نشرتُ، على مُدوَّنتي في الفيسبك قبل مدّة، بضعة أبيات من قصيدة لي في رثاء شهيد عراقيّ؛ فطلب منّي مُحرِّر ( جريدة البلاد ) الكنديّة القصيدة كاملة للنشر. إعتذرت إليه عن تلبية الطلب في رسالة جوابيّة نشرها في صحيفته أمس؛ إذ رأى فيها ماهو خليق بالنشر. أودّ إذاعتها الآن على من يرغب في الإستئناس بها من القرّاء، لتعميم الفائدة مع الشكر :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى الصديق العزيز ليث الحمدانيّ/محرّر ( جريدة البلاد ) في كندا.
تحيّة عراقيّة وطنيّة،وبعد :
إنَّ الأبيات الستَّة التي تمثَّلتُ بها،على مدوّنتي في الفيسبوك، تخليداً لروح الشهيد العراقيّ ( الشيخ وسام الغرَّاوي ) ــ
ما بَعْدَ نزفـِــكَ من شكٍّ وقد طلعتْ ــ شمسٌ وفاضَ صبــاحٌ منـك بسَّـامُ
كفَى بصدقِـــــــــكَ نوعـاً لاتماثلُـهُ ــ من العمائـمِ أَلـوانٌ وأَحجــــــــــامُ
ياكاتبـــاً بنزيـــفٍ منــه فـكــرتَـــهُ ــ فـدتْ نزيفَـــكَ أَفكـــارٌ، وأَقـــــلامُ
شَـــتَّانَ مـا بـــدمٍ قـانٍ تُنـظـِّــــــرُهُ ــ ومـا يُنـظـِّــــرُهُ بالـحبــرِ عـَـــلَّامُ
ياصافعَ الصمتِ عن حقٍّ ومُفزعَهُ ــ إِنَّ السكوتَ على الِإجرامِ إِجـرامُ
لكَ الخلـودُ وللأشــرارِ دورتـُـهــا ــ تأتي وتمضي بهـا، كالريـحِ، أَيـَّــامُ
ــ هي أبيات مقتطفة، كما أشرتُ على الحاشية، من قصيدتي الميميَّة ( من وحي البطولة ) التي مطلعها :
فعلـتَ ماقلـتَ حتَّى زالَ إِبهـــــامُ ــ وكلُّ قـولٍ بغيـــر الفعـلِ أَحـــــلامُ
وهذه القصيدة الميميّة التي استوقفتْك الأبيات الستّة المنشورة منها, وسألتني لأبعث لك بكل ابياتها كاملة، لتنشرها في جريدتك (البلاد), هي ليست في رثاء الشهيد ( الغرَّاوي ) أصلاً؛ وانّما هي في رثاء الشهيد الصدرالأوَّل ( محمد باقر ). كتبتُها بعد إعدامه في عام 1981م، ثمَّ نشرتُها في أوائل التسعينيّات بفضل المفكِّر الوطنيّ الأستاذ ( علاء اللاميّ )؛ إذ أَحجمت جميع صحف المعارضة العراقيَّة في الخارج عن نشرها آنذاك . لا لشئ إلّا لأنَّها كانت تواجه الدكتاتوريّة في العراق مواجهة صريحة . كقولي :
ياصدرُ يامخزيَ الأذيالِ أجمعِها ــ وكــــلِّ رأسٍ به منهنّ أَســــقامُ
أَفزعتَ وحشاً بقلعِ النابِ من فمِهِ ــ ِإِنَّ الوحوشَ بـغير النابِ أَغنامُ
ماكـانَ مـن أَسْبُعٍ شـيئاً ليُفـزِعَـنا ــ لكـنَّ مُفــزِعَـنا خـوفٌ وإِيهــامُ
إِنَّ الشـعوبَ إذا أَخبتْ مشــاعلَها ــ قامتْ عليها من الأَشــباحِ حُكَّامُ
وعلى الرغم من افتخاري بهذه القصيدة التاريخيّة؛ فانّي لا أرغب في أَنْ يُعاد نشرها كاملة الآن، لسببين :أوَّلهما لأُميِّز نفسي عن الشعراء المرتزقين المتملّقين للسلطة الطائفيّة الحاليّة في العراق, والمتنافسين في مدح الصدر وآله. وثانيهما لأَصون سمعة جريدتكم ( البلاد ) الوطنيّة المستقلّة من شبهة الإنحياز اللاوطنيّ وعدم الإستقلال الثقافيّ، لأنّ نشر قصيدة في رثاء الشهيد، في هذا الوقت الطائفيّ بالذات، له معنى يختلف عن معنى نشرها قبل ثلاثة عقود، إذ تدّعي السلطة الطائفيّة الحاليّة ــ وهي غير صادقةــ أنّ الشهيد هو رمزها الروحيّ المؤسِّس لها, ومثلها الأعلى في وصولها إلى الحكم. ولاشكّ أنّ الشاعر والناشر كليهما سيكونان في موضع اتّهام، وستدور حولهما الأسئلة ؛ إذا رضيت عنهما تلك السلطة الفاسدة الخائنة . أقول : ( الفاسدة ) لأنَّها معادية لحقوق المواطنين العراقيّين. وأقول : ( الخائنة ) لأنَّها معادية للعراق وسيادته الوطنيّة. هذا الأمر الأوَّل. أمَّا الأمرالآخر، فإنّ المعارضة الإسلاميّة السياسيّة التي كانت تتغنّى مظلومة، بهذه القصيدة ضدّ دكتاتورية صدّام حسين بالأمس ( قبل 2003م )، هي نفسها قد تحوَّلت اليوم الى دكتاتوريّة ظالمة، لكنْ باسم مختلف وبصبغة أخرى، بل إلى سلطة فساد وخيانة، تجب مقاطعتها، وعدم إسعافها بأيّة وسيلة يمكن أنْ تبرّر وجودها، وتطيل حكمها حتّى لو كانت هذه الوسيلة بيتاً من الشعر .
