جامعة القرويين ودورها في حماية الثقافة

2012-04-06

فا//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/300f1d08-72a8-401e-ba6c-9780a28e91ed.jpeg س المغربية ارض التعايش الاخوي بين المسلمين واليهود والنصارى ...

يتوفر المغرب على عدد لا يستهان به من المدن العريقة كمراكش ومكناس والرباط وسلا ووجدة وتطوان وغيرها، غير أن فاس يمكن اعتبارها بحق أم الحواضر كلّها بفضل غنى تراثها وأهمية الأدوار التي قامت بها في الحياة السياسية والاقتصادية والروحية والعلمية. وتمثل هذه اللحظة العظيمة في التاريخ الوطني بداية التآلف بين الأصل الأمازيغي العريق والإسهام العربي والإسلامي، وشكلت بذلك لحظة بروز شخصية المغرب القوي بوحدته والغنى بتنوعه. وظلت هذه الشخصية الفريدة والمركّبة حاضرة عبر القرون، وتبلورت من خلال إسهامات مؤثرة في تاريخ المجموعات الجغرافية والثقافية التي تتشكّل منها الهوية المغربية، ألا وهي العالم العربي ـ الإسلامي وإفريقيا والمتوسط.
منذ تأسيسها من طرف المولى إدريس الثاني كعاصمة لدولته ودعائه لها بالدوام والازدهار، ضلّت فعلاً منبراً يُذكر فيه إسم الله ومناراً يشع منه العلم وروح الابتكار والإبداع. وبالرغم من تقلبات الزمن وضغط الناس، فإنّها استطاعت أن تصمد وتقدّم أحسن نموذج للمدينة العربية الإسلامية في شكلها العمراني وتنظيمها الاجتماعي والاقتصادي. ولا غرو إذاً أن يزخر مجالها الأصيل بمئات المآثر التي بلغت ذروة الروعة والعظمة والإتقان، نذكر بعضا منها كمدرستي البوعنانية والعطارين وضريح المولى إدريس وجامع القرويين. فمن الصعب أن نذكر كل المآثر التي تناهز 700 مسجداً وجامعاً وحوالي 400 من القصور والدور الكبرى الجميلة. لكن فاس العتيقة ليست مجموعة من المآثر المنعزلة بقدر ما هي نظام حضاري متكامل، شاهدٌ على نمط عمراني عربي إسلامي ونظام اجتماعي واقتصادي لا زالت معظم جوانبه صامدة عبر العصور، من هنا يتضح فعلا أنّ فاس تراث إنساني عالمي كما أقرت ذلك منظمة اليونسكو على لسان أمينها السيد مختار أمبو في ندائه سنة 1981، ويؤكده احتضانها للمؤتمر الدولي الثاني لمدن التراث العالمي، الذي انعقد بها في بداية شهر شتنبر 1993 وانبثق عن ميلاد '' منظمة مدن التراث العالمي'' .
غير أن فاس ليست تراثاً جامداً، بل ما فتئت تبهر الدارس والمهتم والزائر بحيويتها وقدرة بناياتها على التطور ومسايرة متطلبات مختلف العصور دون أن تتخلى عن أصالتها. فهذا شأن الصناعة التقليدية التي لا زالت تتطور بفضل عبقرية صانعها رغم الأزمات التي مرت بها خلال القرن العشرين، وكذلك الشأن بالنسبة لجامعة القروييّن ـ وهي أقدم جامعة في العالم ـ والتي تغيرت هياكلها وأنظمتها التعليمية، متشبثة بأصالتها منفتحة على الحاضر والمستقبل.
إن مدينة فاس من هذه الأهمية يصعب تقديمها في أسطر معدودة، لهذا تهدف هذه الدراسة إلى الإشارة لأهم العناصر التي ساعدتها على وضعها في مكانها الحقيقي ضمن حواضر المغرب، وتلتمس موقعها من الحضارة الإنسانية.
إن الدّور الثقاف//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/65915f37-749c-4cc5-ad70-291b789a8d7d.jpeg ي الذي لعبته جامعة القروييّن عبر العصور كان دوراً إيجابياً يحمي الثقافة من الانهيار ويبعد عنها العبثية ويحفظها من الضحالة والجمود ويجعلها قابلة للأخذ والعطاء ومن ثم أصبحت هذه الجامعة رمزاً للتواصل الإسلامي عبر القارات تستورد ماجَدّ من المعارف وتُصدّر ما بلغت إليه من الاجتهادات فكانت بسبب ذلك خير رابط يربط بين المسلمين في مختلف بقاع الأرض.
والتاريخ الذي بني فيه جامع القروييّن لا شك أنه أقدم من تاريخ بناء الأزهر الذي كان سنة 359هـ. فقول الأستاذ فريد وجدي في دائرة المعارف : '' إنه أقدم مدرسة في العالم بعد مدرسة بولونيا بإيطاليا فقد تقدّمته بأكثر من أربعة قرون ''.غير صحيح ـ لا بالنسبة للقروييّن كما رأيت.. ولا بالنسبة إلى كلية بولونيا المذكورة.. لأن تأسيسها إنما كان سنة 1119م أي بعد الأزهر بنحو قرن ونصف. أضف أن مقابل تاريخ بنائه من الميلادي يكون حوالي 970 وحينئذ فترتيب هذه الجامعات في القدم يكون هكذا: القـروييّن فالأزهـر فجامعة بولـونيا.
وكان الجامع الذي شيّد في 859 ميلادية ( 245 هجرية ) مهدّدا بالتصدّع الناتج عن الإهمال الذي كان عرضة لـه خلال عقود من الزمن، إذ تعود آخر أشغال الترميم فيه إلى حقبة الحماية الفرنسية، وتركت عوادي الزمن شقوقاً وتدهوراً في بنيات الجامع وأسسه وتسرّب مياه المطر إليه ومشكل الرطوبة وقدم خشبه والانتشار الفظيع للفطريات بمختلف جنباته بما في ذلك قاعة الصلاة التي كانت تستغل أيضاً في تدريس الطلبة. وكان الملك محمد السادس قد أعطى في شتنبر 2004 تعليماته بترميم وصيانة المسجد الذي تسع طاقته لأكثر من 10 آلاف شخص. وشملت أشغال الترميم، القباب المضلّعة والمقرنصة والدائرية منها، وأكاليل أعمدتها وعقود أقواسها وأفازير أبوابها، كما أعيد الاعتبار للظلتين البديعتين على الجناح الشرقي والغربي للصحن الفسيح وأعمدتها الرخامية. وجرى أيضاً ترميم الأبواب الثمانية عشر الخشبية للجامع، والمرصّعة بالنحاس، إضافة إلى تأهيل مجال المياه التقليدية لجلب وتوفير هذه المادة الحيوية باستمرار. وأشرف على عمليات الترميم أخصائيون وخبراء وطنيّون، من مهندسين معمارييّن ومتخصّصين في الهندسة المدنية والصوتيات والكهرباء والتصوير الفوتوغراميتري، وحرفيون متخصّصون في تقنيات ترميم الخشب والنحاس والجبص.
وخلال أشغال الترميم تم اكتشاف آثار آركيولوجية غير مسبوقة وزخارف كانت غير معروفة، تم اكتشافها تحت أرضية مسجد القروييّن أواخر يناير 2006، فقد مكنت أشغال الحفر التي شملت حوالي 172 متراً مربّعاً من اكتشاف جدران منازل تحمل رسوماً تزيينيّة على الجبص تعود حسب علماء الآثار إلى حقب تاريخية تسبق عملية توسيع الجامع التي قام بها المرابطون عام 529 هجرية، مرجّحين أنها تعود إلى السنوات الأولى لت//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/29b3f90d-c321-493c-b83b-20ec316c11a4.jpeg شييد هذا الصّرح الديني سنة 245 هجرية.
وبمناسبة ليلة القدر المباركة من سنة 2007 فتح جامع القروييّن أبوابه في وجه المصلّين، وذلك بعد سنتين من أشغال الترميم التي أشرفت عليها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والتي تطلبت غلافاً مالياً إجمالياً بلغ 27 مليون درهم. وبموازاة مع الجهود المبذولة على المستوى المادي، وإضافة إلى الرسالة التعبدية للجامع، سهرت الوزارة على إحياء التقاليد الفريدة في حلقات دروسها ببعث الدراسة العالمية به من جديد، وإضفاء روح جديدة على الكراسي العلمية، وإعادة كل من كرسي التوريق، وكرسي الترغيب والترهيب، وكرسي صحيح البخاري، ودروس الوعظ والإرشاد اليومية.. وللإشارة فجامع القروييّن هو الجامع الوحيد في العالم الذي يتوفر على أثرى وأقدم منبر خشبي تنافس على اعتلائه كبار الشخصيات، من أجل الخطبة عليه.
إنّ مسجد القرويين أخذ على مرّ العصور صبغته العلمية زيادة على صبغته الدينية فأصبح مرآة ترتسم على صفحتها معالم تاريخ المغرب وحضارته منذ عصر التأسيس إلى العصر الحديث. وقد ترك فيه كل عصر أثراً مادياً وآخر معنوياً. ممّا يدل على أهمية الرسالة التي تحمّلها وأدّاها في الميدانين : الدّيني والعلمي في حقب متطاولة من السنين.. والآثار المعنوية نجدها في المصادر العلمية المتعلقة بالمغرب على اختلاف موضوعاتها. ولاسيما منها ما يتعلّق بتراجم الأعلام وحياتهم ونشاطهم العلمي والفكري في المغرب العربي والأندلس وأقطار المشرق.
أمّا الآثار المادية فنجدها أوّلا في سجلات الأوقاف المسمّاة في المغرب'' بالحوالات '' التي سجلت ما بقي من أملاك وعقارات أوقفها أهل المبرة والإحسان على '' القروييّن '' وعلمائها وطلبة العلم بها.. كما نجدها في هيكل المسجد القائم أمامنا. في منارته المسماة في المغرب '' الصومعة '' و''المئذنة'' وكذلك في مياهه المتدفقة، وجدرانه، وسواريه ومحرابه وثريّاته، وأبوابه ومقصورته، وخزانته ومستودعاته وسائر المرافق المضافة إليه، والتي زاد عددها على مر الأجيال، وتعاقب الدول.
فإذا استنطقنا أثراً من هذه الآثار أجابنا بلسان الحال، وبلسان المقال أيضا '' بواسطة المؤرّخين '' عن الجهة التي جاء منها والفكرة التي يرمي إليها والتي أسس من أجلها.
فالصومعة القائمة إلى الآن تنتمي إلى الحضارة الأندلسية في القرن الرابع الهجري والعاشر الميلادي، على عهد الحجابة العامرية في قرطبة التي امتد نفوذها إلى المغرب وإلى مدينة فاس أيام الصراع بين الفاطميين والأمويين.. ! وتشكل هذه الصومعة مع شقيقتها صومعة مسجد عدوة الأندلس أثراً أندلسياً فريداً في فاس تحدى عوامل الزمن في التغيير والإبادة والاندثار.
وما زالتا إلى الآن فريدتين بمظهريهما وشكلهما وميزتهما عن الصوامع الأخرى. شامختين في أناة ووقار منذ ما يزيد على ألف سنة.. !! والتجهيز الميقاتي لهذه الصومعة '' في غرفة المؤقت بها '' تجهيز يشهد بالتسلسل الحضاري والتاريخي في ميدان رصد الأوقات، وتحديد الآذان تحديداً زمنياً مدققاً في الليل والنهار. وبعض هذه التجهيزات يرجع إلى عصر دولة بني مرين. ثمّ إلى العصور التي تليه ولا شك أنّه كانت تجهيزات وأدوات أخرى استعملت لنفس الغاية فيما قبل عصر بني مرين. ولعلها بادت.. !
