أول الكلام :
زماننا هذا الذي نعيش أحسبه هو الجائحة الكبرى، لأنه باختصار زمن لا يسر، وقد لا يفيه تعبير شاع في الثمانينيات "الزمن الرديء" وتحديداً في حزيران 1982 حين اجتاحت القوات الإسرائلية لبنان وصولا إلى حسناء المدن بيروت ! بيد أن تعبير "الزمن الجميل" وهو زمن مفترض يُحَن إليه كلما ساء زماننا الذي ما زال يسوء ويسوء !
أتصفح ما يكتب الأصدقاء، رغم إدماني على القليل منهم.. فأرى ما يُبهج وما يُحزن.. وفي زمننا زمن الموت أصبح ما يحزن أكثر بكثير مما يبهج.. بل تتمنى لو أن لك عين صقر لترى مكامن البهجة، ولا تثريب على أحد إنما للحكمة الضالة منطقها.. فالموت شغّال وسطور النعي تواجهك بيافطاتها السود ! فتتحرر العواطف من عقالها ولا يجد المرء محيصاً عن التعبيرعن مشاعر مواساة صادقة..
لكنني يوم أمس حزنت لصديق ينعى ابنته التي استودعها عند رب غفور رحيم، ومن غير لأيٍ قرأت له : "خطّارك بنيتي الليله يا علي"، وهنا إنفجرت بنشيج وسالت الدموع مدراراً ! وأنا أكتب هذه السطور ما زالت دموعي تنهمر.. أصدق مشاعر المواساة للصديق الأب المفجوع الأستاذ عادل العبادي..
ليس لداعيكم بنت إنما ثلاثة ذكور، باعدت بيننا الجائحة أتصل بهم أكثر مما يتصلون، ولو كانت لدي بنت لأحسبها ما كفّت عن السؤال عن أبيها..
***
من الطبيعي ألا أقصد بالزمان ذاته ولا ألومه وإنما بوقائعه وما يتركه في نفوسنا من مشاعر! والجائحة الوبائية لم تطل الحكام المتسلطين للأسف بل جاءتهم رحمة أو هكذا حسبوها.. وأحسبهم طال زمنهم أم قصر واهمين إن تصوروا أنفسهم في حصن حصين !
ومن الجوائح أن ترى النفاق استشرى تماماً عند كثير من الناس واختاروا الطريق السهل وإلاّ فالأسئلة تتالى : كيف تسلط الحاكمون السفلة بالأصابع البنفسجية ؟! وكيف تضخمت قوى الإسلام السياسي وميليشياته المجرمة ؟ وكيف ساد النفاق الديني ؟ ومن نهب المليارات من ثروات البلد ؟ ومن قايض الوطنية بالعمالة للأجنبي ؟ وكيف توسعت ظاهرة الذيول ؟ وكيف نمت القوى المسلحة وصار لها فضائيون وبرتب عالية.. حتى غدا "جايجي" برتبة فريق ؟! وكيف نمت ظواهر اجتماعية خطيرة لا أقصرها على النزعة العدوانية ولا الإدمان، وإنما أعني بها "العصبية " بكل تجلياتها وأولها الطائفية، الداء المستشري.. والعنصرية للّسان.. والمناطقية، والعشائرية بجانبها السلبي مثل الإحتراب العشائري المسلح، وظواهر "الفصل" الجائر، وشيوع "الدكة" وظلم المرأة ومصادرة حقوقها وحق اختيارها لشريكها.. ومن مظاهرها القتل باسم "غسل العار"، وزيادة الإنتحار خاصة بين النساء.. وخطف وبيع الأطفال أو قتلهم من قبل أمهاتهم.. وتزايد ظاهرة الطلاق بشكل مروّع.. وظاهرة زيادة العنوسة وازدياد ظاهرة البغاء واختلاطه بالبغاء المشرعن "المتعة" وخاصة في مدن العتبات المقدسة.. وهذا غيض من فيض !
وأرجو أن لا يفهم أحد أنني ضد العشائر.. بل العكس يشرفني أن يكون لي من أعيان العشائر أصدقاء، إنما أرى أن هناك ظواهر أيجابية يمكن أن تلعبها العشائر في المجتمع حين تكون أداة فاعلة ضد الظلم، وحين تكون أداة ثورية ضد الحكومات الفاسدة، فمن ذا الذي يستطيع أن يتنكر لثورة العشرين ولانتفاضة آل ازيرج وفلاحي دزئي.. ومن ينكر دورهم في انتفاضة أذار (الشعبانية) ضد حكم الطاغية البائد !
ألمس ظاهرة التعصب لابن المدينة؛ فانك معرض للتشويه حين ترفض صداقة أحد أو تنهي معه علاقة بسبب النفاق والتملق الزائف.. وحين ترى أكثر من شخص يمجّد هذا الوزير أو ذاك السياسي لأنه ابن "ولايتنا"!! وظاهرة التحزب العشائري مستفحلة في بعض المدن حين طلب صداقتي صديق هوايته نبش الماضي وحث بعض أقاربه لطلب الصداقة وحين كنت أدعو في مقال على تناسي سلبيات الماضي انزعج ابن الحمولة وهجر الصداقة غير مأسوف عليه هو وأقاربه !!.. هذه العلل مستفحلة وينساق لها بعض من يتصور نفسه مثقفاً للأسفً !! وفق قول الشاعر:
إذا غضبت عليك بنو تميم – حسبت الناس كلهمُ غِضابا
ومن الطبيعي أنني لا أعني العشيرة الكريمة بني تميم؛ ومن آيات الإنقسام الإجتماعي ظاهرة "مثقفي" الخارج و"مثقفي" الداخل .. وهل هو مثقف حقاً من يركن لمثل هذا التقسيم ؟! وهو لا يختلف عن عقلية الساذج الذي يصنف الناس هذا ابن ولايتي وذاك لا ؟! وكأننا ناقصو تقسيم وفرقة !!
النفاق مستشر حد النخاع بل تراه موجوداً في العائلة الواحدة للأسف، ولا أتأسف على صديق لا يعرف معنى الصداقة ! ويجعلها مشروطة بتوافق الرأي والمزاج ! وأحسب أن شجرتي تضخمت وبها أوراق صفر سيسقطها الشتاء لا محالة، وأختم قولي بمثل عربي سائر:
{ إنما تأكل الذئابُ من الغنم القاصيةْ }
21 ت1/أوكتوبر 2020