أول الكلام :
ظهر مصطلح الميتا تاريخ لأول مرة في كتابات الناقد والمفكر الكندي نورثروب فراي (1912 – 1991) الذي يعطي مفهوم "تاريخ التاريخ" أو فلسفة التاريخ" ثم أدرجه المؤرخ الأمريكي هايدن وايت عنواناً في كتابه الهام " ميتا تاريخ: التصور التاريخي في القرن التاسع عشر في أوربا"(**) الذي أصدره عام 1973 ثم أعيد طبعه لمرات عديدة، والذي ارتقى فيه إلى منهج علمي يتخطى السرديات للوقائع التاريخية والنتاجات الفكرية لسيرورة الفكر وتطوره والتي جاء قطافها لدى هيغل وسبنسر وماركس...ويتخطاها إلى البحث في خلفياتها وتنقيتها مما لحق بها ومناقشتها بديناميكية فكرية مع إزاحة التلقي كمسلمات مما يقدم فكراً غنياً يتجاوز الأيديولوجيا الضيقة وستاتيكيتها الى رحابة الفكر وديناميكيته وجعل التصور مقارباً للواقع ..
ولئن كان هذا المنهج قد تم تطبيقه فى أخصب القرون طرّا، وهو الثامن عشر وفي أخصب بقعة شهدت الثورة الصناعية والنهضة الفكرية فهو (المنهج) أحوج ما يكون تطبيقه على تاريخنا العربي الإسلامي وسردياته التي رافقها كثير من الخرافات والإضافات والخوارق والأبطال الإيجابيين، وكثير جداً من سرديات تمجد الخليفة والسلطان وتجعل التاريخ من نتاجاتهم لا من نتاجات شعوبهم المضطهِدة كما لعبت الإنقسامات المذهبية والعصبوية من عصبية وشعوبية في خلق مرويات حادة وظّفت توظيفاً سياسياً وغُلِّفت بغلاف الدين والطائفة والقبيلة من شكلها الأولي عرب عاربة وعرب مستعربة ثم قحطانية وعدنانية حتى وصلت إلى ما نحن عليه اليوم !!
***
قبل أكثر من عشر سنوات كنت قد كتبت موضوعاُ عنوانه "حريٌّ بتاريخنا أن يُنبش !!" وكنت أنشر بجريدة عربتايمز المقروءة عربيا وفي مواقع الكترونية أخرى منها "كتابات".. ويومها ما كنت قد سمعت بمصطلح " الميتا تاريخ" وما ينطوي عليه من جانب معرفي ومنهجي.. وجاءت كتابة المقال إثر حادثة رواها الصحفي العربي محمد حسنين هيكل بشكل عابر: حين كان الرئيس المصري منهكا بالعمل بعد هزيمة الخامس من حزيران 67 وأراد فنجان قهوة، فسارع أنور السادات متطوعاً وحضّر له الفنجان الذي شربه الرئيس ولم يشرب السادات ! وقيل أنه لم يمض طويل وقت حين أحسّ الرئيس بتلبك تطور إلى الحالة المعروفة التي توفي بها بعد توديعه الرؤساء والملوك العرب... الخ . أثار ما رواه هيكل ردود فعل قوية بين من يؤيد الحادث وما نتج عنه ومن ينفي سبب الموت هو الفنجان وبين من ينفي الفنجان أصلا !!
وكان الذي طرحته وفي الحقيقة الذي يطرح نفسه هو: إذا نحن اختلفنا حول حادثة ليست من الزمن السحيق وإنما مازال من شهودها أحياء ويختلف الناس فيها أشتاتاً فماذا نقول عن حوادث تاريخية مضى عليها قرون ؟! كيف نسلّم بصحة المرويات..؟! وتاريخنا جلّه مرويات، بل حتى مصاحفنا جاءت على مرويات حفص ونافع وورش .. في القراءآت؛ ناهيك عمّا اختلق لاحقاً من ناسخ ومنسوخ مما يتيح فهما انتقائيا خطيراً يوظف وفق مقتضى الرغبة والأيديولوجيا والأمثلة كثيرة جداً ومنها " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة/256) .
والآية 191 في السورة نفسها" (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم...),
ناهيك عن أحاديث نبوية يستشهد بها دون الإلتفات إلى مدى صحتها سنداً ومتنا !!
وعن حوادث اسدل الستار عليها عن الصحابة ومفهوم الصحبة ومعركة أحد ومن انهزم وسبب النكسة ومن غادر الميدان ليغنم .. وعن بطولات مشكوك بها مثل سيف الله المسلول وصاحبه الذي وصفه ابن الخطاب : "سيف خالد يقطر رهقا" والذي قال فيه النبي مخاطبا ربه لثلاث مرات : إني أبرأ اليك من خالد.. وعن بطل آخر حرر القدس وكان رحيماً جدا مع الصليبيين، شديدا جزاراً مع الفاطميين أسقط دولتهم وعزل الرجال عن النساء لكي ينقرضوا ناهيك عن المذابح !