إنّ رؤيتي الثقافيّة، كما ترى ياصديقي، تختلف نوعيّاً عن رؤى أغلب الشعراء المعاصرين وحتّى الماضين. إنّ الشعر، كما تعلم، يرجع بمعناه العامّ الى الثقافة. فالشاعر من هذا المنطلق هو مثقّف. ومسؤوليّة المثقّف، في مفهومي الخاصّ، هي مقاطعة سلطة الدولة لإسقاطها إنْ كانت غير وطنيّة، وغير شعبيّة؛ ومعارضتها لتقويمها إنْ كانت وطنيّة وعادلة . فالنضال الاجتماعيّ لدن المثقّف، كما أفهمه، هو واجب لازم، لتحقيق سيادة وطنه وحقوق شعبه؛ وليس ترفاً ثقافيّاً زائداً. وقد ينزل المثقّف ذو الوعي الى ميدان الصراع، إذا اقتضى الحال، دفاعا عن السيادة الوطنيّة، ودفاعاً عن الحقوق الشعبيّة؛ لكنْ للأسف انّ أكثر شعرائنا لاينطبق على مواقفهم هذا المفهوم، لانَّ معظمهم، قديماً وحديثاً، كانوا مع سلطة الدولة الظالمة التي اعتمدت أساساً على أماديحهم في تبرير ظلمها، وتركيز دعائم حكمها . وقلَّ من الشعراء الأحرار الذين لم تستعبدهم السلطة، ولم يتدنَّسوا بمدح لصوصها وجلّاديها تاريخيّاً . ولا شكّ أنَّ عقبى مادحي سلطة الدولة، بكلّ أشكالها وأنواعها، هي الخسارة الأخلاقيّة والأدبيّة أخيراً. فانْ كانت فاسدة خائنة كحكومتنا العراقيّة، فمادحها مرتزق محتقر. وإنْ كانت عادلة مخلصة، فمادحها مقيد بالإتّباع لا الإبداع .علماً أنَّ كّل تاريخنا الإسلاميّ السياسيّ لم يكد يعرف حكّاماً عادلين مخلصين غيرعمر بن الخطاب وعليّ بن ابي طالب وعمر بن عبد العزيز. وهؤلاء الثلاثة قد أَغلقوا أبوابهم دون الشعراء الكذّابين المتملِّقين، لأنّهم ماكانوا محتاجين إلى كذبهم وتملّقهم، ولأنّهم ماكانوا يكنزون مال الناس فيعطوهم .
