عبد ألستار ناصر.. لاتقل لنا وداعا !

2009-08-10
( صوت أ//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/6bd84198-6705-4cbd-be89-d4cd16c6d429.jpeg جش يصرخ في رأسي : يكفي أيها ألأبله ، يكفي هذا ألندم ألسخيف ، جئت من بغداد من زقاق لايعرفه أحد ، وأنت لاتملك أي شيئ ، وها أنت فعلت ألكثير ، أكثر مما تظن ..نساء من أجمل ما خلق ألله ، وخمور من أعتق سراديب روما ، وليال ما كان أجدادك ليحلموا بها ، أوربا كلها بين يديك ) عبد ألستار ناصر / ألطاطران.
لا أدري لم أغرورقت عيناي دمعا هطولا وأنا أرمي بالصحيفة ألتي نقلت خبر دخوله ألمستشفى مصابا بالجلطة ألدماغية ، أيعقل هذا ؟ عبد ألستار ناصر ودع ألطاطران ليسكن ألغربة بعيدا عن هذا ألحي ألعتيق ألذي أصبح أطلالا بعد مغادرته إياه ، إنه الآن يدفع ثمن ذلك ألتغرب قهرا ومرضا ولا أحد يواسيه .
شاكستنا دهرا وها أنت ملقى على ألسرير دون كلام فمن يشاكسنا بعدك ، أم أن صمتك أصبح أكثر إيحاءا من كلامك !
كان لك لقاء مع إحدى ألصحف وقد أخبرتهم بأن ألذي سيقتلك هو ألعراق ، وأن من سيهّد عظامك ويفنيك ألعراق ، فكما كان ألسياب يصرخ عراق ..عراق ..عراق ، ها هو جسدك ألمسجى على سرير ألمرض وصوت يصرخ في أعماق روحك ، عراق ..عراق ..عراق .
مذ فارقتنا في ذلك أليوم ألقارص ألبرودة من عام 1990 ولا زلت أتذكر أن شعيرات بيضاء كانت قد تسللت إلى شعرك ألأسود ، لكن ألغربة قصرته شيئا فشيئا حتى إستحال إلى كتلة ثلجية ، وقلت لنا يومها أن ألهموم صبغته ، ولم أكن أعلم أن ألهم يسبق ألوقار إلا بعد أن شاهدته مكلللا فوق رأسك .
كانت محلة ( ألطاطران ) تصعد مع أنفاسه وتنام بين كلماته ، فهذا ألزقاق ألضيق شهد عدوه مع أقرانه من أطفال ألمحلة وهم يلعبون لعبة ( عسكر وحرامية ) وعندما كبر قليلا كبرت ألألعاب معه حتى عندما دخل مدرسة ( ألأشبال ألأبتدائية للبنين ) ألتي تبعد عن ألطاطران عدة كيلومترات لتقترب من سوق ( ألشورجة ) ألشهير ، إنقلبت تلك ألألعاب لتأخذ منحا آخرا ، فقد تعلم ألفتى ناصر لعبة جديدة هي أللعب بالكلمات فأخذ يقرأ كل ما تقع عليه عيناه من مجلات لللأطفال مثل مجلة ( سند وهند ) ألتي كانت توزع مجانا على طلبة ألمدارس ، وعندما أيقن أن بإستطاعته ألكتابة أخذ بكتابة رسائل حب إلى صديقات يعشن في مخيلته سرعان ما تحولت تلك ألرسائل إلى مقالات نشرتها له في ستينيات ألقرن ألماضي صحيفة ( ألأنباء ألجديدة ).
كبر ألفتى وكبرت معه أحلامه وهمومه فتنقل مع عائلته من محلة إلى أخرى مودعا ألطاطران ألتي علمته أشياء كثيرة ، ألبساطة ، ألطيبة ، وحببت له كل أنواع ألفنون والثقافات خاصة ألمقام ألعراقي ، لأنها كانت تحتظن تحت سقوف بيوتها ألمتداعية عددا من قراء ألمقام والمغنيين أشهرهم مطرب المقامات ( سعيد بن محمود بن عليكة )
و ( رحمين بن نفطار أفندي ) و ( صالح بن شميل بن صالح بن شمولي ) والمطربة ألشهيرة ( سليمة مراد ) هذه ألأسماء قد تكون غابت عن ذاكرته إلا أنها ظلت نائمة بين حبال حنجرته يترنم بأغانيهم متى ما هاجت ألأشواق به وأيقظه حنين بغداد .
بغداد على طولها وعرضها أحس بأنها حلم يدغدغ كيانه فانطلق في رحابها يحمل فوق أوراقه ودواته عبقا منها حتى تمكن من نشر عدة مجموعات قصصية وروائية وكتب أخرى إحتفى بها بشلة رائعة من ألشعراء والروائيين كما يعبر عنهم في كتابه ( باب ألقشلة ) ألذي يقول في تعريفه : ( أحكي فيه عن أصدقائي وأساتذتي وأقراني من ألمبدعين أفتح باب بيتي وقلبي أمام فاضل ألعزاوي ، وعدنان ألصائغ ، وعبد ألرحمن مجيد ألعبيدي ، ودنيا ميخائيل ، وعبد ألرزاق ألربيعي ، وسعد جاسم ، وحسن ألنواب ، كما أحكي فيه قصة قراءات مهمة في أعمال أدوارد سعيد ، وهرمان هسة ، وجوردن توماس ، وخالد محمد غازي ، وسلام عبود ، ونقاش مفتوح مع لنا عبد ألرحمن ، وفاطمة ألمحسن ، وأحلام مستغانمي ، وباقة ورد في ذكرى جان بول سارتر ألكبير ، إلى جانب مجموعة من ألمقالات أستذكر فيها همومنا وشجون حياتنا داخل ألعراق وخارجه ، عن عالم مغلق للتحسينات لايتحسن فيه أي شيئ ، عن ألف جلجامش يبكي صاحبه أنكيدو ، ومامن أحد يلتفت أليه ) .
وهو في ذروة نشاطه ألأدبي أحس بأن السلطة ألدكتاتورية أخذت تتقرب أليه فهل يهرول عنها بعيدا وهو يعلم عنفها وهمجيتها فهي سلطة غاشمة يعرفها من أولئك ألذين ذوبهم تيزابها وطمرتهم زنازينها كعزيز ألسيد جاسم ، وعشرات كثيرة حملوا حقائبهم وفروا بعيدا في ألمنافي ألغريبة ، كالجواهري ومظفر ألنواب ويحيى ألسماوي ، فتقرب منهم بحذر وشغل مسؤولية إحدى صحفهم ألصفراء ألتي حملت إسم بابل ، قال عنه خضير ميري في تلك أللحظات : ( إن عبد ألستار ناصر أرغم على قبول هذا ألمنصب ) ، بينا هو يقول في كتابه ( صندوق ألأخطاء ) : ( في فترة ألحصار على ألعراق ، تخصّص بعض كُتاب ألأعمدة في ألصحف ألعراقية في كتابة ألمدائح للقائد ألرمز ، فكتبت مقالة / جمعية ألشحاذين / في صحيفة / بابل / أثارت ألكتبة ألمتسولين بكم كبير من ألشتائم والإفتراءات وتشويه ألسمعة عليّ ) ، هذه ألمقالة كانت ألسبب بإبتعاده عن مركز ألمسؤولية بتلك ألصحيفة ، حتى إذا حانت ساعة ألرحيل وجد نفسه يلملم أوراقه ويفر بعيدا عن هذا ألجو ألموبوء بلصوص كهرمانة .
وصل ألأردن وهو غير مصدق أنه رحل بعيدا عن محبوبته بغداد ، يقول ألكاتب خليل صويلح عن تلك أللحظات : ( وفي عمان ألتي إستقر فيها صاحب ( سيدنا ألخليفة)
منذ عقد ونصف، تراكمت ألكتب في مكتبته مجددا ، وها هو يراجع الإهداءات ألتي كتبها أصحاب هذه ألكتب إليه ، بعد ما توزعتهم ألمنافي والمقابر ، وسيتوقف عند بعض هذه الإهداءات منها مثلا ما كتبه علي جعفر ألعلاق : / إلى ألصديق ألمحاط بالزوابع دائما / هذه الكتابات ألمعبرة كانت بمثابة إنقاذ من ألوحشة والعزلة والإنتحار )
قدم في ألغربة أعمالا كثيرة منها : حياتي في قصصي عام 2001 / سوق ألسراي .. كتابات في ألقصة والرواية والشعر 2002 / باب ألقشلة 2003 / حمار على جبل 2004 / على فراش ألموز 2006 / ألحكواتي 2006 / سوق ألوراقين .. كتابات في ألقصة ألقصيرة والشعر 2007 / ألطاطران 2007 / ألهجرة نحو ألأمس 2008 إضافة إلى ما نشره في ألصحف العربية والدوريات ألشهرية ، لكنه يعترف في مقالة له بعنوان / أنا كاتب فاشل / يقول فيها : ( بعد أربعين سنة من زمن ألكتابة وأربعين كتابا حملت أسمي ، رأيت في ساعة صحو أن ألمسافة بيني وبين ألقصة وألرواية لم تزل بعيدة ) ، هذه ألمسافة لم تمنعه من الإعتراف بالفشل حسب قوله : ( أنا كاتب فاشل ، تجاوز عمري ألخمسين ولم أحقق نصف ما حققه غابرييل غارسيا ماركيز أو جان بول سارتر ، وحين أقرأ فرانز كافكا أو إستيفان زفايج أو إيزابيل أللندي أو ديريك والكوت أشعر بالخجل كيف أن أفكارهم أكبر من أفكاري وحبكة رواياتهم أقوى من حبكة كتاباتي ، وقد سألت نفسي مئات ألمرات ، لماذا أكتب إذا لم أستطع تأثيث بيت يسكنه أبطال قصصي كما هي ألبيوت ألتي أراها في نتاج أولئك ألعمالقة ) .
ناصر حاول أن يقول أنه كلما قرأ لهؤلاء ألأفذاذ أحس بفشله وتلك لعمري مقارنة جريئة ستؤول في ألنهاية إلى نجاح حتى ولو قالها الآف ألمرات ، أنه ببساطة لو تطلع إلى ألوراء قليلا لوجد أنه قد تسلم أول مبلغ عن قصة قصيرة نشرها في مجلة ( ألعاملون في ألنفط ) عام 1965 هو عشرة دنانير يقول عن تلك ألأيام :( يومها كنا نشتري بهذا ألمبلغ أفضل بدلة تباع في / أورزدي باك / مع ربطة عنق وقميص ) ، لكنه بعد عدة سنوات قال : ( قبل أيام أسعدني حقا - وأنا أعود إلى بيتي - أن إحدى مجلاتنا وهبتني مبلغاأكبر مما إعتدنا على آخر قصة نشرتها ، فقد كان ألمبلغ أربعين دينارا ، قلت في ذات نفسي ألحمد لله ، بدأنا نكبر في عيون ألناس بعد ربع قرن من ألكتابة )
كان ناصر يتوجس من تلك أللحظة ألتي يكون قلمه مشحوذا بالأفكار وجيبه خالي ، وهذا ما نشعر به وهو ملقى في إحدى غرف مستشفى عمان لانعلم من سيتكفل في علاجه ! ومن سيقول لهذه ألقامة لاتهتم فإن كلماتك قد جائتك بكل هؤلاء الأصدقاء ، فقط لاتتركنا ونقول له مرحبا فقد حملنا لك أكاليل ورد ودعوات بالسلامة .
أحمد فاضل

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved