في تاريخ الموسيقى العربية

2015-01-30
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/9960741c-2477-4390-a998-d147224754f2.jpeg
 قسم اغلب الباحثين عربا كانوا أم أجانب مراحل دراسة الموسيقى العربية إلى أربع او خمس مراحل، مبتدئين بالعصر الجاهلي ثم العصر الإسلامي فالأمويين فالعصر العباسيين، ثم عرجوا إلى انتشار الموسيقى العربية في الأندلس عن طريق الموسيقار العربي "زرياب" إلا إن الباحث بيتر كوسلي هملاند يختلف عنهم حيث ابتدأ دراسته  لتاريخ الموسيقى العربية بعصور ما قبل التاريخ (الألف الثالث، الألف الأولى قبل الميلاد. إذ يرى “إن حضارة عربية كبيرة قامت خلال الألف سنة قبل الميلاد استطاعت إن تؤثر تأثيرا مباشرا على الشعوب المجاورة وأهمها سكان بلاد ما بين النهرين والإغريق والعبريين”.


إن هذا التقسيم الذي أشرت إليه في بداية حديثي يعد أمرا اقل ما يقال عنه انه أمر يفتقد إلى العلمية وهو بحاجة ماسة إلى المراجعة الدقيقة. فالبشرية عاشت في بدائية امتدت بهٍا طويلا كان بها الإنسان يحصل على قوت يومه بجهوده الفردية إلى أن ظهر تقسيم العمل وتغير حال المجتمع وبات يتكون من طبقات. ورغم وجود التناحر بين هذه الطبقات إلا أن الناس تركت الكهوف حين بدأت معالم المدن بالظهور، وترتب على هذا التشكل تراكم القوانين التي تنظم عملية الحياة كفض النزاعات وتقنين العمل وغيرها من مستلزمات العيش. وكانت هذه الأنظمة والشرائع والقوانين تسري ضمن عقيدة دينية يحددها وينميها كهّان يتمتعون بسلطات على درجة كبيرة من الأهمية، كل هذا التراكم ألانجازي الإنساني الذي ظهر بشكل تدريجي اوجد نمطا ثقافيا معينا كانت الفنون من أهم مكوناته، ليس الرسومات والمنحوتات حسب؛ بل الأغاني التي كانت تقدم سواء على شكل تراتيل للآلهة أو في دورة الحياة كالولادة (وما نشا عنها من أغان عرفت بأغاني ترقيص أو تنويم الأطفال) وكذلك الأعراس خاصة الأغاني التي كانت تقدم في كل سنة بمناسبة زواج تموز وعشتار. التي تقام بوصفها امرأ ألهيا واجب الطاعة. وهذا التشكل أصبح سمة عامة تتسم بها الشعوب القديمة كسكان وادي الرافدين، وسكان وادي النيل وحتى شبه الجزيرة العربية التي تقع بين مصر والعراق كانت مركزا تجاريا مرموقا في العالم القديم. أما العرب فقد ورد ذكرهم في التاريخ في النقوش التي يرجع زمنها إلى عصر الملك شلما نصر الثالث سنة 854 ق، م. ثم تردد ذكرهم منذ ذلك التاريخ في النقوش الآشورية والبابلية. ولا يفصل الباحثون في تاريخ حضارة وادي الرافدين وتطور الحضارة فيه عن تاريخ الشرق الأدنى القديم، سورية ولبنان وفلسطين والأردن وما جاور هذه الشعوب كالجزيرة العربية والخليج العربي. فهذه الشعوب كانت تؤلف منطقة واحدة في هذه الرقعة الجغرافية الكبيرة ذات أصل مشترك. ومما  تقدم يظهر جليا، كما اعتقد فداحة الخطأ في عملية تقسيم مراحل دراسة الأغنية والموسيقى العربية التي بدأوها بالعصر الجاهلي، وكأن التراكم الثقافي الذي تحدثنا عنه لا يشمل العرب الذين كشفت الآثار عن وجود ممالك عربية قديمة بنت مدنا وأقامت فيها حضارة  عريقة، وربما  آخرها دولة الغساسنة ودولة المناذرة. يقول العلامة الكبير الفقيد الراحل طه باقر:ـ
“......... وعند ذلك شرع الإنسان ينظر في هذا الكون العجيب ويفكر في الحياة الاجتماعية الجديدة ومعانيها وقيمها واخذ يعبر عن تصوراته وأفكاره والانطباعات التي تركته فيه وسلك في تعبيره عن  هذه الأمور سبيلا مختلفة فتارة كان ينظر الى الأشياء نظرة موضوعية ليفيد من إمكانياتها ويسخرها له فنشأت أسس العلوم والمعارف والأساليب التقنية وطورا كان ينظر إلى الأشياء نظرة خيالية أو أسطورية مثليوجية فيعبر عن مظاهر الكون والحياة تعبيرا فنيا خلفه على هيئة قطع فنية أو أدبية نسميها رسما أو نحتا أو قصة أو أسطورة وكذلك الموسيقى والغناء والرقص. ويضيف الراحل طه باقر: فالشعر منشأه في أدب وادي الرافدين من الغناء أو القصائد الإنشادية  ....... وان كلمة الشعر الموجودة في كل اللغات السامية تقريبا في أصل ما وضعت له الغناء مثل شيرو البابلية وشير العبرية وشور الآرامية وكلها فقدت العين المتوسطة تعني في الأصل الغناء والنشيد ، وشير هشريم  نشيد الإنشاد “ انتهى كلام الأستاذ2 طه باقر.     
