فرح معجون بالدموع ..على هامش" 14 ساعة

2010-06-19

من رشا فاضل

 "أخي العزيز , زيارتي ستكون خاطفة وأقضي معظمها في البصرة "
بهذه الكلمات أجابني أخي الشاعر عبد الرزاق الربيعي رداً على رسالتي التي كانت تحمل استفساراً عن جدوله خلال زيارته المرتقبة للمشاركة في مهرجان المربد السابع ... أصبنا بخيبة أمل فالرسالة معناها الضمني انه لن يزور بغداد وربما لن نراه وبأنه سيقضي ايامه كلها في البصرة فقررنا انا واخوتي الذهاب الى البصرة للقاء به لكنه بعد أيام أخبرنا بأن وجهته الاولى ستكون بغداد ثم يشد الرحال الى البصرة .. اذن سنراه بعد كل تلك السنين العجاف التي عُبئت حروبا وموتاً ودماراً جعلها مدة مضاعفة حسب تقاويم أعمارنا التي غمرها الشيب , ستة عشر عاماً لم نره خلالها ولم يجمعنا معه سوى التكنلوجيا عبر الهواتف الأرضية والانترنيت ثم الهواتف المحمولة لكننا لم نره وجهاً لوجه وطالما راودني في منامي حلم تكرر ربما عشرات المرات ارى فيه اني التقي به فأعانقه وأبكي وأتساءل بعد أن أستفيق هل أبكي حقا عندما التقيه؟ "هذا إن كان مقدراً لي أن التقيه في يوم ما " , اذن سيصير الحلم الذي طالما راودني حقيقة بعد أيام ثم ساعات ثم دقائق وها أنا لا يفصل بيننا سوى أمتار قليلة وكنت كلما اقتربت خطوة انهارت رباطة جأشي رغم انني عاهدت نفسي ان لااجعل اللقاء حزيناً وتشوبه الدموع خوفاً على روحه المعنوية التي كان من الواضح انها بدأت تتداعى من خلال رسائله المقتضبة ونبرات صوته عبر الهاتف لكنني لم اتمالك نفسي بعد أن وصلت الى مسافة المترين تقريبا ففرت من عيني بعض الهفوات التي من الواضح انها صدمته مرة اُخرى فكل من يأتي من أخوتي تقفز من عينيه تلك الدموع المشاكسة فيقابلها هو بنزيف من الدموع يحاول جاهداً كفكفتها بمنديله الذي يخرجه بين الفينة والاُخرى لأخفائها عنا , كان مذهولا ومأخوذا ولم ينطق بسوى كلمات قليلة سألته بعد ان جلست قربه ..مابك ؟ هل انت متعب ؟
فلم يجبني ومن الواضح انه كانت هناك أعاصير وزلازل داخلية أوصلته الى ذلك الصمت الغريب , اعادت حالته تلك في ذاكرتي السنوات وتحديدا في يوم سفره عندما رافقته الى كراج العلاوي لتوديعه في سفره الى الاردن انا والصديق جبار المشهداني ووديع نادر وقابلنا هناك الشاعر منذر عبد الحر الذي جاء لوداعه ووداع الكاتبة الراحلة حكمية جرار التي كانت في نفس الحافلة التي تقله مع الشاعرة أمل الجبوري وابنتها الرضيعة آنذاك"ملاك" , كان عبد الرزاق مرتبكاً جداً فقد كان يعرف انه ربما لن تطأ قدماه تلك الارض مرة اُخرى فكان كأنه عصفور جريح فُتح باب قفصه , وحريته تلحُّ عليه بالفرار لكنه يعرف ان جناحيه سيؤلمانه حال تحليقه,ربما الى درجة النزيف , كنت انا سعيداً حينها لانه سيحلق بعيدا عن تلك الزنزانة التي نعيش فيها فالقمع الفكري والظلم والاستبداد كان على اشده وكنا نشعر ان لا هواء على ارض وطننا بالاضافة الى انه كان لأعدام أخينا وقع كبير علينا نفسيا واجتماعيا فكنا نتجنب تلك النظرات التي يرمقنا بها اقرب اصدقائنا بعد ان يعرفوا ان لنا اخاً اغضب السلطة" او اتهم بذلك" فكان اول تبعات ذلك المقاطعة لأنهم يخافون أن يظهروا معنا علناً خوفاً من اتهامهم بالعمل ضد النظام وهم محقون بذلك فثلة الهمج التي كانت تحكم لاتتورع عن القتل حتى للشك باحتمالية كره" صنمهم" , وكان من تبعات اعدام اخينا الكثيرة منعنا من السفر وتكرر ان دُعي عبد الرزاق الى مهرجانات شعرية او ندوات في خارج العراق ولم يذهب بسبب ذلك المنع واذكر اننا كنا نتملص في المدرسة من سؤال يعرفه كل العراقيين يكتب في استمارات كان مجرد توزيعها يشكل رعباً حقيقياً لنا نص السؤال"بالاضافة الى اسئلة ملغومة اُخرى" هو هل لديك معدوم أو معاد للثورة والحزب حتى الدرجة الرابعة ؟ "رافقني هذا السؤال منذ طفولتي وقبل ان اعرف مامعنى الدرجة الرابعة" وكنا نحتار بما نجيب , فان اجبنا بنعم فهذا معناه ان علينا تحمل تلك النظرات المريبة من الأساتذة والطلبة والاتهام المسبق بمعاداة (الحزب والثورة) وان اجبنا بلا فقد يُكشف الامر ونواجه عقوبةٍ ما ان نحن ادلينا بمعلومات خاطئة خصوصاً اننا نوقع في ذيل الورقة على اننا نتحمل المسؤولية القانونية على الادلاء بمعلومات خاطئة, فكنا نجيب بـ "لا" في معظم الحالات ونتوكل على الله تعالى ولايفوتنا ان نعطي رقم دار وهميا للتضليل ولكسب بعض الوقت ان هم دققوا وسألوا وكانت هذه الحيلة تجدي نفعا في اغلب الاحيان , كنت فرحاً لان احدنا على الاقل سيتنفس هواءً ويتخلص من تلك المضايقات المتكررة ومن تلك الاسئلة وذلك الوضع المزري فلم نكن نصدق ان ذلك الكابوس سيزاح في يوم من الايام بعملية جراحية خطيرة مازال العراق يئن منها لذلك فقد كان عبد الرزاق يستبعد انه سيعود فكان يصعد الى الباص ثم ينزل منه متحججاً بتذكر شيئا ما يريد ان يخبرني به, كرر هذا الصعود والنزول ربما أكثر من خمس مرات استدعاني في المرة الأخيرة الى داخل الباص ربما لانه لاحظ ان صعوده ونزوله صار متكرراً ولاحظه الجميع لكن أحد المسؤولين منعني من الصعود فقد كان يشترط على من يصعد أن يكون بيده جواز سفره وتأشيرة الخروج فاقترب عبد الرزاق من الباب ليخبرني انه سلم امي مبلغا ويطلب مني ان آخذ من ذلك المبلغ تكاليف الكاميرا التي كنت قد اشتريتها قبل ايام وقبلها كانت اسباب نزوله مشابهة لهذا السبب فهو يخبرني مرة انه أوصى أحد أصدقائه بارسال صناديق فواكه علي أن أستلمها او ان هناك قميصاً جديداً في خزانته يطلب مني أن آخذه أو يوصيني بمكتبته وأوراقه وكتبه كنت في كل مرة اضحك واقول له "حاضر, لاتشغل بالك بهذه الامور اهتم بنفسك فقط" فيصمت والحزن يلفه ويطرق برأسه كأنه يبحث عن سبب آخر للحديث معي عنه ويكون سبباً مقنعا للنزول مرة اُخرى ... ثم اُغلِق الباب وبدأت الحافلة بالحركة وشعرت ان عينيه ستنقلع من مكانهما وهو يودعنا من خلال نافذة الحافلة التي تحركت مسرعة نحو الحرية .... وها هو الآن بين أحضان الوطن الذي تعرض الى هزات عنيفة بدأ يتعافى منها ويستفيق بشكل حثيث , عندما دخل منزل العائلة كانت ذاكرته متوقفة الى الوقت الذي تركه فيه ففوجئ بتغييرات هائلة فيه الفناها نحن بمرور الزمن وفاجأته هو, أحسسنا حالته النفسية تغيرت فقد أصبح أكثر انفتاحاً واهدأ نفساً لكنه كان يحاول تغيير مكانه وقلل من تأمل المحيط به ربما لأنه أحس انه غريب عليه أو ربما لم يكن مستعدا لتغيير الصورة التي اختزنتها ذاكرته فهو يحن الى تلك الصور أو ربما انه لم يكن يريد التشبع بها والاحتفاظ بها في مخيلته خوفاً من الحنين اليها بعد أن يغادرها وحتى معنا لم يكن يحاول اطالة الحديث ليجعل سفره أسهل عليه وعلينا وهكذا شدَّ الرحال عائداً الى مسقط وكأنه حلم استفاق منه هو واستفقنا نحن منه ووعدنا بزيارة قريبة بعد ان وعدناه ان لقاءنا الآتي سيكون خاليا من الدموع مثلما كان وداعنا له بابتسامات حاولنا أن تبدو حقيقية وبلا دموع .

mohd10002001@yahoo.com

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved