مع تعمق الثورة المعرفية وعالم التكنولوجيا والتقنيات الحديثة غير المسبوقة في جميع مجالات الحياة، وازدهار شبكات الإعلام التفاعلي والإجتماعي، تتعمق ألواناً شتى من المشكلات والتحديات الداخلية والخارجية التي تعصف بالمجتمعات فتظهر على صورة مشكلات سياسية، اقتصادية، اجتماعية، أخلاقية، وصراعات تتباين حدتها ودرجتها من مجتمع لآخر فتحدث انعكاسات سلبية وتأثيرات حادة في بيئة المجتمع الداخلي، فينبثق على أثر ذلك فجوة عميقة في منظومة القيم لدى فئات المجتمع، تظهر على شكل تذبذب وعدم استقرار في تلك المنظومة، وضعف قدرات فئات المجتمع ولا سيما قدرة الشباب على الإنتقاء والإختيار من بين تلك القيم المتصارعة، وعجزهم عن تمثل ما قد يؤمنون به من قيم، فتعاظمت الحاجة لاستراتيجية فاعلة لمواجهة ودثر القيم السلبية المكتسبة والقادمة نتيجة الغزو الثقافي والفكري الذي يجتاح فضاء عالمنا التقني والإجتماعي بفعل انسياب وسائل التواصل الإجتماعي ومنصات تفاعلية ذات صلة، وسيطرة قيم العولمة الحديثة على مجتمعاتنا المعاصرة .
التربية الإيجابية من كافة محاضنها هي الإستراتيجية المؤثرة اليوم في مواجهة خطاب الكراهية تحديدا والذي سجل تعاظماً وانتشاراً بالغا في المجتمعات كافة، ولم تكن مجتمعاتنا العربية والإسلامية بعيدة عن التأثر العميق من هذه الظاهرة، وفي ظل الأزمات والكوارث التي تتعاظم في المجتمعات، وعالم سريع تتغير مبادئه ووسائله وأدواته تزداد فيه أهمية القضايا الأخلاقية لدى أفراده، وخاصة فئة الشباب كونها الفئة الأكثر تصادما مع هذه المتغيرات، لذلك نحن بحاجة إلى قيادة استراتيجية تغرس وتصنع وتعزز القيادة التربوية المؤثرة في حياتنا وتعمل على تزويد أفراد المجتمع بالقيم التي تساعد على تشكيل مصيرهم وتمكينهم من المشاركة الفاعلة في بناء مجتمع حداثي ديمقراطي متماسك تحكمه منظومة قيم واضحة المعالم مثمرة النتائج، فنحصد أفراد لديهم الإيمان الكافي والعزيمة الراسخة بروح ثقافة الحوار، متشبع ومتصرف على أساسها بكيفية واعية وتلقائية، ومواكبة لذلك يمكن للمؤسسة التربوية بالمقام الرئيس أن تلعب أدواراً مهمة في ترسيخ المبادئ والقيم الإنسانية والحضارية المعاصرة، ومن بينها الحوار وقبول الرأي الآخر .
إن اعتناق التربية الإيجابية من محاضنها الرئيسية الأساسية ممثلة بالأسرة، المدرسة، الجامعة، والمسجد وكافة المحاضن الأخرى في المجتمع يؤثر في عملية الإصلاح بشكل متكامل وذلك من خلال دورها التربوي في محاربة كافة القيم السلبية الداعية إلى الكراهية والعنف، والعمل على تأصيل قيم المحبة والوسطية وإعمار المجتمع وتفعيل منهجية مجتمعية شاملة تغرس بناء الروح الإنسانية المناهضة للكراهية، كما نستطيع أن نقطف ينبوع التربية الإيجابية من خلال منظومة القيم في الإسلام بالدرجة الأولى التي تزكي حياة الإنسان، وتعمل على تحقيق الإطمئنان النفسي والتوازن الشخصي في نفوس كافة أفراد المجتمع، ليغدو كل فرد قادراً على المشاركة الفاعلة في بناء مجتمع قيمي، بما يسهم في تحقيق ذاته وتمكينه من القيام بدوره في الحياة وتجنبه من اضطراب في منظومة القيم واعتناق خطاب الكراهية تؤدي لهدر ثروات ومنافع عظيمة في المجتمع.
قد أصبح واضحا في ظل المؤشرات والوقائع التي نحياها أن التربية الإيجابية قد أصبحت الآن مطلباً ملحاً في جميع محاضن التربية ومؤسسات المجتمع، تمنح المجتمع استقراراً اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، فخطاب الكراهية والنزاعات والعنف وغياب الإستقرار الإجتماعي لهما انعكاسات خطيرة على مؤشرات التنمية، فالقيم الموجهة نحو احترام الآخر، والتسامح معه هي القيم التي من شأنها أن تساعدنا في الإنتقال من خطاب الكراهية إلى خطاب المحبة المرتكز على السلم عبر إشاعة روح التضامن، والإعتراف بإنسانيتنا المشتركة، وبوجود الآخر كخطوة أولى نحو عقد اجتماعي وثقافي وأخلاقي، وقد اعتمد المنهج التربوي الإسلامي تحديدا خطاب المحبة وفق منظومة تربوية شاملة ضابطة للعلاقات بين أفراد المجتمع الواحد، والأسرة الواحدة، فالإنسان المسلم يشعر بأخيه المسلم، ويحرص على خدمته وإيثاره على نفسه، مهما اختلف لونه أو جنسه أو أصله، فالرسول صلى الله عليه وسلم اعتمد المحبة أساساً دعوياً مع جميع الذين تعامل معهم مسلمين وغير مسلمين، مما يؤكد الأهمية الكبيرة لتأصيل التربية الإيجابية في بناء المجتمعات، وخاصة أنها مستمدة من أصول ثابتة وهي الكتاب والسنة .