ومن المعلوم إنّ كلمة '' المكانة '' كانت مستعملة وما تزال إلى الآن في المغرب لجهاز ضبط الأوقات ولا مجال للحديث الآن عن أصل حروفها حتى صارت تنطق بهذه الصيغة.. ويكفينا أن نشير إلى أنّ أجهزة الرصد كانت متعددة تشمل الأسطرلاب والصفيحة والربع، وأنّ '' المكانة '' كانت متعددة من ذوات الرمل، وذوات الماء، وذوات الحركة الذاتية، وذوات الدولاب.. !
ولقد سجل التاريخ الحضاري ميزة أخرى لهذه الصومعة حيث أنّ هناك في الحوالات أوقافاً على جماعة من المؤذنين يحيون بالتناوب والتعاقب ساعات الليل صيفاً وشتاء، بالإنشادات والأذكار، والتوسلات، والأدعية لإيناس المؤرّقين من ألم أو حزن. والساهرين لعمل أو حراسة..
وإذا استنطقنا المحراب وما حوله طولاً وعرضاً وجدنا دولة المرابطين. ودولة علي بن يوسف بن تاشفين بالخصوص هي التي قامت بإعادة بناء المسجد وتوسيع رقعته وإعطائه هذا الهيكل. وهذا المظهر الذي يبدو به إلى الآن.. ففي ظلال هذه الدولة قوّست هذه الأقواس، وبنيت هذه السواري وقبّبت هذه القباب وصنع هذا المنبر الأثري. وزائر المسجد الآتي من الصحن عن طريق '' العنزة '' يقصد المحراب يمرّ تحت ستّ قباب جلّها '' مقربص '' إلى أن يصل إلى المحراب فيجد قبة فخمة وزخرفة عظيمة القيمة الفنية، كما يجد '' شمسيات '' ذات زجاج ملوّن يسمّى في المغرب '' العراقي'' مع كتابات كوفية جدّدت مرات إلا أنّها ما تزال تحتفظ بتاريخ العمل الذي عمله المرابطون في هذا المسجد العظيم وهو سنة 531 هـ على عهد علي بن يوسف بن تاشفين..
ومنبر القرويين يعدّ أقدم منبر موجود بالمغرب والنقوش التي يحملها تعدّ أنفس وأثمن نقوش بقيت في رصيد المغرب الحضاري. وقد تعاونت على إنجازها مواهب مغربية وأندلسية في عصر كان علم الوحدة يخفق على القطرين، فجاءت رائعة حقاًّ. ولاسيما تلك الآيات القرآنية الكريمة التي كتبت بنقوش من عاج على خشب المنبر.