نعم. إنّ قصيدتي الميميّة قد مجّدت موقف الشهيد، الفيلسوف الإسلاميّ، والفقيه العربيّ الذي أعاد للفقه نشر رايته الجهاديّة التي كانت تخفق بأيدي فقهاء القرن الهجريّ الأوّل؛قبل ان تنطوي خضوعاً بانضمام معظم الفقهاء الإسلاميّين الى ثقافة السلطة الظالمة في العصور السياسيّة اللاحقة. والشهيد هو أهلٌ لذلك التمجيد الشعريّ، حين سكت معظم الشعراء العراقيّين عن تخليد وقفته النضاليّة البطوليّة، خوفاً من بطش الدكتاتورية، وحرصاً على رضاها. وما أنا بمشكورعلى قيامي بواجبي الثقافيّ، والتعبيرعنه بقصيدة، تحدّيت بها أعتى سلطة استبداديّة في تاريخ العراق كاشفاً بها سيرة مثال عالٍ للفضيلة، في طريق النضال الأجتماعيّ المحفوف بالدماء والدموع، كما يتبيّن من قولي له :
ياسَـيِّدَ الحِلــمِ لـم يُنطقْــكَ ذوسَـفَه ــ وسَــيِّـدَ النطقِ لــم يُسْـكتْـكَ لَجَّـامُ
أَشرعتَ صدرَكَ للأَهوالِ منتصباً ــ ماارتاعَ حَجْزاً ولم يُرهبْه إِعــدامُ
لله دَرُّكَ يـــــوم الــــروْعِ مُنفــرِدا ــ كالشمسِ.نـورُك إِيمــانٌ وإِقــدامُ !
كأَنَّ كلَّ بني الِإســـــلامِ قدْ كفروا ــ وأَنتَ، وحـدَكَ، وسط الكفرِ، إِسـلامُ
غير أنّ ذوي الإسلام السياسيّ الذين سلّمهم الإحتلال الأمريكيّ السلطة، في العراق في عام 2003م، استغلّوا تضحية هذا المثال العالي لمصالحهم الخاصّة، ونسوا الشعب، وأيأسوه من خيرهم يأسأً انعكس على الأحكام السياسيّة الشعبيّة العامّة التي تغيّرت بتغير الظروف المعيشيّة.لذا هبطت القيمة المعنويّة للقصيدة.وماكانت لتهبط لولا سوء أفعالهم.ولئن بردت جذوة رثاء الشهيد بنفاقهم السياسيّ، فانّ الأبيات التي أدانت رجال الدين المزيّفين مابرحت تتوهج معانيها في النفوس، ولم تبرد. كقولي في هذه الأبيات :
يُحاربونَ ( يزيـــدَ ) الَأمسِ في خُطَبٍ ــ وإِنَّهــمْ لــ ( يزيـدِ ) اليــــــومِ، خـدَّامُ
تجـَّــارُ شـــرٍّ، يَغرُّون الهُـداةَ، بمـــا ــ تُقـــامُ من بينهـــــمْ للديـن أَفـــــــلامُ
على الشــفاهِ، من التوحيــــدِ،مِئـذنــة ــ وفي القلــوبِ جـِــــوارَ اللهِ أَصنـــامُ
مَوتَى وإِنْ كبَّروا مَوتَى وإِنْ ركعوا ــ مَوتَى وإِنْ سجدوا مَوتَى وإِنْ صاموا
أَعـوذُ بالصدقِ في عينيكَ من كَذِبٍ ــ تَبيعُــــه، في مـزادِ الديـنِ، أَقــــوامُ
أَينَ السفاســفُ ممَّا أَنتَ مُبدعُـــــه ــ وأين من طولـِـكَ العمــــلاقِ أَقــزامُ ؟
أكتب إليك ،ياصديقي، الآن، وقد مضت على هذه القصيدة الإحتجاجيّة أربعة عقود، وتغيّرت ظروف العراق السياسية؛ حيث مات الدكتاتورالذي كانت الناس تخشى سطوته حتّى في الأحلام. ولئن كان شتمه، وهو حيّ، بطولة حقّاً؛ فانّ إِحياءَ شتمِه اليوم، وهو ميّت،جُبنٌ مابعده من جُبن. إنّما الغربان هي وحدها التي تنتظر سقوط الجثث، لتنهشها جوعاً، وتنعق حولها. وما أنا بغراب شعر، وانّما إنسان. لايستهويني موت أخي الأنسان حتى اذا كان عدوّاً لي كهذا الدكتاتور المجرم. هذا من حيث الجانب الأخلاقي للقضية. وأمّا الجانب الفنيّ، فانّ بعضاً من معاني القصيدة التي كانت تُدهش السامع وتجذبه إليها بالأمس، لندرتها وجرأتها، قد أصبحت اليوم ــ على العكس ــ شبيهة بالقول السائد المتكرّر، والمألوف الموازي لخطّ القطيع العام . وكأنّ الشاعر ( الياسريّ ) من خلالها يوحي برغبة في مصالحة السلطة الطائفيّة لا معارضتها.وهيهات منّي المصالحة ثمّ هيهيات.إنّما انا مواطن مقاوم بالكلمة الوطنيّة الحرّة.لاأعرف الصلح مع سلطة، لاشأن لها بسيادة وطني، ولا بحقوق شعبي .. هذا واسلم لصديقك ومحبّك :عبدالإله الياسريّ .
في25 نوفمبر 2018م
اوتاوا ــ كندا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