في شأن "الكتابة تحت الطلب"

2010-04-03
الاربعاء : 3 / 2 / 2010

 

في شأن "الكتابة تحت الطلب"

 

" لم اكتب - يوما - طلبا للمال فحسب

. وإنما لألتزام أخذت نفسي به "

( دستويفسكي )

 

ما هو التزام دستويفسكي ، هذا ؟

بالنسبة لكاتب "خطابات" الرئيس الأمريكي جرج بوش ، أو حتى حيال صحافي محترف يكتب "افتتاحية" جريدة محافظة أو راديكالية ، فإن الموضوع يتعلق بوظيفة .

يقول الأول : "أنا موظف لدى الرئيس" .

ويقول الثاني : "انا أؤدي عملا هو الكتابة مقابل مال .لا تنسى انني موظف!" .

 

اما محمد حسنين هيكل ، الذي كان على صداقة وطيدة مع الرئيس جمال عبد الناصر ، فإنه ذكر ذات يوم ، إنه قال للرئيس الراحل انه لا يكتب إلا ما يعتقده . وكان يردّ على عبدالناصر ، الذي كان يوجهه بكتابة "مشروع خطاب" في مناسبة وطنية ، كتب الرئيس خطوطه العامة .

 

هذه قناعة صحافي محترف ، على غير ما هو سائد في الوسط الصحافي العربي " المحترف"، حيث تسودعبارة " هذه سياسة الجريدة ؟ " لتشكل مدخلاً إلى تواطؤات روحية واخلاقية.

 

ذات يوم ،في سنة 1970، طلب اليً صحافي صديق ، داب على الاعلان انه يساري ، أن أكتب "افتتاحية" مجلة عراقية ،في ذكرى انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 ، الذي أطاح بالجمهورية العراقية الأولى .كنا موظفين في تلك المجلة ، هو بمنصب "قيادي" بتزكية من "قيادي بعثي"، وانا محرر في مقتبل عملي الصحافي .

 

اعتذرت في باديء الامر لهذا الصديق الذي كان من بين صلاحيات منصبه ان يطلب مني ذلك .وحين اصرعلى طلبه ،اعتذرت للمرة الثانية .ولكن امام وعيده بعرض موقفي هذا على ( رئيس التحرير) ، قررت ان اسير الى اخر الشوط ، وقبلت بعرض الامر على رئيس التحرير ( وكان بعثياً ) لكي يحكم بيننا . وقبل صديقي بما اصرّ هو عليه.

 

في مكتب رئيس التحرير ( البعثي ) قلت بوضوح ، بعدما سألني : "لماذا لم تكتب "الافتتاحية" كما طلب منك الأستاذ ( فلان الفلاني ) ، وهي لا تحمل توقيعك ؟": ... "انني تعودت أن اكتب قناعتي . فلم يمض على خروجي من السجن سوى عدد من الاشهر ، وانا احد ضحايا ذلك الانقلاب " .

 

عندها قال رئيس التحرير ( البعثي ) ان الحق الى جانبي . وكتب هو "افتتاحية" ذلك العدد من المجلة ، لكي لا يحرج صديقي ذاك ، والذي كان على استعداد لأن يكتب تلك "الافتتاحية" ، تطابقاً مع الرأي ( المهني ) السائد : " هذه سياسة الجريدة ".

 

وحين كنت اعمل "سكرتير تحرير" لمجلة ( الف باء ) العراقية ،لغاية سنة 1979 ، عرض عليّ "رئيس التحرير" في حينه ، وهو لا يزال على قيد الحياة ، ان اوقع على "مستند صرف"بقيمة 25 دينار عراقي ، لصالح احد"الشعراء" العراقيين الذين يعملون في "القسم الثقافي في تلك المجلة ،مكافأة له على مقال "خارج" صفحات "القسم الثقافي" ، كله ((مديح في مديح للاب الرئيس القائد احمد حسن البكر، وحزب البعث العربي الاشتراكي،وثورة السابع عشرـ الثلاثين من تموز المجيدة)). وكان الوقت في حينه ، هو وقت ما بقي من انقاض"الجبهة الوطنية " المعروفة الاطراف!

 

وكانت المفاجأة انني رايت ذلك "الشاعر" ، الذي اخذ يشيع "معارضته" لحكم حزب البعث ، عندما كان يعيش في لندن مع بداية سنة 1980 ، وهو الان(( ليبرالي للقشر))على حدّ تعبير معروف لصديقنا الصحافي البصري نصيّف الحجاج المحامي ... يهرع ومعه "مستند الصرف"الى غرفة "محاسب" المجلة ، جذلاً كأنه في لحظة التوقيع على " البيان الشعري " المعروف .

 

والشهود احياء يرزقون ، وفي البال مواقف غير هذا. فقل لي مَنْ انت ؟ ومَنْ هم اهلك ... يا ايها "الزمّار المستجد"؟

 

وربما يقول احد ذوي النوايا الطيبة ان ما اعلنه دستويفسكي ، هو على غير ما اذهب اليه ، فاقول : لا . لأن الموضوع لا يتعلق بكتابة تطوعية ، وانما هو من أجل المال . فالموظف في البيت الأبيض يتسلم راتباً شهرياً أو مكافاة سنوية مقطوعة ، جراية لعمله هذا . والصحافي او الكاتب في الجريدة المعنية ، يكتب بناءً على اتفاق مكتوب مع الجريدة.

 

اذن ، المال هو المقصود ، أو ربّاط الفرس ، كما نردد في مأثوراتنا العربية .

وهو ما كان يعنيه الروائي الروسي دستويفسكي . لأنه كان يتعاقد مع صحيفة ما على كتابة رواية تنشر حصريا في تلك الصحيفة ، مقابل مبلغ معين من المال.

 

وكان المال أحد اهتمامات دستويقسكي،عندما كان في المنفى، وفي عالم الحرية ايضا،حيث اختلطت حالته الكحولية بالمقامرة بالكتابة، وهذا ما يتضح من رسائله إلى أخيه "أندريه" ، التي نشرها ناشرون روس والمان وفرنسيون .وحظيت باهتمام خاص من الكاتب الفرنسي أندريه جيد ، الذي سلط عليها الضوء في مجلد ضخم بعنوان : "دستويفسكي"، ترجمه الياس حنا الياس الى العربية ، ونشرته ووزعته دار " عويدات " اللبنانية سنة 1988 .

 

كتب دستويفسكي ، وهو في الرابعة والعشرين من عمره ،" مهما يكن من أمر ، فقد أليت على نفسي أن اصمد بثبات ، وألاّ أسخّر قلمي لأحد ولو انحدرتُ إلى أقصى حدود الحرمان . الكتابة " تحت الطلب " تقتل ، تفقد الانسان كل شيء . اريد لكل أثر ان يأتي جيداً من ذاته ".

 

وقد التزم دستويفسكي بهذا الموقف الى يوم وفاته ، كما يؤكد أندريه جيد .

وهو ما يلتزم به عدد من الكتاب العرب الذين يدركون ان الاخلاص لمشروعهم الاخلاقي والثقافي ، أحد اركانه ألاّ يذهبوا الى ثقافة "هذه سياسة الجريدة " .

 

وعندما يتعين على كاتب ما ، او شاعر ما ، ان يختار ما بين حريته الضميرية ، وبين ثقافة "هذه سياسة الجريدة " ، عليه ان يختار ضميره ، كما اكد دستويفسكي ، وهيكل ، وغيرهما ، ويستقيل من هذا المشهد المهين .

 

ونسجاً على هذا المنوال ، عرف عمود " ذاكرة المستقبل " طريقه الى القراء الكرام ، كما كان في الجريدة الورقية طيلة السنوات الثلاثين الماضية . او كما هو الان بين ايديهم ، بعدما رفض ثقافة"هذه سياسةالجريدة " .

مرحى ، فيدور دستويفسكي !

وشكرا لك ، اندريه جيد !

 

جمعة اللامي

www.juma-allami.com

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved