أخدمُ وَطنِي بالكتابةِ .. مُتَرَفِّعاً

2011-03-07

" انظروا إلى القمم ..

انها من دون تعقيد ! "

(ديغول)

ثمة تناظر ، لا بل تطابق ، ما بين الفرنسي اندريه مالرو ، والكولومبي جارسيا ماركيز ، في نظرتهما إلى الثقافة والأدب والحياة ، جوهرها : حرية الانسان.

في الأدب - الرواية تحديدا- جاءت اليهما "نوبل" تحبو رغم افخاخ الديمقراطيات الاوروبية ، وصلادة وقسوة " جمهوريات الموز " في امريكا اللاتينية .

كانت رواية " الوضع البشري " لمالرو ، بحثا عميقا في الروح الشرقية الصينية ، وهو في الثلاثين من عمره ، بينما كانت " مائة عام في العزلة " لماركيز ، اشارة الى طيران الروح الانسانية المحاصرة بالكبت ومنظومات فرق الاعدام السرية.

وضع مالرو ، الحياة الغربية ، الرخية ، لكن المهجورة من الأخلاق المسيحية ، على منضدة تشريح غير غربية . وجال - عموديا وافقيا - في الروح الشرقية الصينية ، فصار " الموت الاخوي " على الطريقة الصينية ، إنابة عن الأشواق البشرية في وحدة المصير الانساني.

ومن ثراء تجربته في أوروبا ، وفي أسبانيا بالأخص ، صاغ ماركيز في " مائة عام من العزلة " نظرية اخلاقية لا حدود لشواطئها وضفافها ، تترجم لها بقية أعماله الأدبية : الأوطان الحرة لا يشيدها إلا مواطنون احرار.

اما في حركة الحياة ، فهناك تشابه مدهش بين هذين الرجلين المتباعدين في جغرافيا الأوطان ، والمتحدين في نظرتهما إلى الكرامة البشرية والحرية الانسانية.

ذهب مالرو إلى الصين ، وعاش تجربة الحرب بين الشيوعيين والوطنيين الصينيين ، وقدم للبشرية ثقافة المستقبل : امثولة " الموت الأخوي " بالسيانور . وتجربة الغاء " الآخر " ثقافيا وسياسيا وجسديا باعتباره أحد الافعال الحرة ، بينما خاض حربا لا هوادة او تراجع فيها مع الشيوعيين الفرنسيين ، وضد سارتر أيضا ، في قضية " المعتقلات السوفيتية " مقدما ستالين بوصفه الوجه الآخر لادولف هتلر

وحتى عندما استوزره الجنرال ديجول في أول وزارة ل " الجمهورية الخامسة " وزيرا مسؤولا في الشؤون الثقافية ، كان مالرو يعيد طرح تثقيف " السياسي " في الجنرال ديجول ، ليقدم " الثقافي " بكونه الحصافة والجسارة والهيبة الروحية الانسانية ، في انظمة ليبرالية هجرها المسيح.

كانت اوروبا الملوثة باتساخات حربين مهلكتين ، تخرج من بين أردان مالرو ، حالة انسانية مبتغاة ، لا يرومها ولا يتوجه اليها ، ولا يدعو اليها ، إلا القديسون والمصلحون الكبار .

اما جارسيا ماركيز ، هذا الكائن الانساني المحروس بأرواح أجداده ، والذي حاول العسكر في كولومبيا ، وطنه ، وبقية " جمهوريات الموز " تحويله إلى مشجب تتجمع أسلحة الثوريين المشترون عنده ، او " الوجه الجميل " لانظمة هرمه ، متآكلة ، فقدت اهليتها في الحياة والعيش .. فإنه كان يردد مع الجنرال ديجول من الاذاعة البريطانية قبل تحرير فرنسا من الاحتلال النازي :" لن أخرج عن صمتي ... إلا حين يكون الوطن مهددا ".

في بداية عقد السبعينات من القرن الماضي ، وعندما عرضت عليه الحكومة الكولومبية منصبا دبلوماسيا فخريا يدر عليه مالا كثيرا ، وهو الذي كان يعيش مع زوجته " مرسيدس " عند الحافات القصية لأبعد حالات العوز والفاقه والجوع ، فإنه قال قولته الشهيرة : " أستطيع ان أخدم وطني ، من دون أن اخدم حكومته ، أختلف مع النظام برمته ، اخالفه مخالفة كلية ، بكل جوانب تركيبه البالي الذي مر عليه الزمن ".

وقال ماركيز أيضا : أستطيع خدمة وطني بترفّعي ، وبان اتابع الكتابة مترفعاً!

كان ماركيز يدرك تمام الادراك ، ان حكومة كولومبيا التي تقتل الطلاب ، وتنفي المثقفين والادباء والفنانين . وتمارس سطوات العنف والابادة على كل من يخالفها الرأي والاعتقاد ، حكومة لا يجب مصافحة ممثليها ، ولا الترحيب بمثقفيها وكلاب حراستها.

بهذا الترفع في الكتابة ، وبهذا الارتباط بالاشواق الانسانية ، كان ماركيز يعيد كتابة تلك المدونة الشرقية القائلة : " يحكى أن صائدا كان يطارد سرب عصافير للايقاع بأفراد السرب ، وكانت عينا الصائد تذرفان دمعاً ، فقال عصفور لجاره : ألا تراه يبكي ؟ فرد عليه الجار : لا تنظر إلى عينه ... ولكن انظر إلى يديه...!!

إن هذه المدونة الشرقية ، ولو بصورة وطريقة غير مباشرة ، او من دون أن يتعرفا إلى منشنها أو قائلها ، وجدت لها تعبيرا مدهشا لدى مالرو وماركيز ، يتمثل في رصدهما وفضحهما لكل حالات الالغاء القسري لحرية البشر في مجتمعات كوكبنا الأرضي هذا.

غير ان الديكتاتور يظل ديكتاتورا.... سواء رفع المنجل والفأس ، او الصليب المعقوف ، او الهلال !

كيف ، ـ إذاً ـ تتحول هذه الاشتياقات الأخلاقية الكبرى ، لدى مالرو وماركيز ، على سبيل المثال لا الحصر ، إذا ما اختار احدهما ان يتحول إلى كاتب ، او مراسل صحافي ميداني ؟

من بين ما قرأت لمالرو في هذا الميدان ، مقابلة صحافية اجراها مع الزعيم الصيني الراحل " شو - ان - لاي " فإذا به يعيد تركيب " شو " كما في مشهد " التنور الوطني " الذي كان ينتظر أجساد الشيوعيين الصينيين في " الوضع البشري " !

ومن بين ما قرات لماركيز مقابلة صحافية مع صحافي امريكي يحترم نفسه كثيرا ، فوجدت ان الكاتب الصحافي المرتبط بضميره المهني والأخلاقي يتناظر ، لا بل يتشابه مع المبدع الروائي ولو كان من طراز ماركيز .

ألم يقل ماركيز ـ ذات يوم ـ انظروا الى القمم .. انها من دون تعقيد ؟!

جمعة اللامي

امارة الشارقة

12-7-1981

 

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved