وجّه معهد العالم العربي في باريس تحية إلى سيدات الغناء والشاشة اللواتي أحدثن ثورة في الموسيقى والسينما العربيتين، وضم ملصقات وأزياء للنجمات ومقتطفات من حفلاتهن الموسيقية الحاشدة ونماذج أعيد تكوينها لبعض الصالونات الأدبية، وصوراً مجسمة.
والمطربات والنجمات من أم كلثوم إلى داليدا، يرسمن صورًا ملحمية ومذهلة لمغنيات "العصر الذهبي" للأغنية والسينما العربية، من خلال رحلة غنية بالصور الفوتوغرافية التي لم تُنشر غالبًا، والمقتطفة من الأفلام أو الحفلات الموسيقية، والملصقات السينمائية ذات التألق الساحر. رسومات، فساتين مسرحية رائعة، أغراض شخصية ومقابلات نادرة في المعرض، الذي يعدّ، بحسب نيويورك تايمز، بمثابة عودة مصورة وسريعة إلى الفترة ما بين عشرينيات وسبعينيات القرن العشرين. وهو يصور نساء قمن بأداء فنونهن الجميلة على خشبة المسرح وشاشة العرض من دون خوف من الرقابة، أو الإدانات، مع أنصار حقوق المرأة، والنشطاء السياسيين، ورواد الفنون الذين يواجهون سطوة النظام الأبوي القسرية.
من أم كلثوم إلى وردة الجزائرية، ومن أسمهان إلى فيروز، ومن ليلى مراد إلى سامية جمال ، مروراً بسعاد حسني وصباح، من دون أن ننسى داليدا التي سطعت في مصر. فن هؤلاء المغنيات والممثلات الأسطوريات، ولكنه أيضًا استكشاف للتغييرات العميقة التي أحدثنها.
أيقونات ونساء قويات، ورموز معبودة في المجتمعات العربية ما بعد الحرب، رسخت هؤلاء المغنيات ذوات المهن الاستثنائية وجودهن من القاهرة إلى بيروت، ومن المغرب إلى باريس، وجسدن فترة من الانفعال الفني والفكري، وصورة جديدة للمرأة، وكذلك التجديد السياسي الوطني الذي تم التعبير عنه منذ بداية العشرينيات وحتى السبعينيات، ولا سيما في مصر.
يسلط المعرض الضوء، من خلال هؤلاء المغنيات، على التاريخ الاجتماعي للمرأة العربية وولادة النسوية في هذه المجتمعات الأبوية، ومشاركتها في القومية العربية وفي النضالات من أجل الاستقلال في سياقات الاستعمار وإنهاء الاستعمار، وقبل كل شيء - دورهن المركزي في المجالات الفنية المختلفة التي ساهموا في إحداث ثورة فيها بحسب ما جاء في بيان معهد العالم العربي.
وقالت إحدى القيّمتين على المعرض هنا بو غانم لوكالة "فرانس برس:" إن "الفكرة تتمثل بالتعريف بشخصيات استثنائية أحدثت ثورة في الموسيقى والسينما في العصر الذهبي للعالم العربي، كأم كلثوم وفيروز ووردة وأسمهان، وهن نساء أضحين أيقونات وتحررن من الهيمنة الذكورية، وحققن النجاح بفضل شجاعتهن في عيش أحلامهن".
أفرد المعرض جانباً بارزاً لأم كلثوم. فالمطربة التي لُقبت بـ«الهرم الرابع» وتُعد أشهر صوت في العالم العربي، ليست جوهرة مصرية فحسب. وحينما توفيت في عام 1975، شارك بحر من الناس في تشييعها في القاهرة؛ ولكنّ الحزن عليها عمّ من بغداد إلى الدار البيضاء. وهي جاءت، كما العديد من هؤلاء النساء، من خلفيات اجتماعية متواضعة للغاية، ولأنها مولودة في قرية من قرى دلتا النيل، فقد قدمت أولى أغانيها وهي متنكرة في زي صبي، وغنت أغاني دينية أثارت عواطف الجمهور. وفي نهاية المطاف، ظهرت بصورتها الحقيقية، كامرأة وكصوت، يروي المعرض قصتها من خلال الصور الفوتوغرافية، وأغطية الألبومات، وأغلفة المجلات، ومقاطع الفيديو، والأزياء الملونة البراقة التي تم إنتاجها للفيلم الوثائقي بعنوان «البحث عن أم كلثوم» في عام 2017. والذي أخرجته الفنانة والمخرجة الإيرانية الأصل شيرين نيشات...
ولاحظ عازف البوق الفرنسي/اللبناني إبراهيم معلوف الذي خصص لها أحد ألبوماته بعنوان "كلثوم" في حديث ضمن برنامج "أنتريه ليبر" التلفزيوني أن ما كانت "كوكب الشرق" تتمتع به "من جنون وحرية وقوة شخصية وطبع مميز"، جعل تأثيرها يطال "كل شخص تقريباً في العالم العربي"...
