تقدم الشاعرة الجزائرية الشابة سيليا عيساوي نصا شعريا مغايرا في التقاطه للفكرة وفي صياغته للرؤية، هذه الرؤية شديدة الجرأة والتمرد والخصوصية بما تحمله من اشتباكات الذات الأنثوية مع الأنا والآخر والواقع الذي يحيطهما، يضيء النص ذاتا تبحث عن تجليات وجماليات فرادتها الإنسانية والفنية، ويتسم برقي في لغته وتشكيل صورته الجزئية والكلية، ويبتعد عن الانفعال أو الافتعال على الرغم من جرأته التي تتسم بالقسوة أحيانا. على أية حال فإن الشاعرة تسعى إلى خلق تجربة شعرية تتمرد وتتجاوز التجارب السائدة داخل المشهد الشعري العام سواء في الجزائر أو غيرها من البلدان العربية. حاورنا عيساوي التي تعرفنا على نصوصها على صفحة "بيت النص" على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك ومدونتها، انطلاقا من رؤاها وأفكارها حول نصها الشعري وما تطمح إلى تحقيقه من خصوصية لتجربتها.
بدايات عيساوي الأولى مع الكتابة جاءت عبارة عن تدوين أهم اللحظات والمحطات التي مررت عبرها، لتجدها شيئا فشيئا تكتب نصوصا نثرية يتخللها بعض الإيقاع. فقامت بعرض بعضها على الكاتب والإعلامي الجزائري سعيد بن زرقة الذي وجهها إلى قصيدة النثر. ثم قامت صفحة "بيت النص" بنشر نصوصها التي حققت تفاعلا واحتفاء واسعا من قبل الشعراء العرب على اختلاف أجيالهم، وكان أول نص نشر لها عبرها "امرأة بنصف قلب":
أنا امرأة بنصف قلب
أتنفس برئتين مثقوبتين
وأمشي بساقٍ مهترئة
أقضم أصابعي عند الغضب
وأحك قلبي كلما توجعت
وحينما يحل الليل
أفعل كل ما يفعله
النساك والعباد والكهنة والمجانين
أكتب الشعر
أصلي بلا وضوء
أرقص بصخب في الظلام
أنكش شعري
أنفث الهواء من حولي
أفرقع أصابعي
أصنع بالونات من اللعاب بشفتي
أقيس المسافة بين قلبي وبين الأرض
أهوي على الأرض
وأرتشف سقوطي
بنفس المرارة الأولى
أرتشفه
بنفس الحرقة الأولى
بنفس الوعكة الأولى
ألتقط دماغي من على الارض
أرفع رأسي باشمئزاز
من اكتشف أن في عباءته عناكب
أعاين السقف
أعاين الجدران
أعاين الباب
أعاين المقبض
أدور حول نفسي
أبكي بعيون مغمضة
وأصرخ :
ودي لو أخلع عني الوجع
كما يخلع مسن طقم أسنانه
ودي لو أرفع عني الوجع
كما يرفع الجندي
في تحية العالم طاقيته
ودي لو أسقط عني الوجع
كما يسقط العاشق
حمالة الصدر عن محبوبته.
أتحسس بيدي ظلي الباهت
بأناة على الجدار
ألعق من على خدي
ما تبقى من ملوحة الدموع
وأهمس إلى نفسي بخفوت
وعيناي شاخصتان إلى ظلي على الجدار
كان الله بإمكانه أن يشكلني على هيئات عديدة مختلفة
كأن أكون مثلا
صخرة من الكلس
أو جذع شجرة محترقة
أو مقبض باب من حديد
أو ستارًا مسدلاً
أو شباكا مشرعا على هاوية
أو شارعا لا يؤدي إلى هدف
لكنني مع ذلك
أصر على أن أكون
امرأة بنصف قلب
وساقٍ مهترئة.
تقول عيساوي أن هنالك مقولة فلسفية صحيحة برأيي تقول: إذا أدرت أن تقتل فكرة فعبر عنها. وكثيرا ما تعترك في بالنا أفكار عديدة، لكننا أحيانا نجدنا عاجزين عن التعبير عنها حتى بلغة بسيطة وسهلة. أنا أجد أن اللغة نفسها كثيرا ما تقف عائقا أمام تدفق الأفكار. فما بالك إذن بتقييد هذه الأفكار بوزن وقافية وتفعيلة. أفضل أن تكون الكلمة حرة طليقة تتقافز مثل كرة في السماء دونما أي قيود وأرى أن تقييد الشعر بالوزن والقافية والتفعيلة يعني تقييد المشاعر. وما الشعر إذن؟ ما الشعر إن لم يكن صدقا وتجربة ومشاعر.
