كان شتاءاً حزينا، لحظات مؤلمة وقاسية، بل أقسى ما واجهت في حياتي، أن أسير في جنازة أعز أصدقائي، صديق الطفولة والصبا ورفيق الدرب وزميل الدراسة، لم نكن فقط رفاقا وزملاءا وأصدقاءا، كنا أكثر من أخوين، كان ظلي وكنت ظله، يفهمني وأفهمه، رحلتنا المشتركة استمرت طويلا، فرقتنا المسافات ولم تبعدنا عن بعض، كنا نلتقي، فكلانا يبحث عن صاحبه، كم من مرة التقينا دون موعد مسبق، كانت الصدفة أو كما يقول هو، "أننا قطبان متجاذبان سرعان ما نلتقي"، منذ سنة 1969 تعارفنا، كنا في الصف الأول المتوسط، أذكر اليوم والساعة والمكان، هناك حيث مدينة الثورة مدينة الكادحين والمثقفين والمبدعين وليس كما يتجنى البعض عليها اليوم، منذ اليوم الأول أصبحنا أصدقاء وكأننا نعرف بعضنا البعض منذ سنين، كان بيتهم ملتقى للمبدعين والمثقفين، مكتبتهم عامرة كما كانت مائدتهم عامرة دوماً، كنا ندرس مع بعض ونتقاسم اللقمة، وما أطيب قلب أم عادل وما ألذ طعامها، أكملنا المتوسطة والثانوية معا، وكانت خطواتنا النضالية معاً، أسسنا فرع اتحاد الطلبة العام في إعدادية طارق بن زياد في مدينة الضباط، التي كانت خالية من أي تنظيم سابق للإتحاد فيها، مما أثار عملنا سخط البعثيين وزمرة الاتحاد الوطني للطلاب، واجهنا المصاعب بروح حماسية عالية، كان هو يتحرك بهدوء بين الطلبة وكسب البعض منهم، كون المهمة صعبة فهناك أبناء الضباط لهم وضع نفسي خاص، ليس من السهولة أن ينجذبوا لهكذا نشاط قد يتعرضون من خلاله إلى مصاعب هم بعيدين عنها، كان نشاطنا الثقافي والسياسي في مدينة الثورة معروفا للعديد من أهالي المدينة، كان محبوبا ومرحبا بالضيوف والأصدقاء، يحس بالجميع ويحب الجميع، ولكون العائلة مهتمة بالشأن الفني، فكانت محط أنظار واهتمام الآخرين، لم يخلو بيتهم يوما من ضيوف أو أصدقاء، وكان هو الابن الأكبر في العائلة وعليه مجاملة الجميع، كان يحس بسعادة كبيرة وهو يلتقي مع الآخرين.
ذهب هو إلى كلية الإدارة والاقتصاد وأنا إلى كلية الزراعة، لكننا تواصلنا في علاقتنا التي كانت تضم رعد مشتت وماهر جيجان وغيرهم، عندما سافرت لأول مرة إلى الخارج سنة 1976م كان هو رفيق السفر، صاحبنا الطائرة بالصدفة العزيز ياسين النصير الذي تعرفنا عليه من خلال الحاج أبو عادل"طه سالم" في المطار وكنا متوجهين إلى برلين، من برلين توجهنا إلى وارشو ومنها إلى عدة دول اشتراكية، أختار هو زيارة دول معينة وسافر قبلنا، بعدها وصلت إلى تركيا، كنت في شوارع اسطنبول أفكر به، وإذا به أمامي تعانقنا وضحكنا كأطفال.
بعد الهجمة الدكتاتورية على الحزب غادر هو العراق مرغما، بسرية دون أن يودعني، لكن أهله أوصلوني عنوانه وسلامه، بعدها غادرت أنا الوطن وتنقلت بين عدة دول وكنت دائم السؤال عنه وهو كذلك، وصلت سوريا سنة 1982م، كنت في دمشق أبحث عنه وإذا به أمامي في الشارع وجها لوجه، سرنا معاً كالأطفال نلهو بفرح، افترقنا من جديد وطال البعد ولكننا اجتمعنا من جديد سنة 1992م في بلغاريا، قضينا سنوات فيها الحلو وفيها المر، توطدت صداقتنا، لم تعكرها الظروف الصعبة.
يفرح لفرحي ويحزن لحزني، تحمل الكثير من معاناة الغربة لكنه لم يتغير سلوكه ولا طيبته ولا أفكاره.
كان الوقت ليلاً، رن الهاتف أعتصر قلبي، لم يكن الخبر قاسيا فقط، لقد شل جسدي، كان بيني وبينه 600كم، أخذت القطار الليلي وصلتهم صباحا، لم يكن عادل هذه المرة في انتظاري كالعادة مرحبا ومعانقا، كان هناك يجثو في المستشفى راقداً رقدته الأبدية، لم أصدق، أهكذا تتركنا دون مقدمات، ما أقسى اللحظة.
سنوات طويلة صعبة مرت، لا زال الألم يعتصر قلبي...!!!
مجدا لك أيها الرفيق والصديق والأخ الحبيب، في ذكراك، وأعلم أنك في القلب وأن أهلك وأصدقاءك لن ينسوك أبداً.