كان الموسيقيون العراقيون خلال تسعينيات القرن الماضي، يشكلون حيوية لافتة في المشهد الموسيقي والثقافي في الأردن، ولا يبدو مبالغة القول انه كان بالإمكان تشكيل أوركسترا سيمفونية من موسيقيين عراقيين محترفين، مثلما كان ممكنا إحياء حفلات يومية وعلى مدار العام للعزف المنفرد على مختلف الآلات، فضلا عن فرق للمقام وأخرى للجاز بل وحتى لأكثر الأشكال الموسيقية حداثة حينها، ألا وهو شكل "الفيوشن" حيث تتداخل الأنغام في عرض مفتوح مثلما تتداخل الثقافات . ومن خلال واحد من تلك العروض الموسيقية العراقية الأكثر حداثة وشهدها المركز الثقافي الملكي بالعاصمة الأردنية، تعرفت على بشار العزاوي عازفا على الغيتار ومؤديا للموروث الغنائي العراقي وفق مزيج من الروك اللاتيني والجاز .
الفنان المولود ببغداد 1970، كان قدم إلى عمّان وهو حاصل على بكالوريوس الهندسة المدنية، غير ان غواية الموسيقى والفنون بعامة كانت قد سيطرت عليه، ليندرج في الأنغام الحديثة المقامة على جذر روحي عراقي وتصبح هويته الموسيقية والثقافية والإنسانية .
هذا هو جوهر التكوين الذي أقام عليه العزاوي أسلوبه الموسيقي-الغنائي، خلال (الفترة الأردنية) منذ 1994 حتى 2001 حين انتقل إلى أوروبا ليبدأ تجربة جديدة، ولكن دون أن يتخلى عن جوهره النغمي، ليشارك تظاهرات وحفلات موسيقية في بلجيكا وإيطاليا وألمانيا مع موسيقيين من دول العالم المختلفة، فضلا عن إصدار اسطوانتين شخصيتين . غير ان الحدث الذي شهده خريف 2013، حين قدم الوجد العراقي غناء ومقامات مع أوركسترا مورغن لاند بألمانيا، كان حدثا "غير شكل"، فهو لم يعرف بإمكانية موسيقية لهذا العراقي وحسب، بل في احتفاء راق عرفته أنغام بلاد ناظم الغزالي، عبر تقديمه على مستوى رفيع وأصيل، هو مستوى الأوركسترا الغربية الكبيرة .
وهنا نعاين اليوم بنظرة نقدية فاحصة، عمل بشار العزاوي الجديد الممثل بإسطوانة "هاي جاز"، التي يواصل فيها عمله السابق في مقاربة الأنغام العراقية الأصيلة بموسيقى الجاز، ولكن هذه المرة بشكل "جذري" بل "ثوري" إن شئت، حين أحسن صنعا بقليل من مساحة الغناء لصالح اللحن الموسيقي المجرد المنفذ اعتمادا على روحية غامرة، تمثل جوهر موسيقى الجاز.
ويبدأ العزاوي أسطوانته بمقطوعة حملت عنوان "توق"، وهي تجسيد آسر لموسيقي يتوق ليس إلى بلاده التي عرف وأحب، بل إلى تقديم نغمها الأصيل حسب كل شكل واسع الإتصال مع الآخر، وهو ما تفعله أنغام الجاز. في المقطوعة يأتي صوت العزاوي في غنائه القليل ( يكلي ما تجينا ) وكأنه قادم من أمكنة بعيدة، فيما العود ( عزف العزاوي ذاته ) والبيانو المدهش في نغم مرتجل ولكن شديد الأناقة بحسب عزف رائد الجواد، يتناوبان على مهمة إبقاء ما تتوق إليه النفس، حيا وفاعلا ومؤثرا .
عنوان الأسطوانة واسماء المقطوعات جاءت بالانجليزية، وذلك أمر مقصود على ما يبدو لإيصال الأنغام إلى جمهور قد يعرف الموسيقى العراقية أول مرة، وهكذا يأتي أسم المقطوعة الثانية " الغموض السحري" ليدل على عمل فاتن حقا، فالنغم المنتمي إلى روح شرقية لا يبتعد عن نسيج موسيقى الجاز البسيط الساحر . المقطوعة عمل في تصوير تجليات روحية غير متداولة لكنها ليست غامضة بمعنى انها مقفلة، بل هي مقطوعة في الحنو البالغ على الروح وجعلها شفافة كأغنية شجن عميقة .
وفي معاودة لإسلوب يجمع النغم العراقي الأصيل "جيت أسالك عالردة" بتنويعات من الروك، تأتي المقطوعة الثالثة " حيّرني"، وهنا لا مفاجأة بعد تجربة وقد ترسخت ملامحها، ان نتحصل كمستمعين على عمل منسجم فلا هو استنساخ غناء قديم، مثلما هو ليس تنكرا له عبر الاستغراق في النغم الغربي المعاصر .
صمت الشناشيل
هذا هو عنوان "المقطوعة الرابعة" من تسع تضمنتها إسطوانة العزاوي التي صمم غلافها، الفنان عمار بن حاتم، وهي تنويعات على شجن كالذي تعنيه تنويمات أمهات عراقيات ولا تنتهي بأشواق فتيات حالمات يشكين قسوة المكان وضيق إيقاعه الإجتماعي. ومع ان هذا الطيف من المشاعر ليس بالجديد، إلا ان الجديد هو تقديمه وفق نسيج نغمي متماسك عصري، يقترب من روح الجاز دون ان يتنكر لجوهره العراقي الأصيل. في ذلك النسيج كان العود جوهره الفصيح بعزف لا استعراضات فيه ولا فذلكات تقنية انما تجسيد نغمي متقن .
وإتصالا مع هذا الجو يأتي تنويع صوتي- نغمي على "فوق النخل" ضمن مقطوعة بعنوان "ذكريات نخلة"، وفيها يقصد العزاوي ان يأتي صوته من بعد، كأنه ياتي من زمن قصي، زمن مثخن الجراح. وكما كان العود سيد العمل السابق، كان هنا صافيا كأنه تلويحات روحية من زمن "فوق النخل" ببساطته الآسرة .
شوق لزمن يتوارى
وصولا إلى آخر عمل في الإسطوانة "مسكون بحلم" ، مرورا بـ"مشتاق جدا"، نحن حيال عمل موسيقي ينتظم في مهمة نوستالجيا شاقة، مهمة استعادة أثر حميم من زمن يتوارى وتتوارى معه أمكنة واشواق كانت ممكنة . وتلك مهمة أنجزها بشار العزاوي باقتدار عال، فهو لم يسقط في فخ التقرب التجاري إلى المستمع، ولكن دون التعالي على عناصر تكون مرجعياته الروحية وهويته الإنسانية .
"هاي جاز" ليست مجرد إسطوانة جديدة للعزاوي المقيم حاليا في أميركا، وليست مجر أسم لفرقته الموسيقية الجديدة، انها مرحلة جديدة من سيرته الموسيقية- الغنائية حيث المغامرة وصلت ألى مستويات أعلى في التحديث وأكثر أصالة في آن .