فعمل المرابطين في القرويين عمل تاريخي حضاري مدهش حقّاً، وإذا كان تأسيس المسجد تمّ سنة 245 هـ على يد السيدة المحسنة أم البنين القيراونية في العصر الإدريسي.. فإنّ هيكله الذي يبدو به الآن أمامنا هو من عمل علي ابن تاشفين الذي أراد أن يخلد هذا العمل. ومن المعلوم أن القرويّين في أول بناءها لم تكن على ما هي عليه اليوم من السعة والفخامة، فقد زيد فيها الكثير، وجدّد بناؤها مراراً، وأولى الزيادات كانت في أيام دولة زناتة سنة 307هـ، ثم في أيام عبد الرحمن الناصر الأموي خليفة الأندلس الذي دانت له البلاد ردحاً من الزمن. وقع تحديد لبناء القرويين وزيادة أخرى فيه وذلك سنة 354هـ، ثم كان إصلاح جديد في أيام المنصور ابن أبي عامر حاكم الأندلس وحاجب الخليفة هشام بن الحكم سنة 388هـ. ثم في دولة لمتونة في أيام أمير المسلمين علي بن يوسف ابن تاشفين نقض المسجد كلّه وزيدت فيه زيادة مهمّة من جميع جهاته واحتفل في بنائه وزخرفته، وكمل سنة 538هـ أي بعد وفاة أمير المسلمين علي بن يوسف بـسنـة واحدة. ولما زار ملك الموحّدين فاس سنة 540هـ خاف فقهاء المدينة وأشياخها أن ينتقد الموحّدون النّقش والزخرفة التي فوق المحراب لقيامهم بالتقشف والتقليل، وقيل لهم إن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي يدخل غداً المدينة مع أشياخ الموحّدين بقصد صلاة الجمعة بالقرويين، فأتى الحمّامون الجامع تلك الليلة وغطّوا على ذلك النقش والتذهيب الذي فوق المحراب وحوله بالورق ولبسوا بالجصّ ودهن بالبياض فاختفى أثر ذلك ولم يبق ظاهراً إلاّ البياض. ونلاحظ هنا أن فقهاء المدينة وأشياخها إنما خافوا انتقاد الموحّدين لما كانوا هم المباشرين لبناء المسجد وزخرفته ولم يكن ذلك من عمل المرابطين الذين قام عليهم الموحّدون، وكذلك كان هذا المسجد منذ تأسيسه من الشعب وإليه، فمعظم هذه الزيادات ـ إن لم نقل كلّها ـ كانت مما قام به أفراد من الشعب فقهاء وأئمة وغيرهم بعد استئذان الحاكم طبعاً. ولشدة ما كانوا يتحرّون في المال الذي ينفق على ذلك، بل في الآجر والماء والتراب الذي كان يدخل في البناء فلا يصرفون فيه إلا ما كان من أصلٍ طيّب، وربما اشتبه عليهم مال أحدهم فأدّى الإيمان الغليظة على أنه من الحلال الخالص الموروث عن آبائه الذين صار إليهم من عمل شريف.. وهنا كان قد بلغ الجامع كماله فأتى دور المصالح والمنافع والمرافق الملحقة به من فسقيات وميضات ومستودعات وخزانات ومقاصير ومدارس وما إليها.. وأهم ذلك خزانة الكتب التي أسسها به السلطان أبوعنان المريني وأودعها كما يقول الجزئاني: '' من الكتب المحتوية على أنواع من علوم الأبدان والأديان واللسان والأذهان، وغير ذلك من العلوم على اختراعها وتنوع ضروبها وأجناسها، ووقفها ابتغاء الزّلفى ورجاء ثواب الله الأوفى، وعيّن لها قيّماً لضبطها ومناولة ما فيها وتوصيلها لمن له رغبة. وأجرى له على ذلك جراية مؤبّدة تكرمة وعناية وذلك في جمادى الأولى سنة 750هـ ''. وأسّس أبوعنان كذلك خزانة مصاحف احتفل في بنائها وتشييدها بما لم يسبق إليه، وأعدّ فيها جملة كثيرة من المصاحف الحسنة الخطوط، وكلّف بها من يتولّى أمرها على أحسن الشروط. ثم لم تزل الملوك والسّوقة تقف الكتب على خزانة القرويين بعد ذلك حتى اجتمع بها من المجلّدات العلمية والأدبية والدينية مالا يدخل تحت حصر ولا يستوفيه عـدّ ولا حساب. وأما المدارس وهي بيوت الطلبة الملحقة بالقرويّين: فإن من أقدم ما بني منها مدرسة الصفارين التي أسسها أمير المسلمين ابن تاشفين حوالي منتصف القرن الخامس الهجري450 هـ.. والمرينيون سباق هذه الحلبة الذين خلّفوا لنا أكبر عدد من المدارس المتقنة الصنع المحكمة الوضع، لا حول القرويين فقط بل في جميع أنحاء المغرب. ولما كان كلامنا هنا يساق إلى القرويّين فلنذكر بالخصوص مدرسة العطّارين التي بناها السلطان أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق.. ومدرسة أبي عنان.. التي تعدّان قطعتين خالدتين من فنّ العمارة والنقش والتخريج والتزويق المغربي، وقد تلحق بهما مدرسة الشراطين التي بناها مولاي رشيد من ملوك دولتنا العلوية العليّة. أما غير هذه المدارس فإنها وإن لم تكن مثلها في بداعة الشكل وجمال الصنعة إلاّ أنها لا تقل عنها فخامة بناءً ورحابة فناء.
هذه العناية الفائقة بالقروييّن والاهتمام البالغ النهاية بأمره من الشعب ثم من الحكومة في كل عصر وفي كل دولة، تدلّنا على ما كان له من مكانة سامية في النفوس منذ عهد تأسيسه.. وما كان يخص به من الاحتفال والاهتمام دون بقية المساجد الأخرى. وإلا فأخوه وشقيقه جامع الأندلس الذي بنته '' مريم أخت أم البنين وشقيقتها '' لم يظفر بعشر مما ظفر به هو من ذلك، بل إنه ما لبث أن غطى على جامع الأشراف الذي أسّسه المولى إدريس، ثاني ملوك الدولة الإدريسية ومختطّ فاس وبانيها سنة 192هـ فنقلت خطبة العدوة القروية من مسجد الأشراف المذكور إلى القرويّين وأصبح هو المسجد الجامع في تلك العدوة كلّها. وابتدأ نجم القرويّين يلمع في سماء العلم منذ أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع يبلغ النصف حتى كان مثل '' عبد الله بن أبي زيد القيرواني '' صاحب الرسالة والنوادر والذي يعرف بمالك الصغير يشد الرحلة إلى أحد رجاله وهو دراس بن إسماعيل المتوفى سنة 357 هـ، وفي هذا العهد كان أيضاً أبو جيدة ابن أحمد وهو فقيه فاس ومحرّرها من سطوة عامل المنصور بن أبي عامر.. ولا شك أنه كان أحد أساطين هذه الكليّة وممّن عملوا على رفعة شأنها وعلوّ قدرها. وتتوالى حلقات السلسلة حتى تصل إلى العصر الحاضر مؤلفة من رجال وقفوا حياتهم على خدمة التشريع الإسلامي تحت راية الإمام مالك وأصحابه، فبلغوا به الغاية التي ما بعدها غاية في الكمال، وطارت لهم شهرة مطبقة في أرجاء العالمين الشرقي والغربي. فما منهم إلا إمام فتوى ومجتهد مذهب.. مثل الفقيه ابن عمران الفاسي المتوفى سنة 430هـ .. والفقيه ابن محمد صالح المتوفى سنة 631هـ .. والفقيه راشد الفاسي المتوفى سنة 675هـ .. والفقيه أبي الحسن الصغير المتوفى سنة 719هـ .. والفقيه أبي عمران العبدوسي المتوفى سنة 776هـ .. والفقيه القوري المتوفى سنة 872هـ .. والفقيه المشارك أبي عبد الله بن غازي المتوفى سنة 917هـ .. والفقيه أبي علي بن رحال المتوفى سنة 1140هـ .. والفقيه الرهوني المتوفى سنة 1230هـ وغيرهم.
وفي الحقيقة أن أكثر الجهود في الكلية في كل عصر كانت موجهة إلى هذه الناحية من التعليم، ومعظم إنتاج رجالها كان في هذا العلم، علم الفقه وما إليها على مذهب مالك رحمه الله حتى ليصح القول إن أهل كل بلاد لم يخدموا مذهبهم بقدر ما خدمه أهل المغرب.. وإن المذهب المالكي لم يصل إلى ما وصل إليه من الخصب والنماء والنضوج، حتى أن أتباع غيره من المذاهب ربما اضطرّوا إلى الأخذ عنه والاقتباس منه كما في بعض قوانين المحاكم الشرعية بمـصر، إلا بفضل القروييّن وما أبدوه من الهمّة الصادقة في هذا السبيل. ولم يصل الاشتغال ببقية العلوم الإسلامية بالقروييّن إلى درجة الاشتغال بالفقه ولكنه لم يقتصر عنها كثيراً، فكانت علوم الحديث والتفسير والأصول ممّا لم ينقطع تدريسه في الكليّة في أي عصر حتى العصور المتأخرة حين كان بعض هذه العلوم في بلاد أخرى لا يقرأ إلا للتبرّك بسرده.. وكانت هذه الدراسة مجال البحث والاستنتاج وفرصة المحاضرات القيّمة في التربية والتهذيب.. ولا ننسى أن ننبّه إلى ما كان لعلوم القراءات من شأن كبير في الكلية فقد كانت العناية بها شديدة في كل عصر، وكان يتخصّص فيها كثير من العلماء فضلاً عن مشاركة جمهورهم فيها، لأن أوائلها كانت تتلقى في الكتاتيب القرآنية التي ما كان يتولاها إلا كبار الأساتذة المتحققين بتلك العلوم وغيرها. تأتي هي الثانية بعد الفقه في برنامج العلوم التي كانت تدرس في القروييّن وفي جميع المغرب. ويكفيك انه كان لطلبتها مدرسة خاصة بهم هي مدرسة السبعين '' أي القرّاء بالروايات السّبع '' الواقعة بإزاء مدرسة الأندلس. وأما علوم اللغة والأدب فقد ظلّت الكلية رافعةً رايتها منذ انبثاق فجر النهضة العلمية في المغرب على عهد المرابطين إلى يوم الناس هذا.. ومرّ عليها زمن لم يكن ينافسها معهد آخر أيّاً كان في أداء رسالة الأدب العربي والقيام على حفظ تراثه من الضياع وذلك حين يقول الشيخ بيرم الخامس في كتابه '' صفوة الاعتبار '' : '' لعمري إن صناعة الإنشاء في الدول باللغة العربية كادت تكون الآن مقصورة على دولة مراكش ''. أما الكلام في العلوم الفلسفية بمعناها القديم الذي يشمل الرياضيات والطبيعيات ومنها نوعان لهما ماض زاهر في الكليّة، فمنذ انضمام الأندلس إلى المغرب في أيام المرابطين جعل الاحتكاك بأهل الجزيرة يفعل فعله في توجيه أنظار أهل هذه البلاد إلى الأخذ بأسباب تلك العلوم، وكان أن انتقل إلى هنا ـ بانتقال الدولة ـ كثير من علمائها المتحققين بأجزائها فتهافت عليهم طلبة القروييّن يقتبسون من مشكاتهم ويأخذون بأدواتهم فما لبثوا أن شاركوهم في جميع تلك التعاليم ونظروا إليها نظرتهم، ونبغ منهم أفراد كثيرون كان لهم قياس '' حـسّ '' على فنون من العلم الطبيعي والرياضي والإلهي وآثار جميلة في جميع ذلك. وما برحوا عاملين على بثّها ونشرها والتواصي بتبليغها وتلقينها لمن يأتي بعدهم جيلاً بعد جيل.
لقد قامت جامعة القروييّن بأدوار عظيمة في الماضي من نشر الثقافة العلمية وتأدية رسالة العربية، ولهذا لا يستغرب أن يؤمها الطلبة من أقصى بلاد أوروبا وغيرها، فهناك في تلك العصور التي يدعونها عن حق ـ بالعصور المظلمة ـ لم يكن قد تقرّر للعلم مدلول بعد.. وقد اشتهر كثير ممن درس فيها من الأجانب وكان لهم تأثير قوي على العقلية الأوروبية في ذلك الحين، ومن أعظمهم البابا سـلـفستر، الذي هو أول من أدخل إلى أوروبا الأعداد العربية.

 فاس : مصطفى قطبــي .

مصطفى قطبي

باحث وكاتب صحفي من المغرب

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved