
( لقد إنطفئوا كقناديل، ولكن زيتهم سيبقى يعطر المكان )
مدرسة المحمودية والتي تأسست عام 1913 في قضاء أبي الخصيب والتي كانت بنايتها عامرة لغاية التسعينات من القرن الماضي, وكما العادة مثل إختفاء كل شيء جميل إختفت وإلى الابد البناية فتعذبت أرواح وتمزقت قلوب بعد أن تحولت المدرسة إلى ذكريات مرة وفصول باكية
في ذاكرة الكثيرين ممن ترددوا على أعتابها او إنتظموا في صفوفها من أساتذة وتلاميذ .
لقد تعاقب على إدارتها مجموعة من المدراء الاجلاء وكان الإستاذ عبد الوهاب الشريدة أحدهم .
في الستينات من القرن الماضي وبعد أن أُصبح متقاعداً، إتخذ من كتابة العرائض وتعقيب معاملات المواطنين في دوائر القضاء الحكومية مهنة لقتل الفراغ وتأمين مصروف الجيب كما كان يردد مازحاً.
في دكانه (مكتبه) المقابل لمجمع قسم من دوائر الدولة آنذاك ( القائمقامية، محكمة البداءة، دائرة التجنيد، دائرة الأحوال المدنية)، كان المكتب أثناء الدوام الرسمي ورشة عمل نشيطة أما بعد الدوام الرسمي وبصحبة مجموعة من مجايليه فتستمر رحلة الحديث الذي يسر الصدور وتنتشي له النفوس وما أن يقفز صوت المؤذن في فضاء القضاء حتى ترى الخطوات تتجه من تلقاء نفسها نحو جامع أبوخفيف أو جامع الصافي وهناك مَنْ ينتظر هبوط المساء فتدفعه النسمة إلى نادي أبي الخصيب، ليخفف عن قلبه هموم النهار الطويل، حيث الحديقة هادئة والنسائم عليلة فيستسلم لبنت الكروم.
في ذلك الزمان كان القئمقام معتاداً على الخروج صباحاً يتفقد سوق القضاء ويتحسس مشاكل الخلق قبل دوامه الرسمي المعتاد، وفي إحدى جولاته وفي اللحظة التي كان فيها ماراً طرق أذنه عجزاً لبيت شعري* ردده أحد الروزخونية متأوهاً ومتحدثاً مع عبد الوهاب الشريدة خارج مكتبه فما كان من القائمقام** وبعد أن أنهى جولته ودخل الدائرة إستدعى حارسه الشخصي العريف أبو زهرة وطاب منه أن يستدعي أباهشام طالباً منه صدر البيت الشعري الذي ردد عجزه الروزخون فكان له ما اراد وبعد يومين جاء أبو هشام بالقصيدة كاملة مكتوبة على رقعة مزخرفة الجوانب وبخط عبد الوهاب الشريدة***( أبو هشام).
إذن، أين نحن الآن من ذاك الزمان الجميل؟.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ـ ماردده الملا (الروزخون) كان: (...وعند صفو الليالي يحدثُ الكدرُ)
وقتها كان أحد مقلدي الطائفة الشيعية في النجف الأشرف قد وافاه الأجل.
** ـ الإهتمامات الأدبية المشتركة طورت العلاقة بين القائمقام وأبي هشام إلى صداقة رصينة أتت بالفائدة على القضاء وأهله.
***ـ كان للديباجة الرائعة والخط الجميل تأثير على المسؤولين.
بيت الشعر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر

