أول الكلام :
كلما كتبت عن الشعرأنعته بأنه رطوبة الحياة، وكلما أكتب عن الغزل أقول هو عبق الشعر ونداه.. وما أجدني مبالغاً، وقد بسّط بعض النّقاد القدماء الغزل بأنه ضرب من المديح، بمثل ما بسّط البعض الرثاء بأنه هو الآخر ضرب من المديح لكنه يقال في الأموات! وأياً كان الأمر ففي الغزل جمال الوصف وجموح العاطفة، يقوله المحب في من أحب، وقد يكون فيه جموح للخيال والمبالغة وقد يكون فيه تطرف يبعث على الجنون حين يُحال بين المحب والمحبوب.. وأحسب أن العرب من أكثر الأمم عاطفة وقد انعكس ذلك في شعر شعرائهم.. بيد إن شعر الحب - والغزل منه - فيه الصادق وفيه الأقل صدقاً وفيه غير الصادق، ولكنه يبقى شعراً رطباً مرهفا يحمل معاني المعاناة والجمال، ويثير العاطفة لدى سامعه والإرتياح وربما النشوة ويؤجج الذكرى من مكمنها لزمن حب انقضى أو كاد !
***
غزل المتنبي (303هج ـ-354هـ/915م-965م) كباقي شعره يعتمد على جمال اللغة ، وقدرة مذهلة في تحويل الفكرة والعاطفة إلى لفظ جميل في شعر وقواف مسبوكة بشكل خلاق، عمادها متانة اللغة وثراء المفردات وانسجامها بنسق شعري يشد السامع لما يتضمن من التراكيب البلاغية وجمال التصوير والإنسجام المذهل بين المعاني والألفاظ؛ فلم يعرف عن المتنبي أن له معشوقة سوى ما أشيع عن حبه لأخت سيف الدولة (خولة الحمدانية – ت 352هج) ولا دليل سوى حرارة رثائه لها :
يا أُخْتَ خَيرِ أخٍ يا بِنْتَ خَيرِ أبِ - كِنَايَةً بهِمَا عَنْ أشرَفِ النّسَبِ، إلى أن يقول ما يبعث على الإعتقاد بحبه لها :
طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَبَرٌ .. فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ
حتى إذا لم يَدَعْ لي صِدْقُهُ أمَلاً .. شَرِقْتُ بالدّمعِ حتى كادَ يشرَقُ بي
ربما بسبب عجز البيت الثاني أعلاه وهو أمر مألوف في التهويل البلاغي ! وما أظنه بدليل رغم أن بعض الأبيات اللاحقة في القصيدة ذاتها لا تقل عنه حرارة، لكن الذي يقول بحب المتنبي لخولة هو ليس بكاتب عاديّ بل هو باحث رصين طويل الباع وهو الأستاذ محمود شاكر في كتابه الذائع عن (المتنبي) الذي يذهب بعيداً بأن أخاها سيف الدولة على علم بهذا، دون أن يقدم دليل سوى اجتهادات تأويلية لبعض الأبيات لا غير!!
وعودة للغزل لدى المتنبي فأشهر قصيدة قالها في شبابه، حيث تكون العاطفة مشبوبة عامة، وتعَد القصيدة إحدى عيون الشعر، لكن غزله عاماً دون أن يوجه لمحبوبة مشخصة كما يفترض :
كم قتيلٍ كما قُتلتُ شهيدِ – ببياضِ الطُلى ووردِ الخدودِ
وعُيونِ المها ولا كعيونٍ – فتكت بالمُتيَّمِ المعمودِ
عمرَك اللهُ هل رأيت بدوراً – طلعت في بيارق وعُقودِ
رامِياتٍ بِأَسهُمٍ ريشُها الهُد - بُ تَشُقُّ القُلوبُ قَبلَ الجُلودِ
يَتَرَشَّفنَ مِن فَمي رَشَفاتٍ - هُنَّ فيهِ أَحلى مِنَ التَوحيدِ
في هذه الأبيات وهي الأجمل في هذه القصيدة يبرز ضدان هما : البرودة أو الحياد في العاطفة وجمال التصوير الساحر، يبدأ بكم الإستفهامية الخبرية لا العددية، فشهداء الحب كثيرون لا عدّ لهم والمتنبي يزعم أنه واحدٌ منهم، بسبب العيون التي ترمي سهامها فتنفذ إلى القلوب قبل الجلود، وهنا سر الإبداع فلو كان شاعراً عادياً لقال: تشق القلوب بعد الجلود ضمن التسلسل المنطقي.. لكن الشعر الخلاق هو نقض للمنطق العادي لأنه خلق وإبداع .. لا كما ذاك الشاعر الشيخ الذي تندر عليه النجفيون حين بارك بيان 11 آذار عام 70 بقصيدة مطلعها :
البيان الذي أُذيع جميلُ – فيه حلٌّ مُنزّهٌ معقولُ
أما البيت الأخير أعلاه فقد شرحه اليازجي على خلاف الفهم الواضح، حيث يرى المتنبي أن القبلات ومص الشفاه تحديداً هو أحلى من "التوحيد" الذي هو تمر حلو ربما هو البرحي بلغة اليوم .. اليازجي ربطه بالشأن الديني وقال هو توحيد الله، وهو شأن يبعث على الهيبة لو صدق ولا يوصف بالحلو!!!
وفي قصيدة غزلية أخرى يقول المتنبي :
لِعَينَيكِ ما يَلقى الفُؤادُ وَما لَقي - وَلِلحُبِّ مالَم يَبقَ مِنّي وَما بَقي
وَما كُنتُ مِمَّن يَدخُلُ العِشقُ قَلبَهُ - وَلَكِنَّ مَن يُبصِر جُفونَكِ يَعشَقِ
وَبَينَ الرِضا وَالسُخطِ وَالقُربِ وَالنَوى - مَجالٌ لِدَمعِ المُقلَةِ المُتَرَقرِقِ
وَأَحلى الهَوى ما شَكَّ في الوَصلِ رَبُّهُ - وَفي الهَجرِ فَهوَ الدَهرَ يُرجو وَيُتَّقي
نُوَدِّعُهُم وَالبَينُ فينا كَأَنَّهُ - قَنا اِبنِ أَبي الهَيجاءِ في قَلبِ فَيلَقِ
وأحسب أن هذه القصيدة رائعة المعاني ذات انسجام يشهد للمتنبي كباقي قصائده لكنها باردة العاطفة ثقيلة اللفظ مكررة المعاني، فهو يركز على عينيها اللتين تستحقان عذاب الحب والسهر والوصب ثم يركز على الجفون ولم يخبرنا عن جمال جفونها كيف يكون وبماذا تختلف عن جفون الأخريات ؟.. والمعاني عادية والقصيدة ثقيلة زادها ثقلا بحرها الطويل وقافيتها القلقلة المجرورة .. ولو قارناها ببيت واحد لذي الرُّمة (77ه\ 696م - 117/735) لرأينا الفرق :
وعينانِ قال اللهُ كونا فكانتا – فعولانِ بالألباب ِما تفعلُ الخمر!
لعل أجمل قصائد المتنبي هي قصيدته التي تغنى بها المطربون مثل وديع الصافي، ويوسف عمر في مقام الحسيني ومقام آخر أظن الخنبات.. وهي :
مالَنا كُلُّنا جَوٍ يا رَسولُ - أَنا أَهوى وَقَلبُكَ المَتبولُ
كُلَّما عادَ مَن بَعَثتُ إِلَيها - غارَ مِنّي وَخانَ فيما يَقولُ
أَفسَدَت بَينَنا الأَماناتِ عَينا - ها وَخانَت قُلوبَهُنَّ العُقولُ
تَشتَكي ما اِشتَكَيتُ مِن أَلَمِ الشَو - قِ إِلَيها وَالشَوقُ حَيثُ النُحولُ
وَإِذا خامَرَ الهَوى قَلبَ صَبٍّ - فَعَلَيهِ لِكُلِّ عَينٍ دَليلُ
زَوِّدينا مِن حُسنِ وَجهَكِ ما دا - مَ فَحُسنُ الوُجوهِ حالٌ تَحولُ
وَصِلينا نَصِلكِ في هَذِهِ الدُنـ - ـيا فَإِنَّ المُقامَ فيها قَليلُ
صحبتني على الفلاة فتاةٌ – عادةُ اللون عندَها التبديلُ
نحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ – أقصيرٌ طريقُنا أم يطولُ
القصيدة أطول من ذلك، وهي فريدة في أسلوبها وفي سلاستها وسبكها وخفتها، وجمال لفظها على الخفيف، فالمتنبي لا يعمد على الغزل التقليدي بل يدخل من مُدخل الحكاية، فهو تعلق بحسناء أرسل لها رسولأ حمّله حبه وشوقه اللاعج، ليبلغها الرسالة بأمانة الرسل المعهودة وإذا بالرسول يخون الأمانة بسبب عينيها اللتين أفسدتا الأمانة فوقع الرسول في حبها..
فالمطلع جميل يحمل اللوم للرسول الذي ذهب خالي القلب ورجع متبول أكثر من سيده ! ويلومه ! ومع ذلك يلتمس له العذر، ثم يتوجه بالخطاب للمحبوبة بأن الوصل هنا هو الحل، فهو يتوق لوجهها الجميل قبل أن يحول!! لهذا يفضل أن يرتحل لها بنفسه ويعلل النفس في أن يلتقي بها.. ومن الجدير ذكره أن المتنبي اعتمد التسمية المجازية للشمس وهي " فتاة" التي تغير ألوانها بين الشروق والغروب ..
هذه ثلاث عينات من غزل المتنبي وله قصائد غزلية عديدة.. وأحسب أنه أراد أن يطرق الغزل لأنه باب هام لا يفوت أي شاعر فكيف إذا كان الشاعر من أعظم شعراء العرب طرّا ؟!
28/ مايس/2020