج في صناعة الغزل، وفي هذا السياق يقول الشاعر أحمد الغرابلي في قصيدته "المرسول" :
ومن كانْ الغِيرْ اللهْ يَنْقْطَعْ وْيَنْقْصَمْ عَجْلانْ
والمطْموسْ العَكْلي لَمْهَتَّفْ لْحالي ما عْرَفْ كِيفْ يَنسَجْ بَرْوالُ[9]
لم تنل البراول حظها من الاعتبار والاهتمام كما حظيت القصائد الملحونيّة مما يجعلنا نستخلص أنه في "سياق هذا الموقف الرافض يبدو وكأن أرباب الآلة الأندلسيّة هم الذي أطلقوا اسم البرولة على مقطعات رجال الزاوية الملحونة عندما لاحظوا إنشادهم لها على نغمات الموسيقى الأندلسيّة وأوزانها ... أما رجال الزاوية فكانوا في البدء يطلقون على لغة منظوماتهم لفظ (العذراوي) يريدون الكلام الملحون، ثم غلبت تسمية البرولة عليها، فيما اقترن اللفظان على ندرة، فقيل (برولة عذراوية) ". وقد طرح عبد الرحمان الملحوني احتمال أن يكون لهذه التسمية وجوه أخرى، ذلك أنه لما ظهر صنف البراول في طرب الآلة، فكأنما كان ذلك ليطرد من الساحة الفنية "بعض القطع الزجلية التي حملت بين كلماتها معالم اللهجة العامية بالأندلس، لم ترق إلى مرتبة القصيدة الزجلية عند شعراء الملحون، ولم تصل إلى ما وصلت إليه في تنوع طبوعها وميازينها وموضوعاتها، وظل أهل الملحون يعدّونه غزلًا من الدرجة الثانية لأنهم يثنون على غزلهم الرقيق الذي يغزلونه في قصائدهم وسراباتهم؛ ولعل هذا هو الدافع الذي دعا الشيخ الجيلالي امثيرد إلى أن يفاخر بغزله الرقيق حيث انتشر غزل (البروال) في الوسط الشعبي، إذ يقول:
غزْلي صافي مَشْنوعْ ما يْلَحْقو من كان سْقيمْ
مانَا داعي مانا جْحِيدْ"
مفاد كلام الأستاذ الملحوني أن البراول ظهرت في الآلة الأندلسية من أجل تنحية الأزجال الأندلسيّة. وهذا أمر مردود لأن الأزجال الأندلسيّة لم تقص في الآلة الأندلسيّة، والدليل على ذلك هو أنها لا زالت حاضرة فيها إلى اليوم، زد على ذلك أن البراول كانت مبعدة عن المجاميع الشعرية المغربية الأولى ككتاب "إيقاد الشموع" لـ محمد البوعصامي وكناش الحايك. وقد ظهرت على ندرة بشكل محتشم في مجموع "الروضة الغناء في أصول الغناء" لمؤلف مجهول، ولم يسطع نجمها إلا في الفترة الحديثة وبالضبط مع ظهور مختصر الجامعي.
لقد أشرنا سابقا إلى أن البرولة كانت مستصغرة في أوساط أهل الملحون، لكن بعد اعتراف أهل "موسيقى الآلة" بها اعتُرف بنصيتها عند أصحاب الملحون، لذلك نجد سيدي قدور العلمي يتغنى بها باعتبارها نصوصًا ذات قيمة جماليّة وبهاء فنيّ لحنا وشعرا إذ يماثل رونقها الشعري التواشيح والقصائد الفصيحة والملحونة. يقول في قصيدته "النهار" :
وَهْوَ يا سِيدي نَبْغي الزّينْ والصَّهْبَة وَانْحَبّْ لَفْجُوجْ
لَوْ صَبْتْ كُلّْ ساعَة نَغْنَمْ حَضْرَة بَالْبْهَا وَكْيُوسْ الخَمْرَة
والشّْمَعْ وَاقَدْ وَالسَّفْرَة
ازْهُو النَّظْرَة وُبْدورْ الزِّينْ يْنَشْدوا ماياتِي في اطْبوعْ مَن حُلَّاتي
بَالتّْواشَحْ وَالْكَبَّاحِي وَالْبْرَاوَلْ وَبْيَاتْ الشّعرْ والسّْجالْ[10]
ويقول أيضا في "الساقي":
بالصنايَعْ واسْحولْ والتّْواشَحْ من شُغْلْ اذْواقْ
أساقي
واذْكُر قَصدانْ أَقَبَّاحْ وابْراوَلْ في اتْرُونيقَة
مَنْ شُغْل الحْبَرْ الل"ْبِيقْ[11]
من خلال ما أوردنا من نماذج في شعر سيدي قدور، يتضح أن شاعر الملحون لم يتمثل نصوص البراول كأشعار لها عضويتها النصية إلا بوجود الموسيقى والنغم وتحديدًا الموسيقى الأندلسيّة المغربيّة التي تشكل البراول جزءا كبيرا من قوام ديوانها، وكأن نصيتها لا تكتمل –بالنسبة إليه- إلا بوجود الموسيقى والغناء .
[1] مصطلح يطلق على المنشد المغني للقصائد الملحونة .
[2] سعيد يقطين، الكلام والخبر مقدمة للسرد العربي، المركز الثقافي العربي، ط1 1997: الدار البيضاء، ص51.
[3] المرجع نفسه، ص51-52.
[4] عبد الفتاح كيليطو، الأدب والارتياب، دار توبقال، ط2، 2013، الدار البيضاء، ص55.
[5] المرجع نفسه، ص 58.
[6] المرجع نفسه، ص60.
[7] محمد شفيق: الدارجة المغربية مجال توارد بين الأمازيغية والعربية، منشورات أكاديمية المملكة المغربية، ط1، الرباط، 1999، ص66.
[8] سعيد حنصالي، فصوص من الإبداع المغربي –قراءات معرفية-، دار أبي رقراق،ط1 2016، الرباط، ص 12.
[9] كناش الملحون من تافيلالت وفاس وبهجة المتون، جمع دلال محمد بن علال الحسيكة، مخطوط خاص، ص210. وفي رواية أخرى ينظر ديوان أكاديمية المملكة المغربية.
[10] ديوان الشيخ عبد القادر العلمي، جمع وإعداد لجنة الملحون التابعة لأكاديمية المملكة المغربية، إشراف وتقديم الأستاذ عباس الجراري، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، سلسلة التراث، الرباط، 2009، ص 313.
[11] المرجع نفسه، ص 286.