أول الكلام:
من المفارقات التي حصلت معي طيلة عمر ناطح السبعة عقود، هو أنني زرت معظم بلدان العالم وكتبت عنها ونشرت جزءاً يسيراً مما كتبت، ولدي مخطوطات عديدة تتضمن انطباعي عمّا زرت ومكثت ببعضها لحد اللحظة، متمنياً أن أزور البقية قبل أن يختمر عجيني ويحترق ليصبح رماد ا! فالذئب الأمعط ينشط في العالم ولا يفرّق بين بلد غني أو فقير ولا يتعب ولا يشبع خاصة في زمن الكورونا الماحقة !!
ووجه المفارقة الآخرهو أن أخاكم لم يزُر بلده إلّا جزءه الأصغر، إذ لم يزر من مدنه التي عرَفها تمام المعرفة إلا مدناً لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، فأقصى ما زرت شمالاً خانقين وجنوباً الديوانية ! فقد منّيتُ نفسي أن أزور البصرة وكورنيشها وحديقة السندباد وتمثال السيّاب وأم البروم وسوق الهنود والبصرة القديمة وأذوق حلاوة نهر خوز حيث تُصنع! وأزور الناصرية وساحة الحبوبي وشارع الهوا (الممدود) وليس المقصور.. وكم تمنيت أن يكون مقصوراً ولله در الشاعر عرقلة الدمشقي الذي وصف المروحة اليدوية :
ومحبوبةٍ في القيظ لم تخلُ من يدٍ - وفي القر تجفوها أكفُّ الحبائبِ
إذا ما الهوى المقصور هيّج عاشقاً – أتت بالهوا الممدودِ من كل جانب
وما زال توقي لزيارة العمارة التي فتنت بها المرحومة والدتي وهي لا تنسى إطلالة غرفتها على النهر في سياحة مع الوالد لزيارة كل جنوب العراق ! .
ولا يقل شوقي لزيارة السماوة ونخلها والموصل أم الربيعين أن أمكث بها لا أن أمر بها مرور الكرام .. نعم أشتاق لكل بقعة من شماله العزيز إلى جنوبه الغالي...فلم تسنح الفرصة فقد غادرت العراق بعد تخرجي ولم أعد اليه إلّا لسنوات قليلة .. ثم هاجرته مع من هاجر إثر هجمة البعث الحليف بداية عام 1979.. ولا أظن ستكتب لي زيارته ..
***
ما أكتبه عن هيت جاء عقب حديث مع صديق لم التقه قط، فترك انطباعا جميلاً كما أن لي صديق هيتي قديم روائي بارز طالما يحدثني عن هيت حين نلتقي ويختم الجلسة بغناء شجي بصوته الساحر.. ورحت أتذكر مقهى الهيتاويين في محلة الصدرية الذي كنت أرتاده وأنا طالب في بعض الأحايين ..
في مدرسة الصويرة الإبتدائية كان يشاركني الرَحْلة زميل لثلاث سنوات اسمه الكامل كصاحبة منقوش في الذاكرة كبقية أصدقاء أعزاء مازلت أسعد بالتواصل معهم إلاّ صديقي العزيز موفق أحمد زكي أمين . وكانت علاقتي به تتجاوز الزمالة إلى علاقة بين أسرتينا.. كان موفق غاية في التهذيب والوداعة، فقد كان يجلب وحدات من اليوسفي عندما يقشرها في فواصل الدروس تمتلىء قاعة الدرس بعبق لذيد كطعم اليوسفي الحلو (اللالنكي) وكان يخصني بواحدة كاملة ويمنح الباقي بعضاً من الواحدة، وحدث مرة أن لم يبق لنفسه فأرجعت له ما أخذت فأبى.. فأصبح يدعوني لبيتهم الجميل لنقطع من الأشجار.. كان البيت تابعا لدائرة ري الصويرة حيث كان والده مهندس الري مدير الدائرة، أنتقل موفق فافتقدته بحق . عرفت لاحقاً أن موفقاً هو الشقيق الأصغر( للبطل الشهيد خالد أحمد زكي استشهد مقاتلا في هور الغموكة يوم 3/6/ 1968) من سكنة هيت .
وفي الجامعة تعرفت على هيت من خلال بعض الأصدقاء الطيبين ومنهم عرفت أن هيت يطلق عليها لقباً ظل يُطلق على عديد من مدن العراق وهو "موسكو الصغيرة"، بل إن الأصدقاء أخبروني أنها اهملت إهمالاً مقصودا حتى أن الطريق المفضي لها وشوارعها بقيت زمنا طويلا عديمة التبليط ..
والمفارقة أن واحداً من أسباب شهرتها هي أنها مدينة القار (القير)، ففي داخل المدينة فوارة ( نافورة) تقذف منصهر القار إلى الأعلى بل وتصحبه أحياناً نيران فهي الأقدم من النار الأزلية في كركوك..
هيت من أقدم مدن العراق عرفها السومريون واستعملوا قارها في البناء وتعبيد القوارب لمنع نفوذ الماء إلى داخل القارب، والعرب استعملوا القار لتعبيد الجِراب من الماشية والإبل وقد قال الشاعر طَرَفة بن العبد :
إلى أن تحامتني العشيرةُ كلُّها – وإفردتُ إفرادَ البعيرِ المُعَبَّدِ
وهي مدينة مُسَّوّرة منذ القدم، أشتهرت بعيونها المعدنية وبفراتها العذب الذي يشقها إلى صوبين.. وهي محاطة بأراض زراعية شديدة الخصوبة تدر على المدينة فائضاً من الخضروات ومن الفواكه المتنوعة إضافة إلى التمور.. لذلك تعرضت المدينة العربية قديما إلى غزوات لما تتمتع به من خيرات..
وصفها ياقوت الحموي في معجم البلدان : " بلدة على الفرات من نواحي بغداد، فوق الأنبار، ذات نخل كثير وخيرات واسعة، وهي مجاورة للبرية.." .
أنجبت المدينة أعلاماً أدباء وسياسيين منهم المحدِّث الشهير الشيخ أحمد بن محمد الهيتي الذي سكن في هيت بين أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجريين، الشاعر الناقد يوسف نمر ذياب (ت 2004) وأستاذ الفلسفة الراحل مدني صالح (ت 2007)، والدكتور هادي نعمان الهيتي (ت 2015) وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي المغيب في سجون صدام الدكتور صفاء الحافظ، ، والروائي ورائد القصة القصيرة جداً الأستاذ إبراهيم أحمد،.. وأخرون.معتذرا عمن نسيت ذكره..
وشيخ المعرة ذكرها في مطلع قصيدة عصماء غنية بشوارد المفردات :
هـاتِ الحَـديـثَ عـن الزّوْراءِ أوْ هِيتا - ومَـوْقِـدِ النـارِ لا تَـكْـرَى بـتَـكْـريتا
إلى أن يقول :
لنــا بــبَــغْــدادَ مَــن نَهـوَى تـحِـيّـتَه - فــإنْ تَــحَــمّــلْتَهــا عــنّـا فـحُـيّـيـتـا
سَــقْــيــاً لدِجْــلَةَ والدّنْــيـا مُـفَـرِّقَـةٌ - حـتـى يـعُـودَ اجـتِـماعُ النجْمِ تَشْتيتا
وهذا البيت الأخير جاراه الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في مطولته "دجلة الخير"، حيث قال :
يا دجلة الخير والدنيــــا مُفارَقةٌ - وايُّ شرٍّ بخيرٍ غـــــــيرُ مقرون
30 حزيران2020