إن العامل الأساسي في نشوء الأغنية وما يصاحبها من آلالات والسلالم؛ هو تشكل المعتقدات (الأديان) أولا، وثانيا ما تشكل عبر الأزمان من عادات وتقاليد.  فهما منبع الأغنية اللذان لا ينضب معينيهما. فالأغنية كانت وما زالت رفيقة الإنسان  منذ ولادته وحتى مماته. وقد وصلنا من الآثار الكثير ابما يؤكد ما نذهب إليه. ليس من الحضارة السومرية حسب، بل البابلية، والآشورية، وكذلك دولتا المناذرة والغساسنة. ومن غير المعقول البدء بالعصر الجاهلي عند دراسة تاريخ الموسيقى العربية. فالفترة التي عرفت بالعصر الجاهلي لم تدم غير 122 سنة فقط (500م ،622م) فهل من سبل البحث العلمي أن نسلم بهذا القول فكيف لفترة أمدها مائة ونيف من السنين أن تنجز مسيرة بعمق مسيرة الموسيقى العربية؟.  ومع ذلك لم يصلنا من أخبار هذه الفترة إلا القليل والقليل جدا.
يقول الباحث المستشرق المعروف هنري فارمر في أكثر من موضع في كتابه الشهير تاريخ الموسيقى العربية منه (.. مع ذلك فانه من  الحق القول إن الثقافة العربية لم تبدأ في تلك  الفترة الغامضة التي تدعى بالجاهلية  حينما كانت السيادة اليونانية والرومانية والبيزنطية والفارسية في ذروتها ولم تبدأ كذلك بالسلام ولكنها ترجع إلى فترة قديمة بل سحيقة بالقدم) ومن كل ما تقدم نستنتج إن الراويات السطحية الذي ذكرها بعض الباحثين في شان الموسيقى العربية، وهم كثر، والتي  يؤكدون عليها في كتبهم  ان لا يعول عليها مطلقا في معرفة تاريخ نشأت الموسيقى العربية. وللطرافة نذكر بعض  هذه الراويات.
يحكى إن رجلا يدعى مضر بن نزار سقط يوما من على ظهر جواده او بعيره فانكسرت يداه فصاح من شدة الألم :ـ
 وا يداه وا يداه. ويبدو أن مضر هذا كان كبير قومه فأدركوه وهو يصرخ:ـ و يداه و يداه  فهتفوا:ـ وجدناها، وجدنا ما نحدي بها بلنا فلنقل يا هاديا يا هاديا. وعند ذلك تشكل لون الحداء، وانبعث أول ما عرف العرب من غناء. ومن هذه اللحظة صارت الإبل، حين يحدون، تمد أعناقها ربما طربا ، وترفع رؤوسها ، وتنظم خطواتها. ولا اعرف كيف كانت الإبل تسير قبل أن يقع السيد مضر هذا ويصرخ؟. وعلى هذه الرواية الساذجة عد مضر بن نزار أول من غنى من العرب الرجال أما المغنيات من النساء فهن الجرادتان اللتان تعرفان بجرادتي عاد(تعاد وثماد). وكانتا جارتين لمعاوية ابن بكر. ولا ينتهون عند هذا التخبط بل يقولون إن  أول من صنع آلة العود هو لامك ابن قابيل ابن ادم، لا  لشئ إلا ليبكي على ولده. وقيل بل هو بطليموس الذي صنع العود. أما الطبل والدفوف توبل ابن طق هذا الصانع الماهر الذي علم ابنته ظلال صنع المعازف، أما قوم لوط فقد صنعوا الطنابير.
 بالنسبة إلي فانا لا انتمي لهذه السطحية في الحديث عن تاريخ الموسيقى العربية. فعلم الآثار اليوم يفند كل هذه المزاعم التي لا تستند إلى مسند واقعي يقبله العقل. وارى إن الموسيقى فن عالمي أوجدته الحاجة البشرية، وساهمت البيئة بمعناها الواسع في رسم خصوصية الموسيقى في البلدان، فلكل بلد من بلدان العالم موسيقى تخصه مثل ما لنا من خصوصية في موسيقانا. فهناك أغان لسكان  المدينة، مثلما لبدو  الصحراء أغانيهم التي تختلف عن أغاني البحارة، كما لأهل الاهوار أغان مثلما لسكان المناطق الجبلية. فكل شعب قادر على إنتاج موصفات لموسيقاه تفرضها البيئة بيد إنها تظل على الدوام تتشابه إلى حد ما في الخطوط العامة. فتلاقح الثقافات أمر وارد وثقافتنا العربية لم تصبها العزلة لأنها ثقافة مفتوحة غير منغلقة وهذا ناجم عن حيويتها.
 أقول إننا جميعا مدعوون إلى تحقيق دراسات علمية رصينة مستعينين بعلم الآثار وغيرها من العلوم الإنسانية لإعطاء صورة واضحة غير مشوشة عن مسار موسيقانا العربية التاريخي مبتعدين عن الخطاب التقليدي الضيق.
 
1 وهذا تجده عند:هيكمان ،وشوتان ،سيمون جارجي ،وحبيب حسن توما

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved