أول الكلام :
قبل أيام قلائل مرت ذكرى عزيزة على الشعب العراقي وهي الحدث الأهم في تاريخ العراق، وأعني بها ثورة 14تموز 1958 منذ تأسيس الحكم "الوطني" حين اعتلى عرش العراق عام 1921الملك فيصل الأول (1833- 1933) بن الشريف حسين (1854 – 1931) أمير الحجاز قائد الثورة العربية المخذول من قبل بريطانيا لينفى في قبرص وتوفى في عمان حتف أنفه ليدفن في الحرم القدسي .
وقد أخلف ولدُه غازي ( 1912- 1939) أباه، وقد كان قد رُسّم ولياً للعهد منذ يوم وصوله بغداد أول مرة عام 1924 قادماً من دمشق، عرف عن غازي ميوله الوطنية ومعارضته الشديدة للانكليز وعداؤه لعملائهم وخاصة نوري السعيد، ويبدو أن غازياً ذا الولادة والنشأة في الحجاز قد تعزز اتجاهه العروبي، وفي العراق نمت وطنيته . وكانت مشكلته تكمن في ضعف تعليمه في منشئه قي الحجاز، وفي بغداد تولى تعليمه خيرة الأساتذة لرفع مستواه وكان والده الملك فيصل حريصا أن يكون ابنه معه في الإجتماعات ليكسبه الخبرات وحسن الكلام حتى أدرك ضعفه وخجله وزير المستعمرات في زيارة للعراق فأشار على والده أن يبتعث ولي عهده إلى مدرسة هرو العريقة في لندن ليتحسن مستواه.. رجع إلى بغداد بعد أربع سنوات وأكمل الكلية العسكرية ليتخرج برتبة ملازم ثان، مع دروس مكثفة بالعربية والتاريخ وكان أبرز مدرسيه الإستاذ كاظم الدجيلي..
وقد بدا الملك غازي شديد العداء للإنكليز تجسد ذلك في تكوينه تكتلا مع الضباط القوميين وبدت خطورته عندما امتلك إذاعة راح يهاجم الإستعمار البريطاني ويطالب بإرجاع الكويت إلى الوطن الأم العراق.. وهذا مالاتطيقه بريطانيا وعميلها المتمكن نوري السعيد ولا ابن عمه عبد الإله أخ زوجته الملكة عالية.. فذهب ضحية "حادث اصطدام سيارته في عمود كهرباء" وهناك شكوك جدُّ قوية أن الحادث مدبر تم نتيجة ضربة بآلة حادة في قفا الرأس في مساء الرابع من نيسان 1939..
وقد خلّف ابنه ولي العهد فيصل الثاني (1935 – 1958) وتولى الوصاية عليه خاله عبد الإله ( 1913 – 1958) الذي قتل معه صبيحة الرابع عشر من تموز 1958 مع من قتل من العائلة والطباخ التركي والخادمة.. في مجزرة غير مبررة..
***
كلما يقترب يوم ذكرى ثورة 14 تموز 1958 يصبح الهجوم عليها والطعن بها سمة تزداد عاماً إثر عام منذ غزو العراق وإسقاط حكم الطاغية صدام في التاسع من نيسان 2003 بواسطة الإحتلال الأمريكي، الذي وصفه البعض تحريراً للعراق ! والإستعمار طالما يرفع شعار: جئنا محررين لا فاتحين، وهو الشعار الذي سبق أن رفعه الجنرال مود قائد القوات البريطانية التي دخلت بغداد عام 1917 ووزعه في منشورات بالطائرات على سكانها..
والسبب في تزايد الهجمة على ثورة تموز هو ازدياد ما يعانيه الشعب العراقي من الحكومات المتعاقبة التي جاء بها الإحتلال والذي جعل حالة الشعب تزداد سوءاً؛ ومحاولات الإعلام المشبوهة وبعض الكتاب والمدونين في صفحات الفيسبوك في القاء اللائمة على الثورة التي قضت على الحكم الملكي الذي أصبح يوصف بأنه وطني وديمقراطي، وأصبحت المقالات تدبج لتبييض سجل نوري السعيد العميل البريطاني وتطنب في مدحه.. وتسوِّد صفحة الثورة وتشوهها وتشوه القائد الوطني عبد الكريم قاسم ورفاقه الأبطال، وتتنكر للمكاسب التي حققتها للكادحين (*) ناهيك عن المنجزات التي يشهد بها حتى الأعداء بل تجد من عادى الزعيم وحاول قتله مثل صدام يقر ويعترف بوطنية قاسم ومنجزاته.. بل غابت كلمة ثورة لتحل محلها كلمة انقلاب التي صارت متداولة !!
وما يلفت النظر ويدعو للأسف أنك تقرأ ليساريين ما يثير الغرابة فأحدهم الذي كان حزبيا شيوعيا حتى لوقت متأخر راح يمتدح النظم الرأسمالية ويسب كوبا وكاسترو وينكر لثورة تموز انجازاتها.. وهناك صديق عزيز وقف موقفاً عدمياً من التاريخ، كتب أنه لايهمه التاريخ ولايهمه أن يكون ملكياً أو قاسمياً ! أخونا يعني أن نوصد باب التاريخ ونوافذه ونعمل قطيعة من أجل الحاضر..
أتوقف هنا لأقول أن جدل التاريخ يعني النظرة المادية للتاريخ التي تعتبر التاريخ صراعاً بين السائد البالي وبين الجديد، بين المستغِل والمستغَل بين الإقطاعي والفلاح، بين الرأسمالي ورب العمل وبين العامل.. بين الظالم والمظلوم، وبين الناهب والمنهوب... فكيف يتساوى العميل (كنوري السعيد) والوطني النزيه (عبد الكريم قاسم) ؟
التاريخ هو ذاكرة الأنسان، هل يمكن تصور إنساناً فقد ذاكرته في الحياة، لاشك إن الذاكرة هي الأهم للإنسان الفرد.. لكنها تنطوي على أهمية مضاعفة للشعوب، من يفقد تاريخه سيفقد حاضره وسوف يضيع مستقبله.. فبدلا من أن نوصد أبواب التاريخ علينا أن نفتحها ونجعلها مشرعة للدارسين لنتعرف على مكامن العلل والتخلف والظلام والرياء والأبطال الوهميين والروايات الموضوعة التي ملأت عقول الأجيال،،، ففي التاريخ المعتزلة وشعارهم : لا إمام سوى العقل، وسنتعرف على الكندي والفارابي وابن سيناء والخوارزمي والأهم سنتعرف على ابن رشد ومنهجه العقلي حيث ركز على إعمال العقل لا النقل، لقد ضيعناه وتبنى منهجة الغرب الذي ترجم كتبه ونهض نهضته العقلية، وسنرى أيضا ابن خلدون ونظرياته الهامة في علم سمي علم الإجتماع فهو يعتبر بحق رائده... في تاريخنا سنرى الثورات الهامة مثل ثورة الزنج وثورة القرامطة..
في تاريخنا سنرى سطوة رجال الدين في تحالفهم مع الخلفاء والسلاطين في جورهم وظلمهم لشعوبهم، وفي تاريخنا سنرى الأكاذيب التي ملئت بها الكتب وسنرى أكاذيب المرويات الموضوعة مدفوعة الثمن وما دُسّ في الدين مما ليس هو من الدين في شرح التنزيل وفي الأحاديث والسيَر.. وفي الجانب الأدبي سنرى روائع شعرنا وشعرائنا، وسنرى منهم من تكسب وداجن وكذب وعظم السلطان وسنرى من هجا السلاطين وفضحهم ودفع حياته ثمنا لذلك..
علينا أن نفتح أبواب التاريخ ونميّز بين التاريخ في ظاهره كما وصلنا والميتاتاريخ أي تاريخ التاريخ مدروسا ومقاربا للحقائق.. أي أن نفرز الحقائق لنزيل عنها ركام الكذب والإفتراء..
وها نحن نتكلم عن ثورة تموز العظيمة ونرى كيف تطمس معالمها وتشوه عاما ً إثرعام ولم يمض عليها سوى اثنين وستين عاماً، نتذكر وقائعها وزعيمها وما خاضته من صراعات من شهرها الأول ضد القوى الرجعية والقومية والإقطاع في الداخل وبين القومية الناصرية وشركات النفط والإمبريالية في الخارج كلهم تعاونوا لوأد الثورة.. فكيف نصدق بأحداث من تاريخنا المليء بالصراعات السياسية والمذهبية وما جرته الحروب على الشعوب من ويلات ومآس عبر قرون؟!
بينما نرى من ناحية أخرى المذابح التي رافقت العهد الملكي مذابح ضد الآثوريين في الثلاثينات ومذابح ضد عشائر الفرات الأوسط وقمع انتفاضات الفلاحين في الجنوب وفي دزئي في الشمال ومذابح ونهب ضد اليهود ومجازر ضد عمال النفط في كاورباغي، ومذابح سجن الكوت والموقف العام في بغداد، وإعدام المتظاهرين وأعدام قادة الحزب الشيوعي.. وقتل متظاهري إدانة العدوان الثلاثي على مصر عام 56.. ولست بصدد تعديد مساوىء العهد الملكي ولا محاسن العهد الجمهوري والاّ لاحتجت مجلدات، وأنما تذكرة لمن غضّ الطرف أو أغمض عينيه عن الحقيقة..
وقد قال ماركس قولته البليغة في الثامن عشر من برومير: "التاريخ يعيد نفسه كمأساة أولاً ثم كملهاة ثانيا !!"..
(*) لمن يريد مصادر معتبرة عن الثورة التموزية ومنجزاتها :
ثورة 14 تموز لإسماعيل العارف
ثورة 14 تموز للدكتور مجيد خدوري
ثورة 14 تموز للدكتور فاضل حسين
هذا طريق 14 تموزللدكتور إبراهيم كبة
عبد الكريم قاسم لجرجيس فتح الله
ثورة 14تموز للدكتور عبد الخالق حسين
كتبت في السابع عشر من تموز 2020