
(فاتو) التي أكبر من سنها لكنها لم تصبح أمرأة بعد، ففي مثل هذه الأيام من آب في الخمسينات من القرن الماضي أدخلوا عليها رجلاً نصف معتوه لم يتحدث معها بصوت خافت عن قصص الحب والمناديل البيضاء، قبّلت يده.. توسلت أليه: أنا بنت صغيرة، لم يأبه لذلك بل دعسها بوحشية ليطبق قوانين العنف ويفجر من يومها الخوف في نفسها.
نعم.. كانت أكبر من سنها يوم كنا نحفظ القرآن.. خلّفتنا ورائها أكملت (قد سمع) ونحن مازلنا لم نكمل جزء (عمَ).
نعم.. كانت أكبر من سنها وهي تُخرِج من بين شفتيها الرقيقتين صوت الحروف وبإيقاع يأسر الجميع بما فيهم ( ملاية كنوشة).
دخلت(فاتو) بحزن إلى بيت الزوجية، سنواتها الأولى ضاعت مع زوج لا يحمل لها إلا بعض أقراص من الخبز وثمرة رقي صغيرة صيفاً وأقراص الخبز مع البصل شتاءاً، إلا ماندر!.
جارتها الطيبة (مهجة أم محمد) أعادت دمها إلى الجريان، واستها.. عطفت عليها.. دعتها إلى وجبات وأطباق متبلة.
بعد سنوات من رحلتها هذه ـ وبعد أن إشتد عودها ـ مع زوج لم يوفر لها الحد الأدنى من أسباب الحياة الكريمة وخوفاً من أن تنزلق في دروب الغواية، خيّرت الزوج أما أن يوفر لها ما تحتاجه كزوجة وأما يتركها وشأنها، من يومها والزوج لم يعد، لقد قيل إنه رحل إلى أرض أجنبية.
إستقرت(فاتو) عند جارتها الطيبة (أم محمد) وبعد سنتين على رحيل الزوج الخائب وبمساعدة ممن لا تعرف أرواحهم الحقد ولا الحيلة حصلت (فاتو) على ورقة الطلاق غيابياً.
دخلت (فاتو) عامها العشرين لتُزف إلى رجل أربعيني يملك دكاناً في سوق القضاء، إطمأنت أليه ومحاولة محو الذكريات التي يعذبها سمها، رُزِقت بطفلين، إعتادت (فاتو) وطفليها زيارة أقرباء زوجها في (المعقل) تقريباً كل أسبوع وعند العودة حيث موقف سيارات أبي الخصيب قرب (أسد بابل) كانت تعرج إلى جامع المقام تشعل شمعة وتتمتم بالدعاء.
فجأة وجدت نفسها وحيدة
الزوج رمته السلطات خارج الحدود والأولاد متحفظ عليهم في أحد مراكز الإعتقال.
وفي زيارتي الأولى إلى العراق عام 2005، كنت عابراً جسر(جامع المقام) وقتها كان معي أحد الإخوان وما أن تجاوزنا كتف الجسر وأخذنا الرصيف المقابل لجامع المقام والمحتل من قبل الباعة اللذين فرشوا بضاعتهم عليه، نبّهني أخي إلى أمرأة تستعطي المارة، سألني أخي:
ـ عرفتها؟.
ـ لا، مَنْ تكون
ـ فاتو
ـ فاتو.. فاتو، أعتقد إنها سمعتني وأنا أردد أسمها مستفسراً.
عندها لم يخطر في بالي إلا ما قالته الشاعرة البشتونية:
أجنُّ أجنُّ إذا ما مررتُ بأي ولي وأي ضريح
فأرجمهُ بالحجارة عن كل أمنية خذلتها يداه
وعن كل قلب جريح.