
تقديم
إنه كلما تعلق الأمر باللغة العربية، إلا وانطلقت سلسلة من التساؤلات في زحام المتغير العالمي الذي يفرض المتابعة الجدية والدقيقة للمنتجات المتدفقة كل يوم على الساحة العربية، وهذه التساؤلات تكون غالبا مرفوقة بردود متفاوتة حول آفاق مسايرتها للمصطلحات العلمية : طبية و زراعية و هندسية و تكنولوجية... ، مع بعد منتجات علمائه غير المرتبطة بها والمنبهرة باللغات الغربية، وانعكاس ذلك على مختلف إبداعاتهم العلمية والأدبية ، ...، ومدى ضعف ربط قدرتها بمسارها الثقافي والحضاري والقيمي، والغض من مستوى الأفراد و الجماعات وذلك بالتنقيص من تاريخهم العربي العريق وضرب حاضرهم النابض والعصف بممستقبلهم الصاعد ،...، إلا أن الثابت عندنا هو أن العربية تواجه اليوم تحديات جليلة على كل المستويات والأصعدة، ولكنها على الرغم مما تواجهه من عقبات فإنها وقفت سدا منيعا في وجه كل من يريد المس أو الاطاحة بها أو تخريب ألفاظها أو انتزاع لب دلالاتها أو تفتيت مفاهيمها و سلب ثقة أهلها بها...و هي قبل ذلك و ذاك تتعرض لكثير من العواصف و الأزمات على مستوى طمس طريق النهوض بها و خدمتها من جوانب عدة تركيبية و دلالية و صوتية و معجمية...من طرف أعداء العربية والجاهلين لقيمتها أو الحاقدين على متكلميها...فهل سنظل نطل على هذا الطريق المخرب ساكنين صامتين دون تحديد من المسؤول عن هذه الفوضى؟أم أننا سنتحمس الاقرار بأنها مسؤولية الفرد و المجتمع و الدولة؟.
1- نظرات تاريخية
على الرغم من محاولات التسطيح والاقصاء أوالتجاهل والتهميش الذي أراد خصوم العربية من مربين فاسدين، وسياسيين مفرنسين متعصبين، وأساتذة غير موفين، و فنانين غير أصيلين ، و ...، فإن العربية كانت ومازالت وستظل عالية وراقية في كل شيء ، لأن المصدر الذي تنهل منه محفوظ بإذن الواحد الأحد ، و هو منبع وجودها، وهي قبل ذلك وبعده شكلت قوة ضاربة في الأرض. فمنذ زمن الوحي، وهو زمن الاحساس بقوة الاعجاز اللغوي الذي انفرد به اللفظ القرآني وحده دون غيره من الألفاظ العربية المتداولة على الألسنة من شعر أو نثر...، وهو كذلك زمن سلامة العبارة ؛ بدون منازع ؛ وفصاحة اللسان وسلاسة الأداء ، زمن انسياب الكلمة وانطلاقها من جهاز النطق الانساني بثبات وروية ورونق، زمن بلوغ العرب بالعربية أبهى و أرقى حلة على مستوى الأساليب البديعية والبلاغية والبيانية، حيث أصبحت لا تشوبها شائبة ولا يكدر مسعاها رطانة ولا تمتمة أو تلعثم ...إلى غير ذلك من العيوب النطقية المؤدية إلى فساد في الأداء اللغوي. كل هذا جعل العرب أقدر الناس على وصف أدق الأشياء بلغة راقية شملت مدحهم وهجاءهم وغزلهم كما كانوا في الجاهلية...فنزل عليهم القرآن الكريم مثل الصاعقة لأنه سبب للمتغطرسين منهم والمدبرين عليه خلخلة و تردد في الاعتراف بمصدره، فركزوا كل جهدهم للتقليل من شأنه بقولهم إنه من قول البشر، و لكن حكمة الله تعالى بينت أن معرفة العرب بالعربية لا يمكنها أن تبلغ لغة القرآن المنزل بالعربية كذلك، و هو الأمر الذي جعل العربية تبرز بروزا ساطعا فيما بعد خصوصا على مستوى الكتابة التي أصبحت ذات منحى إسلامي، و هو ما أكدته كتب : الحديث والتفسير و الفقه و أصوله و علوم القرآن خصوصا في القرن الثاني للهجرة و هي الحقبة التي انطلقت فيها حركة التأليف الحقيقية...فبلغت العربية أسمى درجات السمو و الرقي و أعلاها. لكنها و لأسباب عديدة و متنوعة أخذت في الانحدار و التراجع سواء على
مستوى التخاطب اليومي أو على مستوى الكتابة ، مما ساعد كثيرا من المتخاذلين إحداث إذاعات بالعامية و خلق مجلات مكتوبة بكتابة رديئة تمتزج فيها العربية الفصيحة بالعامية ، بل حتى بعض البرامج المرئية نجد من يديرها يحاول إرغام الضيوف للتكلم بالعامية حتى يفهم الناس حديثهم...
