تدل كلمة الرزانة في اللغة على معاني الوقار، الحِلْم، الثبات، السكون، الثقل، الاتزان، التُّؤَدَة، والتَأَنّي، إلخ. وهي بذلك، أي الرزانة، صفة جميلة وخلق كريم إذا اتصف بها الإنسان، ذكراً كان أم أنثى . غير أن ما يفقد الرزانة جاذبيتها هي عندما يتخذها الفرد، في الاجتماعات والمجالس مثلاً، كوسيلة فقط وكصفة ينتفي فيها الصدق والأصالة، في إطار "تبني غير مشروع" لصفة عظيمة، لإعطاء صورة خادعة للجمهور/الحضور، حيث تكون حاجبة للحقيقية الفعلية الداخلية/الدفينة للفرد . ويعد اتخاذ الرزانة وسيلة وتقنية لنيل ألقاب فرعية كالاتزان والرجاحة والأناة والحصافة والفهم والزماتة والأبهة في الاجتماعات المهنية والمجالس المختلفة أثناء النقاشات والتعبير عن الآراء وتبادل وجهات النظر، دون أصالة ذلك وتطابقه فعلياً مع المخفي/المكبوح داخلياً من المشاعر والمواقف والآراء، ضرباً من ضروب التصنع والتكلف والمراوغة، الذي لا يخرج عن دائرة "النفاق التقني"، موضوع مقال سابق بعنوان : "النفاق التقني والنفاق الاجتماعي : محاولة فهم" . (1)
في هذا الصدد، يمكن إذن الحديث عن "رزانة مصطنعة/مفبركة" لا تعكس فعلاً حقيقة ما يبطنه الفرد من مواقف وأراء ومشاعر، حيث يقوم بتسويق وإظهار صورة مغايرة تماماً لواقعه النفسي-المهني-المادي-الاجتماعي، وحتى الإيديولوجي . والغرض من الانسلاخ عن هويته الحقيقية وواقعه الفعلي المعاش، بكل الأبعاد السالفة الذكر، هو الرغبة في الظهور أمام المجتمعين/الحضور بمظهر الإنسان المثقف، الواعي، المتزن، الراشد، الناضج . بيد أنه بمجرد التحرر من الحدود الزمنية والمكانية (إدارة، قاعة اجتماعات) والعلائقية (رئيس-مرؤوس) التي يفرضها سياق مهني معين (اجتماع أو مجلس أو لقاء رسمي)، فسرعان ما ينتفض الفرد الذي كان يرتدي رداء ناصعاً بالرزانة والاتزان والأدب والروية والرشد، ويعلن تمرده على ما قيل في اللقاءآت والاجتماعات، معاكساً كل مخرجاته ومنتقداً نتائجه ومشمئزاً من مسير ورئيس الاجتماع/اللقاء ومن أعضاء التيار الموالي لهما... إنها فعلاً تجلي من تجليات "الرزانة المصطنعة" التي لا تخرج عن نطاق "النفاق التقني" .
وللتوضيح أكثر، فالفرد الرزين أو المترزن "رزانة اصطناعية/مفبركة"، قبل اجتماع/لقاء رسمي، تجده يصرخ ويثور ويحذر ويعارض و"يردكل"(من الراديكالية/الجذرية) أمام زملائه، كما يظهر بمظهر المقاوم الممانع الصامد الصلب الناقد الذكي الفيلسوف وحتى الفوضوي chaotic/anarchic(al)، وبصوت جهوري "أسدي"lionly/lionlike . لكن وأثناء أطوار الاجتماعات والمجالس الرسمية ذات الطابع الهرمي hierarchical، يصير الصراخ والمواقف الجذرية وصخب ما قبل الاجتماع أدبا ملفتا، ورزانة عجيبة، ولباقة متميزة، ونضجاً ظاهراً، وصوتاً رقيقاً شبيهاً بالثؤاج والمأمأة، وخفضاً ورفعاً متوازنين للرأس عند كل كلمة تقال من طرف المتحدثين، وابتسامة جذابة ومتكررة، ومشاركة بآراء ومقترحات تعزز وتدعم ما يقوله مترأس الاجتماع بأبدع الأساليب وألطف العبارات، وتصفيقاً من غير حاجة لأتفه المخرجات . وما إن ينتهي الاجتماع، وينصرف الجميع من القاعة، حتى يعم الصخب والضجيج والنقد والمقاومة والرفض لما قيل ونوقش وتقرر . في كشف رهيب للتناقضات الداخلية وازدواجية المشاعر والمواقف والسلوكات . ببساطة، إنها "الرزانة المصطنعة" التي تشكل شكلاً من أشكال "النفاق التقني" المتفشي في الأوساط والسياقات المهنية .
ولئن كانت "الرزانة المصطنعة/المفبركة" صفة مذمومة لا تليق بالفرد المثقف في كل السياقات والوضعيات، فإن ذلك لا يعني أن كل أشكال الطيش والتسرع والخرق والرعونة والنزق والوقاحة والخفة والتهور والخلاعة مقبولة في الاجتماعات واللقاءآت الرسمية وغير الرسمية . ويظل المطلوب والأجدر هو الحفاظ على التناسق بين الأفكار المضمرة قبل وبعد الاجتماعات/المجالس، وأثناء انعقادها، لتحقيق الانسجام والتناسق والأصالة والتطابق في موقف وشعور وسلوك الفرد . بمعنى، فالمنهج الإيجابي والسوي للفرد، والمثري للنقاشات الجماعية، ليس "الرزانة المصطنعة/المفبركة"، وإنما "الجرأة" في التعبير عن المواقف، والشجاعة في الإفصاح عن المشاعر، لكن بكل أدب واحترام وتسامح ونبذ للعنف اللفظي والرمزي والسلوكي . بمعنى، فالمقابل/البديل الشرعي والمنطقي للرزانة المصطنعة ليس كل أشكال الوقاحة والطيش والخفة، وإنما الجرأة والشجاعة في التعبير عن المواقف والآراء، وإن كانت مخالفة للتوجه العام، لكن "بكل رزانة ووقار" .