والنساء اللواتي يتناولهن المعرض هنّ أيضا شخصيات ذوات تأثير سياسي، "فأم كلثوم كانت تجسيدا للعروبة" في زمن جمال عبد الناصر. وذكر جاك لانغ، رئيس المعهد، والذي كان وزير الثقافة الفرنسي في ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن الماضي، في مقابلة أجريت معه: أنه عندما كان صبياً يزور القاهرة، تسلل إلى مسرح كانت أم كلثوم تغني فيه، وأصيب بالذهول والتأثر التام مما رأى. وأشار لانغ إلى أن هؤلاء النساء لم يكنّ مجرد مطربات استثنائيات: البعض منهن شارك في نضال بلاده من أجل الاستقلال عن القوى الاستعمارية الكبرى آنذاك، بريطانيا وفرنسا، وانضممن إلى موجة قومية عارمة عمت العالم العربي وقتها. في حين "حملت وردة من خلال أغنياتها قضية إنهاء استعمار الجزائر، ورفعت اللبنانية فيروز لواء القضية الفلسطينية وارتبطت بالفكرة اللبنانية، وتعاونت أسمهان (وهي أميرة درزية) مع الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية"، على ما شرحت هَنا بو غانم، وإذا كانت أم كلثوم وحّدت العالم العربي كله، فإن فيروز جعلت هي الأخرى "جميع اللبنانيين" يتفقون، على ما رأى إبراهيم معلوف في وثائقي حديث بعنوان "ديفا". وشكّلت "سفيرة لبنان إلى النجوم" عاملاً نادراً للوحدة الوطنية في بلد لم يُشفَ بعد من الانقسامات التي مزقته.
كذلك كانت "وردة الجزائرية" (نصف الجزائرية ونصف اللبنانية)، من النجمات اللواتي تحررن من القيود المجتمعية. ففي العام 1972، عادت إلى المسرح للاحتفال بالذكرى العاشرة لاستقلال الجزائر بعدما توقفت عن الغناء بناء على طلب زوجها الضابط في الجيش. ثم انطلقت لإكمال مسيرتها الفنية التي بدأت في سن الحادية عشرة في ملهى والدها "تام تام" في باريس، وعادت إلى مصر حيث كانت دخلت أيضاً عالم السينما. القسم المخصص لوردة، مليء بممتلكاتها الشخصية: النظارات الشمسية، والميداليات، والأقراط، وجوازات السفر، وآلة العود، وحقيبة جلد بنية اللون، ورواية للكاتبة أغاثا كريستي.
وفي المعرض أيضاً مساحة لأسمهان التي كانت حياتها القصيرة بمثابة رواية، بما فيها من فضائح تتعلق بعشاقها والكحول والقمار وغيرها، ومسيرتها كنجمة وراء الميكروفون وعلى الشاشة، ناهيك بتجسسها لصالح الحلفاء .
ومن أبرز النساء الأخريات اللواتي يتطرق إليهن المعرض، المصرية سامية جمال التي أدت داليدا دور منافستها على زوجها في فيلم "سيجارة وكاس" (1954)، في غمرة إنتاج سينمائي مزدهر كانت تشهده القاهرة... وقالت هَنا بو غانم: إن تخصيص جناح لداليدا في المعرض يتيح استقطاب الجمهور الفرنسي العريض "الذي لا يعرف بالقدر نفسه كل هؤلاء النجمات العربيات... وأضافت "أردنا التعريف بها في سياقها المصري، من فيلم 1954 إلى الفيلم الدرامي "اليوم السادس" الذي مثلت فيه بإدارة (المخرج والمنتج المصري) يوسف شاهين عام 1986"، قبل عام من وفاتها، وهي "أصبحت بسرعة كبيرة جسراً بين ضفتي المتوسط"، على ما يؤكد لوكالة "فرانس برس" أورلاندو، شقيق الفنانة الراحلة المولودة في مصر. و"اكتسبت داليدا شهرة واسعة بفعل تأديتها أغنيات باللهجة المصرية، ولكن خصوصاً لكونها مترافقة مع إيقاعات مختلفة، يمتزج فيها الشرقي بالغربي. ويعود استمرار شعبيتها الهائلة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط إلى الأغنيات التي أصبحت أشبه بأناشيد، ومنها سالمة يا سلامة (1977) وحلوة يا بلدي (1979) التي ترددت كثيراً طوال الربيع العربي"، و"كانت داليدا نسوية بسلوكها. كانت امرأة حرة ولم يكن من السهل أن تكون المرأة كذلك في خمسينيات القرن المنصرم .
بطريقتهن الخاصة، كل في مجالها، كانت هذه المغنيات رائدات في النهوض بقضية المرأة في العالم العربي. إذا كانت الأجيال الشابة من النساء في بعض البلدان، وليس في الشرق الأوسط كله، أكثر حرية اليوم، فهنّ مدينات بذلك لهؤلاء النجمات!" .
المصدر: جريدة المدن الالكترونية