لقد خاضت العربية حروبا كثيرة كانت أّلها (مع دعاة استخدام حروف غير حروفها، ثم أصبحت فيما بعد مع دعاة اللهجات المحلية، وإذا كانت المعركة الثانية مازالت قائمة حتى يومنا هذا ، فإن المعركة القادمة ستكون مع الخارجين على منطق اللغة العربية وقواعدها المعروفة )اللغة العربية والعصر؛ صفوان قدسي؛مجلة المعرفة؛العدد 178؛ص.13.وهو ما أصبحنا نشاهده ونسمعه يوميا من خلال البرامج المعدة، والحوارات الاذاعية مع الناس وللناس : والذي يحز في النفس أن تجد بعض الأطباء والتربويين...لا يحترمون لغتهم الأم و يعبثون بمفرداتها وتراكيبها بل ويخلطون بينها وبين الفرنسية ، وكأن قضية استعمال اللغة هي من أجل إيصال المعلومات فقط لمن يهمه الأمر. إن المسألة هي أكبر من ذلك : فازدهار الأمم وتقدمها على كل الأصعدة : سياسيا و اجتماعيا و اقتصاديا و إعلاميا و تربويا...لا يكون إلا باللغة التي تجعل الفرد يرقى في تنظيم كل شيء : في درجات تفكيره و مكنون عقله و صحوة مزاجه و نوعية ثقافته و طبيعة تربيته و قيمة أهدافه و سبل تعامله مع الناس بكل أطيافهم...، و كذا في التحدي الذي يمارسه شباب الأمة في تجاوزهم منطق العربية إلى منطق آخر لا اسم له على مستوى التخاطب و التحاور و ربط علاقات...
و هو ما يؤكد أن زمن السليقة و الفصاحة قد ذهب و ولى دون رجعة لا أمل في إحيائه أو بعثه ، معايشته أو ملامسته أو الاقتراب منه .فما العمل لقهر هذا التدهور البين للعربية و هي في تحد مستمر ؛ على مستويات عدة ؛ لمتطلبات العصر ، و تزايد المقبلين عليها من خارج الساحة العربية من أتراك و أمريكان و يابانيين و كوريين وهلم جرا ...حتى إن برامج عربية تعد و مشروعات تنشأ من أجل تعليم العربية لغير الناطقين بها ، كما أن كثيرا ممن أعدوا هذه البرامج قد استدعوا إلى الخارج لعرض مشروعهم التربوي العربي من أجل تدريس أبناء و شباب تلك الأمم اللغة العربية. بل إن كثيرا من الدول الأجنبية قد فتحت شعبة اللغة العربية في جامعاتها و سيبدأ تدريجيا ؛ حسب الطلب ؛ استدعاء أساتذة لتعليمها ؟
فهل أصبحت العربية لغير العربي مهيأة له في أبهى و أزهى حلة تترجمها البرامج المعدة و الطاقات المتوفرة و المتقاطرة على تعليمها لهم بأموال طائلة ، و المتابعة الجدية و الدقيقة لمتعلميها للرفع من مستواهم اللغوي على مستوى الفصاحة و الكتابة و القراءة؟ألم نكن نحن العرب أولى بهذه المتابعة لأبناءنا و ترويضهم على الفصاحة و النطق السليم ؟ أم أن الفصاحة أصبحت عملة ناذرة في زماننا هذا لا تستعمل إلا عند الاقتضاء؟بل إن رواجها في كثير من المنتديات و اللقاءات العلمية قد أصبح مشوبا بكثير من المفردات العامية أو الأجنبية.و كأن الأمر قد أضحى فنا جديدا يتغنى به و له.
إن أزمتنا ياسادة (ليست أزمة اللغة ذاتها ، و إنما هي أزمة التعامل مع هذه اللغة.أي أن العلة ليست في اللغة ، و إنما العلة في الذين يتعاملون مع هذه اللغة.اللغة صناعة ، و حين يكون الشيء المصنوع جيدا أو رديئا فمسؤولية ذلك تقع على الصانع و لا تقع على المصنوع)اللغة العربية و العصر؛صفوان قدسي؛مجلة المعرفة؛العدد 178؛ص.13.
2- فساد اللسان الذي أنزل به القرآن
فما يمكن القيام به أولا هو تصحيح ما فات من فساد للسان الذي أنزل به القرآن ، ثم رفع بعض من الانحراف ثانيا الذي ضل مسعاه و لم يجد بدا من العودة إلى مساره الصحيح ، و ذلك عبر تقديم مقترحات عملية تسهم في تفعيلها كل الجهات المعنية بالاصلاح ، و هي كل إنسان عربي غيور على عربيته متشبث بهويته مدافع عن مدنيته و تحضره و ازدهاره... عربي تقارب مواقفه مواقف السابقين حينما كانوا يشعرون بمصيبة حلت بهم عندما يكتشفون لحنا في الكلام .فها هو ذا مثال حي من أمثلة كثيرة غيرها مع ابن عمر رضي الله عنهما ؛ كما جاء في الابانة ؛ حينما أتاه رجل يستفسره عن الميراث فقال :
ما تقول في رجل مات و ترك أخوه و أبوه؟فقال ابن عمر : ويحك ، أباه و أخاه،فقال الرجل:فما لأباه و أخاه؟قال ابن عمر أبيه و أخيه،قال الرجل :قد قلت فأبيت.قال ابن عمر: إنا لله و إنا إليه راجعون،ما فاتك من أدبك أضر بك مما فاتك من ميراثك.
إن المسؤولية المنوطة بالفرد تجعله يحتل المرتبة الأولى على صعيد المسؤوليات الخاصة بجهات أخرى غيره،لأنه الوحيد الذي يستطيع قلب الموازين ، و مسايرة ركب العربية بثبات و روية :حينما يكون في بيته بين أقاربه و ذويه فهو يسهم في إنعاشها بما أفاء عليه الله تعالى من علم بها أو بأجزاء من علومها و أسرارها و خباياها.متجاوزا كل العقبات في سبيل إحياء و لو بعض ألفاظها الفصيحة و تداولها على مستوى البيت، و كذا تشجيع النطق بها النطق السليم من طرف الأبناء الذين سينقلون حتما ما تعلموه خلال فترة صباهم إلى المجتمع الذي ستزدهر به رواج هذه السلع الغالية التي لا يمكن صنعها و لو بأحدث الأجهزة إلا من جهاز خص به الله تعالى الانسان وحده ألا و هو جهاز النطق ،و هكذا دواليك إلى أن نجد أنفسنا يوما ما أمام جيل قد تملكته العربية الفصيحة و أصبحت جزءا لا يتجزء من حياته اليومية يعيش بها و يحيا لها.
فالفرد يحمل مسؤولية كبيرة على عاتقه إذا لم يسهم في دفع أبناءه إلى قراءة العربية بشكل يليق بلغة القرآن. و القراءة قراءتان : أ- قراءة لأجل الفهم و الدرس و التحصيلن و التي من خلالها نحاول جهد المستطاع فهم ما نقرأ أولا و ثانيا فهم ما تجسده لنا اللغة من أشكال و صيغ لغوية(إن العلاقة الهامة التي تقيمها اللسانيات هي القراءة التي عرفت منذ زمن طويل ، لكن القليل من يستغلها على نحو كاف.يحس بعض اللسانيين أنه عندما يقرأ الناس فإن الدعوة توجه إليهم عن مدى معرفتهم بأشكال اللغة و استعمالهم لها و فهمهم القليل منها)
Linguistics and reading ;series 1 ;issues in evaluating reading ;roger w.shuy;1977;applied linguistics.
ب- و القراءة الثانية هي من أجل ضبط الحروف و إخراجها الاخراج الصحيح.و قد اهتمت اللسانيات بهذا الفرع من الدراسة؛كما فعلت الدراسات العربية بتخصيص جزء مهم من عنايتها بأصوات العربية قبل ذلك؛ عندما أولت اهتماما كبيرا لعلم الأصوات و الصوتيات و ضبط المدارج و المسارب التي يمر بها الصوت و استخدام التكنولوجيا الحديثة لملاحظة ذلك و ضبطه و البناء عليه،و تخصيص قراءة صوتية لكل مفردة معجمية في بداية كل مدخل معجمي قبل الادلاء بأي شيء يخص تلك المفردة على مستوى الدلالة و أصل المفردة...
3- مسؤولية الدولة
كما انها مسؤولية الدولة بكل مؤسساتها الحكومية و الشبه حكومية و الخاصة ، لأن دورها كبير ؛ إذا هي حملت هذا الهم كما يحمله من له غيرة و شوق لتطريز العربية على النحو الذي كان محققا في السابق، و أخذوا على عاتقهم بجدية و ثقة الدفع بالعربية إلى الأمام ، عبر التخطيط لها و التشاور بشأنها و التجديد على مستوى مقرراتها و بعض قواعدها و إصدار القرار السياسي البناء الخادم لها...ذلك إن سلسلة تعيينات الأطر العليا مثلا المرتبطة بوزارة التربية الوطنية عموما ينبغي أن يتسم بنوع من الحيطة و الحذر ، لأنه إما سيسهم في إحداث تغييرات بناءة و فاعلة ، أو سيعصف بمنظومة التعليم و يسهم في تخريبها كما حدث في عهد عز الدين العراقي رحمه الله ، و الذي بادر إلى تعريب مقررات المواد العلمية في مستوياتها الأساسية و الاعدادية و الثانوية، و لم يبادر ؛لأسباب ربما أكبر منه؛ إلى تتميم تعريبها على مستوى الجامعة ،مما سبب شرخا واضحا ،و ضعفا بينا لدى أبناءنا الذين ؛ و بعد أن ألفوا المصطلحات العلمية المعربية على مدى سبع سنوات ، نرغمهم في الكلية على متابعة البرامج الفيزيائية و الرياضية و المرتبطة بعلوم الحياة و الأرض...بالفرنسية.و هو ما يدفع بكثير من طلبتنا إلى مغادرة الكلية إما بحضور محاضرة أو محاضرتين ، أو بعد مضي سنة أو سنتين دون نتيجة.
و لعل هذا الاشكال العميق الذي يعيشه أبناء المغرب وحدهم دون غيرهم حسب علمي من الأمم العربية، قد خلف لنا جيلا أقل ما يمكن ان نقول عنه كونه مغتربا يجهل الكثير عن لغته و مواكبة المصطلحات الوافدة عليه و الأكثر من ذلك محاولة تفريقه و تشتيته ،و ذلك بجعل الأسر الميسورة ؛ بعدما كان جيل السبعينيات و الثمانينيات يقرأون في الجامعة مع أبناء السفراء و الوزراء و الأمراء ...؛ تنحاز عن الجامعة و تفضل أبواب الخارج أو المعاهد العليا بأثمنة خيالية.و يضل الفقير و غيره من أبناء الطبقة المتوسطة يشجع بدفع أبناءه إلى خوض غمار شبح لا قدرة لهم به ، و لا مفر منه. و بعدما كان يفد على الجامعة النبيه و المجد و المتميز و السمين و المتفوق...تولد عندنا جيل متهاوي و متخاذل بلا توجيه أو تكوين يهرف بما لا يعرف يتيه في أركان الكلية كالبصير ، يأنس بمن حوله من مفاتن و مظاهر عصره غير آبه بما ينتظره من سؤال عن مستقبله و مصيره. فهل من مغيث!!!...
4- مثال من الأردن
إننا حينما نلحظ ما يقع في الأردن وحده نقف مشدوهين للمستوى الرفيع الذي بات يتمتع به أبناء هذا الشعب الشقيق ؛ سواء على مستوى البنيات التحتية ؛على الرغم من ضعف البلد مقارنة بالمغرب؛ او على مستوى الطاقات البشرية أو الامكانات المادية...،حيث نشاهد جامعات مستقلة تماما على مستوى البناء تضم:
- الكليات المختلفة من طب و هندسة و أدب و علوم و صيدلة...
- البنايات الادارية لكل كلية مرفوقة بمكاتب للأساتذة
- سكنى العمداء و الأساتذة و الطلبة
- سكن رئيس الجامعة...
- مطعم و مسجد تقام به صلاة الجمعة و مساحات خضراء
...
هذا إلى جانب ماتحتوي عليه الجامعة من مدرجات رفيعة و قاعات مجهزة و مرافق أخرى كثيرة.
