نعم هي الكدية بالكاف لابغيرها، وقد استخدمها بديع الزمان الهمداني صاحب المقامات المعروفة التي يرويها عيسى بن هشام وبطلها الصنديد أبو الفتح الإسكندراني.. وبديع الزمان هو صاحب أدب تأسيسي، وإن شئت فهو رائده باللغة المتداولة في أيامنا هذه.. ثم تبعه متأثرا به الحريري .. وما من أدب عكس حياة الناس وعاداتهم وثقافاتهم وأطعمتهم وأشربتهم وظرفائهم وخبثائهم وكرمائهم وبخلائهم مثل الهمذاني، بل هو المؤسس لأدب الكدية وأصحاب الكدية بحيَلِهم ولغتهم وأساليبهم التي يستدرون بها عطف الناس ويتحصلون مبالغ كبيرة ويتحولون إلى أغنياء في ما يكتنزون ويدخرون فمبيتهم مجاناً من باب العطف وطعامهم من باب أريحية الناس وكرمهم.. ولكن عيشهم عيش فقر مدقع !! فكم من مُكّدي مات ووجد في بيته صُرر من الدراهم والليرات الذهبية مخبأة في الأرض، أو في الجدران أو في حشايا الفراش (الدواشك) بل الأنكى وجد في بيت مُكديّة عُملا ساقطات من أزمان أندثرت أي من قال وبلى !..
ولي في هذا المجال شواهد كثيرة فحين كنت صاحب محل مواد غذائية (سوبر ماركت) في السويد، كنت أشفق على بعض العجائز وأمنحهن بعض (البوليغ) وهي شرائح للحوم وسجق، أوشكَ تاريخُها على الإنتهاء بنصف سعر ووأمنح التي فات تاريخها بيوم مجانا حتى أصبحو لا يشترون منها حتى يترقبون أن أمنحها لهم ! وهمس بإذني بعض الزبائن ممن يعرفهم بأنهم أغنياء للغاية ولكنهم يعيشون معيشة فقر ومذلة، ولله در أبي المُحسّد :
ومن يُنفق الساعاتِ في جمع ماله – مخافةَ فَقرٍ فالذي فعل الفقرُ
***
ولكنني أشفق على الفقراء من كلّ قلبي، ومن يتصورني أنني أتبجح فله الحق في التصور، أمنح الفقير الشحّاذ حتى ولو كان شاباَ قويّا سليم الجسم، لأنني أرى هذا القوي في موضع الفقر والذُّل، وإن شئت فهو في موضع الشفقة، وحدث مرة كنت في محطة وجلس جنبي على المسطبة كاهن، ثم جاء شحّاذ فمددت يدي في جيبي وإذا بالكاهن يخرج عن طورة ويصيح لا تعطِه فهو يتعاطى المخدرات، رددت عليه بأن هذا شأني لستُ طفلاً ولستً أبي، فلحقت الشحاذ وأعطيته ! وتركت الكاهن لأجلس في مكان آخر لكي لايتطور النقاش، حيث ختمت حديث معه أنت كاهن وتخرق قانون الدمّة !!
ما جعلني أكتب عن هذا الموضوع، هو أنني كنت أمشي أمس لأعبر شارع الملك راما التاسع، ولقيت سيدة شابة وقد تضخم بطنها وتحمل بيدها قلائد الياسمين تبيعها للسيارات عند الشارة الحمراء التي تتطول لتصل الى أربع دقائق.. وراحت تتفقد ابنتها ذات الخمس التي أجلستها على مقعد في بارك قريب بما يسمح بمراقبتها، وجاءت لابنتها تكلمها لتدفع عنها الضجر، فرقّ قلبي لهذا المشهد فأخرجت لها ورقة مجزية ورجوتها أن تعطيها للطفلة .. ليس بوسعي أن أصف مشاعر الأم ولا مشاعر الطفلة..
في تايلندا الكدية لاتشكل ظاهرة ملحوظة، والشحاذون يشحذون بصمت.. وفي هذه الأيام أصبح الباعة والحلاقون وأصحاب المطاعم والكسبة، وحتى أصحاب الفنادق والمنتجعات في وضع لا يحسدون عليه، ولكن الحَسَن أنك تجد في مناطق معينة حيث تتبرع الشركات والمؤسسات الحكومية والأهلية بدعوة الناس لتناول أكياس تحتوي على وجبة غذاء كاملة !! ما يخفف عن كاهل الناس، نزلت اليوم للمدينة وقد خرجت لتوي من بنك وحيث كنت أقطع إحدى الساحات، وإذا ببنت تناديني : يا سيدي دونك الطعام مجاناً وتلح (سير فري، يس فري أوف تشارج !).. فلوحت لها من بعد شاكراً، وسالت على خدي دمعة !!!