وأنا لا أعفي مذهب دون آخر، فلا مذهب يخلو من خرافات وأضاليل كما في : بحار الأنوار" من قبيل أن نسل فاطمة لاتقربهم السباع لأن لحمهم محرم على السباع والكواسر والضواري طبعا ! وقد كتب الدكتور صاحب الحكيم وهو من نسل فلطمة من أبيه وأمه، يروي عن حادثة حصلت معه في شارع الروان في النجف قبل مدة ليست ببعيدة، حين هاجمه كلب هائج فعضه في ساقه ونهش من لحم الساق وسارع نحو المستشفى ليتبين أن الكلب مسعور.. وتساءل السيد أن نسبه لم يحمه من كلب لا من سباع، فأي سيد عاقل يقرب السباع ؟!
إن الخرافات التي يبثها خطباء الشيعة في المنابر الحسينيه والقنوات تزيد على ما تبثه القنوات الوهابية والظلامية فكلهم في الهم شرق !!
بمناسبة الذكرى المئوية لاندلاع ثورة العشرين، اختلف البعض عن كونها ثورة أو لا ! بسبب قيادتها العشائرية، وهو حكم جائر فمادة الثورة هم الفلاحون الذين وجدوا إن الإحتلال جائر وهو استعمار بغيض وثاروا وقدموا ضحايا وحتى أن الكثير من شيوخ العشائر وقفوا مواقف بطولية مثل الشيخ شعلان ابو الجون، والسيد نور والسيد علوان الياسري، ورجال الدين والشعراء في النجف وبغداد هم مهدوا وخططوا للثورة بالتنسيق مع شيوخ العشائر، وقبلهم شهداء النجف ومناضلوها في ثورة 1918..وقد حصل خلاف حول مساهمة الشيخ ضاري المحمود.. فالمصادر الهامة مثل ثورة العشرين لعبد الرزاق الحسني، ولمحات الوردي في الجزء الخامس ومحاكمة الشيخ ضاري للأستاذ عبد الجبار العمر في "أفاق عربية" تؤكد أن الشيخ ضاري كان على صلة جيدة مع الجنرال البريطاني لجمان، وبينهم زاد وملح بل وكان يتقاضى أجوراً قطعت عنه الأجور ثم أرجعت وقللت وإن الخلاف بينهم آني نتيجة لتطاول لجمان ذي المزاج الحاد على الشيخ ضاري فتم قتله من قبل أولاد الشيخ ومن الشيخ الذي زاد وضرب عنقه بسيفه !
وحين أذكر ثورة النجف البطلة فإن هناك أيضاً خونه فتحوا أبواب السور للمحتل الذي أعدم الثائرين ومنهم أولاد الحاج سعد راضي الأربعة، وقد طلب منهم الإنكليز أن يأتوا بورقة إعفاء من السيد كاظم اليزدي لتخفيف العقوبة وإعفائهم من الشنق، فذهبوا مكبلين بصحبة الشرطة وطرقوا باب السيد وظلوا يطرقون الباب حتى ملوا الإنتظار دون طائل !! وتم تنفيذ حكم الإعدام بهم مع غيرهم من الأبطال.. واحتفل الإنكليز مع بعض وجهاء النجف في دار السيد عباس الكليدار الذي أولم لهم وليمة كبيرة في يوم إعدام الثوار ولم تبعد الدار سوى عشرات الأمتار عن مقام الإمام علي!! من يُرد مصدراً فليقرأ كتاب " ثورة النجف " لعبد الرزاق الحسني، والوردي في لمحاته ج5 ،ومذكرات العلامة محمد رضا الشبيبي في الثقافة الجديدة في السعينات !!
ما ذكرته هو غيض من فيض بل قطرات نزرة من بحر وقد سمعت الدكتور أحمد الوائلي أكثر من مرة يقول : عندما تقرأ التاريخ الأسلامي كأنك تمر بجبال من النفايات وفيها بصع لآلىء عليك الوصول اليها وتنقيتها مما علق بها؛ وقبله قال العلامة المتنور السيد محسن الأمين في أعيانه ما يُشبه ذلك !
فبعد هذا أليس حريا بنا أن نراجع تاريخنا مراجعة علمية نقف على الحدث التاريخي أو الظاهرة التاريخية الفكرية بروح الحياد الموضوعي من خلفيتها الميتاتاريخية لنحللها ونعرف سبب وظروف نشأتها وأسباب تلاشيها ولنعرف تأثيرها وأهميتها نقية خالصة من الشوائب والخرافات والبطولات الوهمية.. ولكي نعي دروسها ونستخلص عِبَرها ودروسها لكي نتمكن أن نعي حاضرنا ونحسس ملامح مستقبلنا ونحدد سماته..
نحن بحاجة لتاريخنا لا لكي نقرأه بل لكي نعيه، فالوعي بالتاريخ أهم من قراءته .
)*) Metahistory.
(**)Metahistory: The Historical Imagination in 19th-Century Europe (1973),
الثامن من تموز/ يوليو 2020