و تضم الجامعة كذلك مؤسسة مستقلة تدعى بعمادة البحث العلمي ،يرأسها عميد و يدير شؤونها خبراء في البحث العلمي يقومون بنشر كل ما يصدر عن الجامعة من مجلات و كتب و دوريات و غيرها.
لقد زرت جامعة مؤتة بجنوب الأردن فانبهرت لنظام الجامعة و انضباط العمداء و الطلبة...،بحيث لا يمكنك أن تجد طالبا قد تخلف عن دراسته إلا لعذر المرض، اما أعذارنا نحن فكثيرة تتمثل في تأخر الحافلات أو انعدامها ، و بعد المسافة ، و الطريق غير الآمن...فكيف نستطيع ؛في ضل ما هو متوفر ؛بناء جيل منضبط ، و متعلم ، و نبيه ، و قوي...كما ان الجامعة تنقسم شقين:شق مدني و آخر عسكري.و يمكن أن تقول الشيء نفسه عن جامعة آل البيت التي زرتها في السنوات الأخيرة، و هي تقع في المفرق الذي يبعد عن الحدود السورية بخمسة عشر كيلومترا.و موقعها شبه صحراوي و منعزل و لكن الحياة العلمية سارية في قلب الجامعة التي تتوفر على كل شيء رغم ضعف الامكانات الذاتية.
فمتى سيتم البدء في إعداد جامعات على المنوال نفسه عوض الكليات متعددة التخصصات؟
4- مسؤولية المجتمع
و هي مسؤولية المجتمع الذي يحمل على عاتقه أمانة الحفاظ على العربية و تطويرها...لأنها الوسيلة الوحيدة لازدهاره و تقدمه ، و ما التواصل بها بكل حرية و تلقائية إلا للتعبير عما يخالج الأفراد و الجماعات من طموحات و أحاسيس و هواجس و عواطف و آهات و فن و فخر...لذا وجب بحق العناية بها لأنها أثبتت عالميتها و صمدت طوال هذه القرون ، و لم تتعرض للانقسام كما وقع للاتينية مثلا التي أخذت منها اللغات الأوروبية فاضمحلت و تلاشت و بقي ذكرها فقط عند من يهتم بتاريخ اللغات ليشير إلى أنها اللغة الأم.أما العربية فما عرفته هو بروز عدة لهجات منبثقة عنها غير خارجة عن أصواتها و لا تركيباتها، و لكن أوجه اختلافها يعود فقط إلى لكنة أصحابها حسب المناطق التي يعيشون فيها و المحكومة بالطقوس و المناخ ...فمثلا سكان الأرياف ليسوا هم سكان الصحراء فاختلاف البيئة مؤثر حتما في اختلاف اللكنة و منطق الكلام و هلم جرا ، و لكن الأهم هو أن أعقد لهجة عربية يمكن لأي عربي فهمها و التواصل مع متكلميها ، و هو أمر خدم العربية في كثير من النواحي أكثر مما أضر بها ، لتبقى العربية اللغة الرسمية لكل الشعوب العربية.
و لعل فساد اللسان العربي ناتج حتما عن فساد البيئة العربية و اضطراب مجتمعاتها و تخاذلهم في مسايرة فصاحة ألسنة المتكلمين الأولين ، و الركون إلى العامية التي أصبحت تغطي جميع متطلبات و رغبات الناطق العربي الذي أضحى مستغنيا تماما عن الفصحى ، دون الالتفات إلى إمكان تعايش الفصحى مع العامية لأن بينهما صلة قرابة و تناسب : فالأولى تصدع باللغة إلى أرقى مستوياتها الأدبية و الفنية و البيانية و البديعية ، بينما الثانية فهي تحافظ على نبرات عربية تراثية لها قيمتها في تثبيت كثير من المفاهيم و الدلالات السياقية في أذهان الأطفال قبل ولوج المدرسة و تضع بين أيديهم لغة سلسة و و ظيفية تسمح لهم بمستويات تواصلية معينة ، و تمدهم برصيد لغوي يستطيعون من خلاله الاستجابة للفصحى بكل طلاقة و أريحية.و يمكن في هذا الصدد التمثيل ببعض المستويات التي قدمت خدمة جليلة للعربية من خلال العامية:
أ- الزجل الذي أحدث ثورة معرفية لدى البسطاء من الناس و العامة منهم بحيث لا يستغنون عن ترديد كثير من قصائد الزجل العربي فيما بينهم و لأبناءهم.و هذا مثال من بعض الحكم الزجلية لعبد الرحمان المجدوب تفرز بعض الفوائد العجيبة للأمة المغربية خصوصا و العربية عموما نقدمها على النحو التالي:
لا تخمم لا تدبر لا تحمل الهم ديمة
الفلك ما هو مسمر ولا الدنيا مقيمة
والمعنى: الأحوال لا تدوم، يزول الهم والغم، ويأتي الفرج والسرور.
يا ذا الزمان يا الغدار يا كسرني من ذراعي
نزلت من كان سلطان وركبت من كان راعي
والمعنى: أن الأحوال والظروف تتغير وتتبدل، وتنزل من كان في المقام الرفيع وتجعل الضعيف مكانه.
راح ذاك الزمان وناسه وجاء هذا الزمان بفاسه
كل من يتكلم بالحق كسروا له راسه
والمعنى: أن تغير الزمان وتقلبت الأحوال فذهب من كان يقبل بكلمة الحق ويستمع إليها وينتفع بها، وجاء زمان فيه أناس يرفضون ذلك.
مثلت روحي مثل الحمام مبني على صهد ناره
من فوق ما باين دخان ومن تحت طاب أحجاره
والمعنى: أن هناك نوعا من الناس صبور يتحمل ويقاسي نوائب الزمان، ولا يبوح بسره، ولا يتحدث على حاله، بل هو ملازم للصمت والسكوت على ما قدر له.
.1 سيدي المجدوب.. أمثال مغربية في المرأة والزمان
عائشة بابوي ـ المغرب
١ تموز (يوليو) ٢٠٠٤
ب- كما يتداولون الأمثال الشعبية المتفشية في المجتمع بشكل مثير للاهتمام كلما دعت الضرورة لذلك و هي تحمل في طياتها لغة جميلة غير رديئة تسهم في ملئ الرصيد اللغوي أكثر مما تضعفه ، و تقوي المخزون الثقافي و تنميه دون أن تحط منه.كما أنما مصدر إلهام لكثير من طبقات الشعب ، و مصدر استشفاء لكثير من مرضاهم :و أقصد أمراض الغيبة و النميمة و المقاطعة و التفرقة و التكبر... ، من ذلك :
- الخاوا حدها الدنيا
- شاور لمرا لا تاخذ بريها
- معرفة الرجال كنوز
- الراجل هو الكلمة
- صاحبك بالربح ماشي بالخسارة
- آش عند الميت ما يدير قدام غسالو
- الطمع طاعون
- لفلوس كادير الطريق فلبحر ( انظر منتديات أهل الصحراء)
و هي أمثال مؤثرة ، و تتخذ كحكمة أو تذكير أو استدلال...في مواقف معينة ، و هي قد تعمل عملها لأنها نابعة من قلب و لب لغة المجتمع المتداولة.و هي تستعمل في كثير من الأحيان لتهدئة موقف أو لتربية الأطفال الذين يتعلقون بها و تبدأ تشكل لديهم قوة في ردع الآخر و صده إذا هو أراد أن يتجاوز حددود...
إن لغة الأمثال الشعبية على الرغم من بساطتها و لكنها تعمل عملها في الناس و المجتمع ،و تمكنهم من نيل أو اتخاذ أو رد...كثير مما قد يسبب لهم الهم و الحزن و الأسى...و هي في الأخير تخدم العربية لأنها تحمل كثيرا من المفردات التي لا تحتاج سوى تحريكها لتصبح فصيحة.
ج- إلى جانب ما توفره قصائد الملحون و الأندلسي و الغرناطي من فضاء ينهلون منه في حلهم و ترحالهم ، و يستخدمونه في أفراحهم و مسراتهم.
1- بخصوص الملحون الذي عرفه الأستاذ احمد سهو م بقوله: إن القول الملحون هو القول البليغ الواصل المقنع.(أصل تسمية الملحون؛نورالدين شماس.)و من هنا ندرك أن وصلات الملحون المتفشية في المجتمع المغربي قد تسهم في أحايين كثيرة الرفع من مستوى العربية إذا ما استغلت لصالحها و أعني إذا استثمرت حكمه و ألفاظه العربية للنظر في بلاغتها و فصاحتها و بيانها.و يمكن أن نمثل بأحد قصائد الملحون الرائعة لسيدي قدور العلمي لنلمس عن قرب هذه المعاني الجليلة:
يا الواجد بالصرخا عن ضيقت الحال
جل مولانا عن شبه المثال عالـــي
غيثني يتفجى كربي نلوح لهـــوال
خاطري يتهنا قلبي يعود سالـــي
لين يركن من بارتلوا جميع لحيــال
عاد منزل ديوانو بلكدار مالـــي
ادخيلك يا سيدي بالأنبياء والارسال
ادخيلك يا سيدي بجاه كل والــي
ادخيلك بالسدات الصالحين لفضـال
ولقطاب ولجراس وساير البدالـــي
2- بخصوص الأندلسي و الغرناطي و كثير من القصائد الشعرية التي تغنى بها كبار المغنين في العالم العربي و التي نجد أغلب رجال و نساء الجيل الذي عاش في الخمسينيات إلى السبعينيات و إلى اليوم مازال يردد هذه القصائد و يتغنى بها ،لأنها تمثل قمة في اللغة و اللحن و الأداء.فما أحوجنا اليوم إلى نصيب مما خلفه لنا الأجداد.الذين إذا تكلموا أجازوا و إذا تغنوا أبدعوا و أطربوا و إذا استمعوا تخيروا فأحسنوا.
و يمكن التمثيل بمقطع من قصيدة في حب سيد الخلق عليه أفضل التسليم و هي بعنوان من حبي في خير الورى:
محمد طبيب النفوس
لاح البدر لما سرى
ويفجي جميع الكروب
كم نبقى بعيدا ياترى
مقيد بقيد الذنوب
أهل الرشد لو علموا
محو كلما أجرموا
حين وقفوا في باب السلام
على المصظفى سلموا
النور للعرش يصعد
في مقعد عظيم
والله يامحمد
في وجهك النعيم
سلم على محمد
في مكة الحجر
واسع الى محمد
كما سعى الشجر
وانشق يامحمد
لأجلك القمر
إن هذه القصيدة جد متداولة على نطاق واسع ، فكثير من المغاربة يحفظونها عن ظهر قلب.و هي من الأدب الشعري الفصيح الذي يخدم اللغة العربية و ينمي ألفاظها و أساليبها.
و من خلال هذه الورقة يمكن تقديم بعض المقترحات العملية ؛ على شكل عناوين ؛ عساها تسهم في تبديد بعض الهفوات و استدراك النقائص و معالجة الفساد اللغوي الذي استشرى في المجتمع العربي :
5- حلول لبعض مشكلات العربية
أ- ريادة الأمة و وحدتها تتطلب شيئا واحدا لا ثاني له : الاهتمام بلغة القرآن ؛
ب- هذا الاهتمام حق و واجب مصداقا لقوله تعالى : (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه ) ؛المائدة:48 .و هو ما جعل عمر عبيد حسنه في تقديمه لسلسلة كتاب الأمة يعلق على الآية بقوله : فإن لغة التنزيل -العربية- تكتسب بذلك خصائص الهيمنة نفسها بالنسبة لسائر اللغات وأوعية التفكير ووسائل التعبير والتغيير والتواصل . نحو تقويم جديد للكتابة العربية
ج- التواصل بالعربية الفصيحة خصوصا مع الأطفال في السنوات الست الأولى و هي المرحلة التي يتم من خلالها تشغيل الجهاز المسؤول عن اللغة في الدماغ ، و هو تحد كبير ، لأن النتائج الناجمة عنه تكون باهرة ، و من أهمها عدم وجود تناقض بين لغة الكتابة و لغة التواصل.
د- محاولة تفصيح العامية بالنسبة للجميع من أجل الرفع من قيمة المفردات التي نتداولها يوميا و التخلي عن كثير من الألفاظ الدخيلة أو الوافدة علينا من جهات أخرى أو التي تم اكتسابها من العامية الرديئة...
ر- وضع استراتيجية واضحة على مستوى وزارة التربية الوطنية و تكوين الأطر و التعليم العالي و البحث العلمي ، من أجل برمجة العديد من الكتب الكبيرة و المتألقة و التي ألفها القدماء مع عرضها للقراءة في مستويات معينة من التعليم ، و ذلك للوقوف على قيمة الألفاظ التي تحتوي عليها و كذا سر الفصاحة و البيان التي جعلت منها مشرقة و رقراقة و جذابة و كذا أغوار التركيبة العربية التي جعلت من النص الذي يحملها وحدة متماسكة...من ذلك: فقه اللغة للثعاليبي ، و تهذيب الألفاظ للتبريزي ،و أدب الكاتب لابن قتيبة،و الجمهرة لابن دريد ، و جواهر الألفاظ لقدامة ابن جعفر ، و الايضاح للقزويني ، و البيان و التبين للجاحظ...بالاضافة إلى معاجم العربية الكثيرة و المتنوعة ، حيث اعتبرت الكتابات العربية الأولى تأليفات معجمية و هي عبارة عن رسائل لغوية من ذلك كتاب الخيل و السيف و الناقة ...لأنها تتضمن موضوعا واحدا تسير عليه ، و هي كتابات يغلب عليها طابع الجمع.
ز- هذا إلى جانب الاهتمام بكتاب الله تعالى و إتاحة الفرصة للأبناء من أجل تلاوته التلاوة الحقة و الترتيل المطلوب ، متجاوزين التلاوة السطحية و الترتيل المعتمد على جهاز النطق و أعضائه فقط إلى إمعان النظر في ألفاظه و الدلالات التي يمكن انتزاعها من تركيبات ألفاظه ، باعتباره نصا صحيحا ، و كيف لا و هو من رب العزة الذي اختار العربية كي تكون لغة كتابه المقدس ، و هو اختيار ينم عن سر عجيب قد تكون من بين عناصره الظاهرة أن اللغة العربية خير لغات العالم على الاطلاق.
س- و لعل فتح الباب أمام جيل من الصغار على الخصوص ممارسة هذا النوع من التلاوة و الترتيل على ما ذكرناه قد يكسبهم منطقا متميزا على مستوى التواصل الكتابي و الشفهي ، فيرتقون بلغتهم إلى أعلى المستويات.
ط- استثمار لغة الشعر و الأدب و الفن الراقية و محاولة إقحامها للتلاميذ عوضا عن لغة الصخب و المجون المتفشية بشكل رهيب.
ع- حث الأطفال على تداول العربية فيما بينهم عوضا عن تداول اللغات الأجنبية الأخرى و ملاحقتهم على استخدامها و التعامل بها، و هي محاولة من بعض الآباء قصد تجاوز النقص فيها أو تجاهلا للعربية كلغة لا تسمن و لا تغني من جوع.و هذا لعمري أصبح دأب كل أسرة مغربية و همها الشاغل،لا تستطيع أن تنفك عنه و تدرك أنها تحارب اللغة العربية دون أن تحس.و هي بذلك تسهم في تخريب لغة أطفالهم الأم و إضعافها،و هم يخربون معها كثيرا من دلالات و معاني و قيم و أحاسيس...
ف- إسهام الأساتذة على الخصوص في جعل العربية محور التواصل في منظومة التعليم : يهذبونها و يشذبونها و يقدمونها في أبهى و أزهى حلة للأطفال و الشباب نقية صافية كي تلج عقولهم و هم منبهرون بها و يتوقون لاستخدامها و هم فخورون بها و يسعون لتوظيفها في كثير من المحافل و المحطات و هم لا يملونها او يريدون النيل منها...
إن مشكلات العربية كثيرة و متنوعة تتطلب جهدا جهيدا من كل الفاعلين السياسيين و التربويين و الاقتصاديين و المربين و التجار و عامة الناس ...لجعلها تأخذ الريادة ، و تصبح مهيمنة على أدمغة و عقول البشرية جمعاء ، يفكرون بها و يعملون لها و يتجشمون الصعاب لأجلها و يتدوقون ألفاظها و أساليبها و تراكيبها...و يعملون على تطويرها و مسايرتها لمستجدات العصر...و سيجدون لا محالة أنها مجيبة مستجيبة لكونها لغة القرآن أولا ، و لأنها ثانيا لغة اشتقاقية غير إلصاقية فغناها لا حدود له.فلغة الالصاق تقتضي الاضافات الخارجة عن اللفظ نفسه لتغني به الدلالة ، بينما اللغة الاشتقاقية فتغنيه من داخل اللفظ عبر تقليبات معلومة دأب علماء العربية و على رأسهم ابن جني على توضيحها و التبويب لها ، و شتان بين الالصاق و الاشتقاق : فالأول خطي يسير في مستوى واحد و الآخر تنضيدي يسير في ثلاث اتجاهات.فلنتجند جميعا لخدمة العربية ؛ كل من موقعه و في حدود مسؤوليته ؛ حتى نعيد لها مجدها و عزتها و كرامتها.
د.عبد الاله الاسماعيلي أستاذ اللسانيات كلية الآداب بمكناس