****
أزعَجُ الشحاذين هم الهنود فهم لحوحون ويُدخلون اللغة الرقيقة والفلسفة في المهنة، فتضطر لمنحهم بعض النقود، ومرة كان طفلا لصق بي ليق( ولصقة جونسون) : ياسيدي نحن في بلد فقير وأنت لاشك من بلد غني فلا أقل من أن تتكرم بدولار، فهو لاشي عليك ولكنه شيء عليّ.. وفي فاتح بور من أعمال أغرا حيث انتهينا من زيارة تاج محل إلى قصور ومقابر ملوك المغول الإسماعيليين، وكانت هناك أحواض (صهاريج) لجمع ماء المطر فلحقنا أطفال يشحذون بطريقة مفزعة : امنحني سيدي روبية لأرمي نفسي بالصهريج ففزعنا حقاً من هذه الكدية وولينا الأدبار! إلى القصور، وتبعنا أطفال وكانوا مهذبين يتبعون وكأنهم صحفيون يوجهون أسئلة لمشاهير! أحدهم استغل طيبة وئام ليقول لها : سيدتي كم قبعتك جميلة ! فقالت له : شكراً، ثم استأنف الطفل : سيدتي أتعلمين أن الهند من أكثر بلدان العالم حرارة ولاشك أن بلدكم أقل حرارة إن لم يكن بارداً، فهلّا سيدتي تكرمتِ علي بقبعتك ؟!
ولكن الشحاذين في مصر لهم أطوار متفاوته بين من هو رث ومن هو أنيق بكامل بدلته مع ربطة عنق !
وإن أنس لا أنس حين زرت السيدة زينب وقررت أن أعطي الشحاذين المتفرقين في الساحة وما أن أخرجت المحفظة حتى وجدتني محاطاً بجمهور من النساء والأطفال : يابية العيال صارلهم شهر ماذاءوش اللحمة حياكلو ويندعولك؛ ياسيدي حلّ ايدك بجاه النبي؛ ربنا يفتح عليك ابواب الخير؛ ولم أخرج من هذه اللمة إلا بشِق الأنفس !
ذات مرّة في ساحة طلعة حرب لحقتني سيدة مهندمة ورشيقة ومكللة بالسواد وجميلة المحيا، فقالت : سؤال يبيه، فتركتها خشية نظرات الناس، فما كان منها إلّا أن تُسمعني : يؤصف رأبتك بجاه النبي..
ولكنني مررت بشارع شريف قرب كشري التحرير، وفي التقاطع مع طلعت حرب، رأيت في عز الظهيرة رجلاً بالملابس الشعبية بديناً تلك البدانة التي لاتنم عن عافية، وشحوب في الوجه مع هالتين سمراوين تحت العينين وزبد أبيض في زاويتي الفم ما يدل أنه مصاب بالسكري، ويمسك بيمينه دفاتر وينادي ولا من سامع ولا من يلقي بنظرة عليه، فاقتربت منه فقال ياسيدي ناوين نبني مسجد وأنا أجمع التبرعات لقاء كمبيلات (وصول استلام).. فأصبح معلوماً لدي فأخرجت له ما يُجزي وقلت له : ياسيدي أنك تجمع وتجهد نفسك فأنت حرّيٌ بأن تحصل على شيء لتأكل وترتاح، فتفضل وأخرجت له ما يعادل خمسين جنيهاً : ومددت له يدي، فبحلق عينيه ورفع حاجبيه وصاح صيحة مفزعة لا أنساها ما حييت : يعلّي مراتبك يا أمير يابن الأمرا !! فتركته على عجل وأنا أسمع كلاما لم أسمعه في حياتي من الدعاء بالخير..
أحسبني أطلت عليكم فصبراً عليّ سأختصر الطريق ولا أروي لكم ما حصل في مسجد سيدنا الحسين وقد اكتسبت خبرة فصرفت مائتي جنيه مني ومن زوجتي، وأصبحت كمية من فرط الجنيهات الى خمس وعشر وحتى عشرين وزعتها وخرجت، وأنا في المُسكي اصطفت كتيبة من الشحاذين من مختلف الأعمار ومن الجنسين، فرمقت شحاذاً نحيفاً مهندما يضع على عينيه نظارتين معتمتين فحسبته أعمى ويلبس بدلة واسعة قليلا عليه مع رباط ملائم فاقتربت منه ودسست في يده عشرين جنيها قائلاً لأجل الحسين، وحين رمقها صاح صيحة مفزعة لا أدري كيف خرجت من هذا الجسم الضئيل : مدد ياسيدنا الحسين !!
28 الثالث من شهر رمضان 1441/ 28نيسان 2020