وتشير إلى أن جرأتها وتمردها وسعيها لتخليق تجربة مغايرة أمر طبيعي وليس جديدا، فالأدب والشعر وأي مجال فني عامة لا يستطيع الوجود بل لا قيمة لوجوده إن لم يكن جريئا ومتمردا. وأظن أنه لا يخفى على أحد العلاقة الوثيقة بين الجرأة والتمرد والإبداع، كما أنه لا يخفى على أحد أيضا أن أي انخفاض القدرة الفكرية يقابله بالضرورة الكبت والقيد، وما الكبت إلا مظهر من مظاهر تقييد وعرقلة النمو العقلي والفكري. فمن لا يتجرأ ويتمرد ويكسر القواعد المتواضع عليها لن ينتج شيئا وإن حدث وأنتج يكون منتوجه منتوجا نمطيا، مستهلكا ومبتذلا. فكل نشاط فكري أو أدبي يحتاج إلى تجديد والتجديد يتولد من الجرأة والتمرد. أما فيما يخص العالم الذي تتخلق فيه نصوصي فهو عالم محب للتجربة والتجديد والمغامرة وعالم عطش للاكتشاف وللمعرفة بكل أنواعها.
وحول ما إذا كانت نصوصها تتماس جرأتها مع جرأة شاعرات مثل الشاعرة مرام المصري وشاعرات أخريات خاصة فيما يتعلق بالأنوثة والجسد، تعترف عيساوي: بصراحة لم يسبق لي وأن قرأت للشاعرة مرام المصري. لكنه سبق لي وأن قرأت نصوصا كثيرة لشاعرات صاعدات أذكر منهن الشاعرة العراقية نور درويش. هؤلاء الشاعرات حملن لواء التمرد ولم يتحرجن في التباهي بذكر الجسد الأنثوي وصفاته في قصائدهن. فهن يعتبرن كما أعتبر أنا كذلك جسد المرأة ثورة لا عورة. أما نصوصي فهي نصوص تولدت من إحساسي ورؤيتي الخاصة لما تمر به المرأة العربية في مجتمع متخم بالتناقضات. مجتمع ينظر إلى المرأة على أنها مجرد جسد ولكنه في المقابل يريد أن يتحكم ويتصرف في ذلك الجسد.
وتتذكر عيساوي أن ولوجها لعالم القراءة في مراهقتها كان مع الروايات الفرنسية والروايات المترجمة للفرنسية مثل روايات مولود فرعون وألبير كامو وباولو كويلو.. وغيرهم. إلا أن هذا الاهتمام بدأ يضمحل شيئا فشيئا خاصة مع تخصصي أستاذة أدب عربي في الجامعة.
وتنفي عيساوي أي تأثر للأدب الفرنسي على نصوصها، وتوضح "نصوصي كلها وليدة إحساسي الخاص وتجربتي الشعورية وإن كان هنالك تأثير عليها فقطعا التأثير يكون تأثيرا عربيا بحتا ساهمت به أقلام عربية خالصة أبرزها محمود درويش وإيمان مرسال ومحمد آدم وغيرهم.
وترى أن المرأة في العصور البدائية كانت السيدة والإلهة والطرف الذي ينسب إليه النسب إلا أن الرجل لم يستطع أن يقف مكتوف اليدين إزاء هاته القوة التي اعتبرها منافسة ومهددة له، فاستطاع بطريقة ما أن يجردها من كل حقوقها وأن يجعلها أداة تابعة وخادمة له. الآن مع التقدم الصناعي والتطور التكنولوجي والثقافي استطاعت المرأة أن تسترد بعض حقوقها شيئا فشيئا، واستطاعت أن تتحرر من قيود المجتمع، وأن تصنع لنفسها مكانة حيث صار بإمكانها الخروج للعمل والسفر والمشاركة في مختلف الأنشطة الثقافية والسياسية والاجتماعية. إلا أن هذا لا ينفي وجود نسبة كبيرة معتبرة من النساء اللواتي يتعرضن للاستبداد والظلم خاصة في مجتمعاتنا العربية. فالمرأة إذن بشكل عام والمرأة العربية بشكل خاص مازالت حبيسة القيود والعادات والتقاليد مازالت مقيدة ولم تتحرر بعد من قبضة الرجل كليا. ونقطة أخرى مهمة أريد أن أتطرق إليها: أنا أرى الرجل الذي يمنع المرأة من مزاولة دراستها أو إكمالها بالإضافة إلى أنه رجل ظالم ومستبد فأنه رجل في قمة الذكاء لأنه يدرك جيدا أن المرأة يستحيل لها أن تتحرر وتخرج عن سيطرته إن لم تتعلم وتتثقف.
وتعترف عيساوي: لا أذكر أني كتبت نصا من قبل دون أن أبكي. فكل نصوصي التي كتبتها كتبتها وأنا أبكي. ربما هذا ما يجعلها تبدو تلقائية جدا وذاتية. فرغبة الكتابة عندي تأتي مرافقة لرغبتي في البكاء. ربما أستطيع أن أختصر كل هذا الكلام في عبارة واحدة: "أنا التي كلما تعرضت للأذى رددت على الأذى بشهقة ونص".
وتؤكد عيساوي أن المشهد الشعري في الجزائر مشهد متنوع وحاضر بكل أشكاله الشعرية: العمودي والحر وقصيدة النثر. ولا يزال هنالك الكثير من الشعراء الذين يكتبون الشعر العمودي بامتياز مثل إبراهيم صديقي وزبير دردوخي دون أن أنسى الشاعرة الشابة الجميلة حنين عمر، أما فيما يخص الشعر الحر فأخص بالذكر إحدى أشهر الروائيات الجزائرية الأديبة والشاعرة أحلام مستغانمي في ديوان لها "على مرفأ الأيام". وأخيرا وفيما يخص قصيدة النثر فكانت نتيجة رغبة الشاعر الجزائري في الخروج عن كل القوالب الشعرية ومخالفة الذائقة الشعرية وإحداث المغايرة من أجل تحطيم النموذج القديم. ولقد كانت بداية ظهور القصيدة النثرية في الجزائر سنوات السبعينات مع ميلود حكيم وعبدالحكيم شكيل وكذلك الأديبة والروائية ربيعة جلطي.
وترى أن الحراك الثقافي في الجزائر حراك منتعش وهنالك مبادرات عدة تنم عن وعي الفرد الجزائري ورغبته الملحة في الثقافة والتغيير. تتمثل هذه المبادرات في أفكار جسدها شباب جزائريون على أرض الواقع كمبادرة "خذ كتابا وضع كتابا" أو ما يسمى بمكتبة الشارع، ولقد لاقت هاته الفكرة مؤخرا انتشارا واسعا بين الولايات الجزائرية. كذلك أريد أن أشير إلى دور وزارة الثقافة التي عنيت بشتى أنواع الثقافة والفنون كالرسم والمسرح والموسيقى وعملت على تقديم دورات مجانية للملتحقين أطفالا كانوا أم شبابا. فالحركة الثقافية والإبداعية في الجزائر عرفت تطورا ملحوظا في الآونة الأخيرة وبزغت قوة شبابية أبدعت في مختلف النشاطات الفكرية والثقافية، وكأنها أردت بطريقة ما أن تعوض عما فات الجزائر في فترة الاستعمار الفرنسي.
وتلفت عيساوى إلى أنها من المتابعين الجادين لحركة الشعر العربي، وأنها لا تهتم كثيرا بالآراء النقدية وتقول: أرى أنه ينبغي على كل أديب أو شاعر أن يكتب فقط ليستمتع، فأنا أكتب عندما أعجز عن دفع رغبتي في البكاء. أكتب حتى أشعر بالخفة أكثر. أكتب ببساطة حتى أتمكن من أن أطير. وأرى أن الحراك الشعري العربي بشكل عام في تطور مستمر فلقد اشتدت المنافسة الشعرية بين أقلام عربية متنوعة الجنسيات. أذكر منها الشاعر المصري أحمد سلامة الرشيدي والشاعرة العراقية نور درويش والشاعر السوري رأفت حكمت وكذلك الشاعر الفلسطيني عرفات الديك. كل هؤلاء وغيرهم من الشعراء العرب الكثر أتابعهم وأترقب جديدهم بكل لهفة.

ميدل إيست