كشكول – 16

2020-08-12

أول الكلام :

قدُم العهد بيني وبين آخر كشكول فأجهدت نفسي في أن أصل لرقم آخر كشكول بعد عناء يسير.. وآية الأمر أن تتجمع محاور صغيرة متعددة بين الحين والآخر، وحين تفقد المقالة محورها الرئيس فألوذ أحيانا بما يسمى ظل المقالة الذي قد يكون أهم من المقالة ذاتها، وطبيعة الناس أنها تحب المخفي لغموض يستوجب إجلاءه..!

ثانيا:

أصارحكم أصدقائي أنني لست بوضع نفسي يسر وربما أن وضعي الجسماني هو القطرة التي فاضت بها الكأس ! وأن يكتئب الإنسان من وضع عام لأيسر، فهو أمر عاديّ وفق التعبير العراقي الذي أحب " هي روح لو خشبة !" فأنكفيء على الذات وأجماً متفكراً أحاول التفريغ وفق القاعدة النفسية للترويح عن النفس أو "فش الخلىء" وفق التعبير اللبناني.. ولعل الكتابة هي أعلى درجات التفريغ، وإن كانت هي المشي على الجمر!

 الإعتكاف الجبري الكوروني طال عليّ ولست وحدي طبعا، فأفرغ بالكلام مع زوجتي في كل يوم ونتساقى أحاديث ودودة لا تخلو من "النقرة" الودودة هي الأخرى ! وأشدّ حالات الشعور بالوحدة هو أن أتكلم مرات مع صديق عزيز نستمتع بأحاديث ذكريات الطفولة .. وحدث مرة أن تكلمت مع شخص لا أعرفه ولكنني أقرأ له أحياناً فتوسمت فيه طيبة وحديثاً حلواً ودفءاً إنسانيا.. وعلى أية حال، فأصدق من عبّر عن الحالة أبو المحسّد :

إذا أردتُ كُميْتَ اللونِ صافيةً – وجدتَها وحبيبُ النفسِ مفقودُ

ثالثا :

هل تغيرنا نحن العراقيين ؟ بكل تأكيد فالتغير سمة الحياة وقانونها وإن شئت ديالكتيها، وقد قال أحد فلاسفة اليونان : "نحن لا نشرب من النهر مرتين" لأن الماء يتجدد محتواه كمذيب وفي كل مرة يحمل معه من ملح وطين ومخلوقات لا نراها من بكتريا وفطريات وأشنات بنسب متفاوتة.. ، وكرهت تعبيراً شائعاً هو: "لاجديدَ تحت الشمس" ولا نافية للجنس فيها النفي القطعي والشمولي، وهو على نحو السفسطة اليونانية، وهي مماحكة كلامية لإثبات الشيء تارة أو نفيه تارة أخرى ! فتحت الشمس وفي الشمس وحولها بسنين ضوئية تحدث انفجارات كونية هي السبب في تمدد الكون إلى ما لانهاية على خلاف ما يحدث على كوكبنا من تفجيرات بفعل فاعل ومنها ما حصل في بيروت..

رابعا :

فهل من سمات من تغيرنا ؟! عُرف عن العراقيين انفتاحهم على الآخر، ذلك الإنفتاح التضامني ذو المغزى الإنساني، فعلى سبيل المثال يتعايش في بغداد أثنيات مختلفة ومن ذلك حي الطاطران، وهم بقايا التتر الذين سكنوه، وهناك الأزبكية (من اوزبكستان) ولهم جامعهم، وامتهنوا حدّ السكاكين بعتلة دائرية تحرك بالرجل ليدور حجر المسن الذي يلامسه نصل السكينة العمياء ! وهناك الأغوان أي الأفغان الذين امتهنوا مهنة الخبازة.. أما النجف فهي المدينة الأممية بامتياز.. وفي الصويرة هناك أثنيات مختلفة وأديان مغايرة عاش معتنقوها بأخوة وسلام.. ولكنني لمست تغيراً وهو نفور العراقيين من الأغيار الآخرين..

ولمست نفوراً من الفلسطينيين وقضيتهم بل وجدت البعض يجهر بحبه لإسرائل وحقها في الوجود.. ورأيت رؤية العين بل ولمست لمس اليد أن هناك جحداً للمواهب العراقية وللمبدعين من الشعراء تحديداً لأنهم مدحوا الطاغية أو لأنهم كانوا في حزب البعث ! وأرى في ذلك منزلقاً خطيراً وإجحافاً وتفريطاً مع ظلم وعسف، سيجفل من هذا بعض الأصدقاء .. وأقول لهذا البعض الكريم : إن أصحاب المواهب الإبداعية هي فئة ذات امتياز وهي حالة نخبوية خاصة، فليس كل الناس مبدع ! بعبارة أخرى هم ثروة وطنية ومفخرة لايجوز التفريط بها لأن جحدها هو موقف لاوطني ولا إنساني، ولي أن أردد ما آمنت به ومن تجربتي المتواضعة: قد يُخطىء السياسي فرداً وجماعات (كالأحزاب) ويبقى الموقف الإنساني هو الصحيح !

حدث زلزال أغادير عام 1960 وكنا أطفالاً في مدينتنا الصغيرة، وأمسكنا خوابي بأيدينا الصغيرة لجمع التبرعات وكان أهل بلدتنا الصغيرة مثال للأريحية والكرم كباقي مدن العراق وفعلنا كذلك مع الجزائر الثائرة في المدة ذاتها وكذلك فعلنا للقضية الفلسطينة.. فلماذا هذا البرود الملموس إزاء نكبة بيروت ؟!

أحسب أن السياسة القومية التي تاجر بها القوميون عموماً وجسدها صدام بحروبه وطغيانه؛ ومحبة أخواننا العرب للطاغية صدام جعلت قطاعاً من العراقيين يكفر بالاتجاه القومي !!

خامساً :

أريد ان أختم الكشكول بنقطة مغايرة مما هو يومي : أمر في شارع الورود أتمشى لمدة ساعة، شاهدت شابا وشابة  من طلبة الجامعة القريبة وقفا تحت شجرة يقطفون ثماراً يعبونها في أفواههم عبّا، فتذكرت شيئاً من طفولتي حيث كنت أقف تحت أشجار التوت أقطف من ثماره الحمراء/السوداء وأعبها في فمي فإذا سقطت حبة في الساقية يصطبغ الماء بلون أحمرَ قانٍ غدا أحب الألوان عندي..

ابتسمت لهما  فاقتربت الفتاة لتطعمني قائلة : لذيذ وعبق ياسيدي (أروي ما هوم ما كاااا) فتناولت وأحدة وشكرتها.. وأصبحت عاشقاً كلفاً لهذه الثمار، تستوقفني الشجرة لأذوق منها، أمس مررت وجنيت ثمارا بسعة راحة اليد!! طعمها يشبه الكرز (حب الملوك) ورائحتها عبقة كالفانيلا !

الثاني عشر من آب 2020

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved