ابتسامة البئر

2008-10-02

لم //api.maakom.link/uploads/maakom/originals/1fc13f7e-28a4-422d-bac7-02d46963f895.jpeg يكن رأى القاهرة إلا في تليفزيونه الأبيض والأسود القديم الذي يتحدى الزمن. يأخذ القطار القشاش المتجه إليها من قريته لكنه ينزل دائماٌ في إمبابة. يتنهد: عالم كبير ليس له آخر!، ويمسح فمه. دائماً يحمل كيس قماش كبير ينبعج من أسفله يفوح منه عبق الليمون. أهالي إمبابة لم يلتفتوا إليه إلا قليلاً. كان قد جاءهم بقطار المناشي قادما من قريته المنسية فربما زادوه رزقاً . أهل المناشي عصروه كما الليمونة قبل أن يشتروا منه. أم هو الذي أراد أن يبخسهم حقهم؟ ليس هذا مما يجب البحث عنه الآن. وكل يوم عندما يعود إليها في ساعة المغرب تستقبله بتجاعيدها ويدها تمتد إلى جيبه ثم تقوم بإحصاء الليمون لتعرف كم باع وبكم!. حاول التكسب من ركاب القطار دون جدوى. اليوم قرر شيئا غير مألوف؛ سيركب أول أتوبيس يتحرك من إمبابة إلى القاهرة.

بدأ الأتوبيس يتحرك فقرر أن يجرب حظه فيه. لم يكن يعرف إلى أين يتجه بالتحديد: إلى الهرم أم السيدة أم الزمالك... لكنه نهض ممسكا بمسند المقعد متكئا بظهره عليه وطلب من الركاب أن يوحدوا الله ويصلوا على الذي سيشفع فيهم... خرج صوته رزينا متمهلاً: معي ليمون طازج تصل رائحته من هنا إلى آخر الدنيا يا حضرات، أي إن الشجرة الأم تحس بليمونها وهو معي في هذا الكيس!

لكن الكمساري القاعد في كرسيه المنبعج أشار إليه ليصمت.

- معي تذكرة يا باشا، أنا لست متسولاً

- وهذا ليس سوقاً ولا قطار أقاليم، ولا أتوبيس قرى!

- ما دمت تضطهدني فالرزاق موجود، أنزلني هنا، أين نحن الآن؟

- ميدان سوريا، المهندسين.

- كلها أرض الله.

ونزل.

الكيس على كتفه ثقيل. لم يبع منه شيئاً بعد. رفع عينيه الكليلتين إلى العمائر الشاهقة والأبنية الزجاجية وتساءل: لماذا نزلت؟. ولام نفسه: بل لماذا ركبت أصلاً؟

الطريق مهول لا يتناسب مع بساطة أمنياته. انحرف إلى طريق جانبي، وواصل، ثم انعطف بين سيارات بلا عدد، متراصة. الشارع هادئ ومريح للأعصاب المهترئة. قال له أحد المارة: هذا شارع عدن.

- أخلدك الله في جنات عدن.

ووضع يده في الكيس وأخرج ليمونتين لكن الرجل كان متعجلا فلم يرد على ندائه!. لمح بدلة سوداء ونظارة وطلعة هائلة . كان متكئا على سيارته يكتب كلمات في ورقة صغيرة يقدمها إلى آخر إلى جواره. اقترب منهما متطلعا إلى أكثرهما سماحة يحدثه كأنما يعرفه منذ زمن:

- يا سعادة البيه! أريد أن أعطيك نفحة وآخذ منك نفحة!

بابتسامة صابحة كالليمون الذي معه رغم أن الفم بلا أسنان فكأنها ابتسامة بئر في صحراء.

- ماذا؟

فأعاد الكلمات. وضع السيد أطراف أنامله في حقيبة سوداء صغيرة وأخرج ورقة نقدية رقص لها قلب الرجل الذي هتف بلا صوت: تسقط امبابة!

ومازالت ابتسامة البئر عذبة، وأصر على أن يقول: لا يا سعادة البيه، لا بد أن تأخذ الليمون مني، أنا لا ...

لكن الرجل بحركة من يده ووجهه أنهى الحديث فأخذ صاحبنا الورقة متأملا عظمتها.

وتشجع.

وأخذ يتحرك منتشيا بين صفي السيارات. وصل إلى مكان كأنه مصلحة حكومية أو شركة خاصة أو... ومن بابه الزجاجي يدخل من يدخل ويخرج من يخرج وينغلق خلفهم بينما تجمع البعض تحت الأشجار كأنما ينتظرون شيئا. هناك من يجلسون على الطوار المقابل، من المؤكد أنهم فلاحون قادمون من بعيد أو صعايدة سمر الوجوه، كل اثنين يتحدثان معا ربما لتزجية الوقت. اقترب من أحدهم وابتسم. جبينه أيضا ينضح بالابتسام. رأسه مستدير وأنفه يكاد يصير أحمر عندما تمتد ابتسامة البئر. والليمونتان في يده: وحد الله يا بلدينا، معي ليمون صابح يعجبك...

لمحه يبادر بوضع يده في جيبه ليخرج منها شيئا من العملة فلم يسكت:

- معاذ الله! أنا أعطي وآخذ. خذ. امسك. هذا حقك.

لكنه لم يلبث أن يأخذ النقود ولا ينقص الليمون واحدة. تعجب: هؤلاء على قد حالهم ومع ذلك يعطون ولا يأخذون. ماذا يفعلون هنا؟ سألهم مشيرا إلى الباب الزجاجي: ما هذا؟

- مستشفى خاص

- أدخل لأبيع؟

فانفرجت الأسارير دون رد.

مشي قليلا وباع الهواء للبهوات المنتظرين والليمون على حاله. سيأتي إلى هنا كل يوم ولن يخبر أحداً.

- في الداخل أيضا منتظرون.

اتجه إلى رجل الأمن وابتسم . كان يشرب الشاي ويتحدث في التليفون. كوب الشاي مليئ والمكالمة انتهت. حياه واتسعت فتحة ابتسامته. خذ يا سعادة الباشا هذه الليمونة هدية لتعصرها على الشاي فلقد لمحتك تعطس!. خذها هدية.

هل أدخل لأسترزق؟

- لا.

- إذن أخبرني وحياة والدك، هل تعملون كل الأيام أم هناك عطلات؟

وابتسامته تنتشر وينتظر الرد .

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved