يلتفت إليها بابتسامة عريضة . الكُرْسي والكَسْكيط . يتكلمان.يبتهج . يستمع إليهما، يقولان ما لم تستطع قوله "فاطم" ولا "فاطم الزهراء" ولا "أزهار". يردد شعر"بشار" :
وكنت إذا ظمئت إلى قراح شركت الكلب في وَلَغ الإطار
تمسح الغبار بمنديل جاف وقد تغير لونه من أبيض إلى رمادي غامق، تفكر في تأول الأسماء، "بُوقَسُو" هو "بيكَسو". "للا ستي كَلينة" هي "الست كايا"، "بُومية"هو "أبومي"، أسماء قَوْلَبَتْها الثقافة الشعْبَوية المغربية، بحسب لهجتها المحلية، تناغماً مع اسم فنان تشكيلي، أو سيدة صالحة، أو قرية وسط غابة الأرز، تجد عندها رغبة في تأويل كل اسم، تبتهج وهي تتبين صلته بحدث موسوم به، مع اختلاف البنيات الهُلامية والفرضيات التي استدعتها ما تحْمل أجندة ذاكرتها من مُستندات تدعم تأولها، تمسح الغبار وهو يتحرك أمامها ويستمع إلى الكُرْسي والكَسْكيط يتكلمان، يستمع إليهما مُنشرحاً، وكوب نَقْع ماء الزَعْتر حَميم بيده وهو يرتل البسملة : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين.. انتبهت إليه حين اندلق نَقْع الزعتر، ركعت على الأرض جففتها وهي تخفي غضبها .سألته :
- التاريخ لا يذكر امرأة أثقل الإملاق ممشاها، ولا يذكر من انخفضت إلى الأرض تجففها .
لا يجيبها. يقرأ شعراً، يستملحه :
وأخذتَ أطْوَارَ الكلام فلم تدعْ شتماً يضر ولا مديحاً ينفع
تختفي المرأة الفقيرة. يتمثل لها "الحُطيئة" يواجه "عُمر" بن الخطاب، لضرر نافع أصابه. لا تهتم بأمره. تنتبه إلى دَفَقِ نقع الزعتر الحَرُورِ ، ينساب إلى رواية - شهادة وفاة كلب. تجده قد بلل وجه الغلاف، لا تغضب. في عجلة تنزع ورقة من علبة البلاستيك. تجفف الغلاف من دفق ماء الزعتر. تحثه على أن يحتسي الزعتر جالسا، مثل الأدباء والمفكرين والفنانين والمخترعين والسياسيين. وأن يجلس على الكُرسي، ويضع فوق رأسه الكَسْكيط . لا يهتم بكلامها. يَحْتسي نقع الزعتر واقفا دون أن يتذوقه. لا يقتدي بالأدباء والمفكرين والفنانين والسياسيين عندما يرتشفون القهوة. يقول لها :
- لا أجلس على الكُرْسي، ولا أضع فوق رأسي الكَسْكيط. أقف أتحرك. أريد أن أسمع لظى نيران آتية من وسط أدغال الغابة المجاورة لسكن زميلي "عبد اللطيف"، ليستوي دماغي وتصفو سريرتي ويهدأ روعي. أقف أتحرك على دفءِ لهب نيران. لقد نعتتني جدتي بقولها لي:- وَلَدَتْك أُمك واقفة. لا أجلس.اسمع الكُرْسي والكَسْكيط يتكلمان. أقف واسمع معهما حفيف لهب نيران خلف باب الحديقة.
يرى نَقْع ماء الزعتر وقد اندلق على الأرض. تجففه وتقول له:
- لو احتسيت الزعتر جالسا، كما كان يحتسي"مارسيل" بروست ، الشاي الأسود، لما اندلق نَقْعُه على الأرض وانساب إلى رواية - البحث عن الزمن المفقود. أنت لا تشبه "بروست" لأنك مثل من يُسِرُّ حَسْواً في ارتغاء.
يجيب بسرعة:
- أنا لي خصوصياتي المتفردة. عندما يلامس نقع الزعتر لساني لا أتذوقه، لكن أتحسٌسُ بعض أوراقه الصغيرة تُغرس بين فراغات أسناني، اجمعها مُضغة أعْصِرُها، احصل على مَذاق الزعتر قويا، يمس النقع الحار اللهاة في فمي وتحمر وجنتاي، وتجف شفتاي، واشعر بفراغ في بطني، وَوَهَن في عظمي، وتصعد حرارته إلى خياشيمي. حينئذ أقذف المُضْغة إلى الحلقوم. أعيد نقع الزعتر الحرور إلى فمي. انتبه إلى لذة ساحرة منعشة.
تلتفت إليه وقد اختنق بجُرْعة انفلتت وتسربت إلى القصبة الهوائية من جراء ولوج نقع الزعتر إلى مجرى التنفس خطأ. اختنق...امتدت يده إلى قارورة فوق الطاولة، كتب على واجهتها حروفا مُذهبة باللاتينية ويسْكي[1] . بداخلها عصير الرُمان.تقول له:
- "البَا والتا، سبحان من لا يَسْهَى ولا يَنْسَى." يحصل الخطأ كما يحصل الصواب. لعل جُرعة من نقع ماء الزعتر أخطأت صوابها ونفذت إلى مجرى القصبة الهوائية. انتبه إلى هذه القارورة، لقد كان بداخلها خمر. لا تسكب العصير فيها مرة أخرى. توجد بداخل الثلاجة قارورة بعصير النارنج. كتب على زجاجها حروفا بالعربية سيدي "علي".وهي غير مذهبة.
يخيفها بنظرات قاسية، و قد أحجم عن شَتْمِها. تجد له عُذرا وتقول:
- "البَا والتَا، سبحان من لا يَسْهَى ولا يَنْسَى."
يحصل الخطأ كما يحصل الصواب، لعل جُرعة من نقع الزعتر أخطأت صوابها ونفذت إلى مجرى القصبة الهوائية. لم تستطع أن تنطق -ب ، ت.بلكنة جدتها .بدأت تصوب غنتها وهي تتساءل في سريرتها:
- ب ، ت. وفي أي زمان ومكان كتبت " زُهُور" -الباء والتاء؟وفي أي زمان ومكان كتب"مارسيل" - البحت عن الزمن المفقود ؟."زهور" لا تختنق تحتسي الزعتر صافيا تحترس أن تنفلت إلى حلقومها وريقات الزعتر. " مرسيل" يختنق.
تمسح الغبار عن ديــــوان - أزهار الشر.تضعه جانبا، لأنها تريد أن تزين به غرفة صديقات أجمل العمر. تسقط من بين يدها رواية - لوليتا. تهمس:
- ما معنى أن يحب رجل مسن صبية؟
لعله يهرب من الموت مثل "ترامب".الفاتنة "مِيلانيا" طلبت مالا كثيرا. لكن الصبية "دولوريس هيز" ذات12 عاما، في رواية - لوليتا، لم تطلب المال، اعتدى عليها البطل "همبرت"، لأنه مريض بشهوة الصبيات.
سدد النظر إليها شزرا، و قد بدا تنفسها مرتفعا وهي منهكة غارقة تمسح الغبار. أراد أن يخرجها من غبار الكتب، إلى طاجين اللحم بالبَرْقُوق، الذي ينتظر اسْتواءه على نيران. اقترب منها وهو يحدث نفسه كعادته بصوت مُنخفض مَليح:
-المرأة تحتاج إلى الدَلال، أكثر من الكلب.
لم تفهم كلامه. لعل المرأة التي يقصد هي "مِيلانيا". تمسح الغبار عن رواية- اسم الوردة. لا تلتفتُ إليه.
قال لها منبها وقد ارتفع صوته، كأنه مُحاضر يُحاضر بمُدرج الشريف "الإدْريسي" بكلية الآداب ليُوقظ الحُضُور من النوم:
- اسم الوردة هذه الرواية فصلها الروائي على مقاس علم السيمياء، ووظف بمهارة بنيتها السردية في سلسلة تقوم على مفهوم القتل،واكتشفت معه في النهاية أن المجرم مجرد نص مفزع جميل، يجب مواجهته بصبر. يعجبني هذا الروائي لأنه أحرق كتب خزانته، أنا مثله بدأت أحرق كتب خزانتي، أفرح بلهب نيران عندما أحرق كتبي، مُسْتأنسا بفعل هذا الروائي الذي حرق جميع الكتب التي سبق أن قرأها وخزنها في دماغه.أشعل فيها نيرانا. إلا ما أحْجَم لهب النار عن الوصول إليها، لأن حروفها كتبت بماء الذهب. لقد أوْعَزت لزميلي "عبد ال.."، أن يفعل مثلي. وجدته مُترددا. لكن عندي حَدْس قوي أن خزانة كتبه ستلتهمها نيران، وسيُسمَع لهبُ حفيفها هذا النهار.
ينتبه إليها وقد سقط ديوان - اللهب والدخان من بين يديه. يحمله من فوق الأرض وهو يقول لها:
- هذا الديوان لشاعرة هي زوج زميل درس معي بظهر المهراز. كان من الممكن أن يُنصّب وزيرا لو لا انتسابه إلى الأوْبَاش.
يقرأ عنوان الديوان وهو يقول:
- لهب نيران.هذا العنوان أحسن.
يمسك بديوان آخر.سيرة لأبناء الورد. لا يفتحه.يفتح صفحة من كتاب طوق الحمامة.. وأما أنا فالموت عندي أسهل من الفراق. يهمس بصوت خافت:
-فارقنا "فلان بن فرتان" وحزنت الجبالُ على قتله.
تمسح الغبار عن رواية كُتبت بحروف لاتينية وباللغة الفرنسية -.. ويزهر الياسمين[2].هدية من صديقتها "سيلفيا". سبق أن أخبرتها أنها ستحوَّل إلى فيلم سينمائي. تتحدث الرواية عن طفولة جميلة في مدينة مراكش. يُغني لها بصوت جميل:
- الوَرْدُ جميل.
تغني:
- يا وْريدَة بين النخيل.
تقول له:
- علم الخَزَر. رفرف فوق وريدة بين النخيل.
على إثر سماعه علم الخزر.خرج مُغاضبا وبيده رواية -حرب الكلب الثانية. وبدأ يتذكر سفره إلى مصر. عندما مضى إلى الحدود المصرية الصَهْيُونية، وجدها على غاية من المتانة، وأقام بقرية قريبة من الحدود حيث شاهد بالمِنْظار عدداً من الجنود الإسرائيليين المدججين بالسلاح يطاردون فلسطينيا فارّا إلى الحدود المصرية. شاهد اعتراضَ الجنود المصريين له عندما اعتقلوه، و تراجع عنه الجنود الإسرائيليون بعد أن أطلقوا نيرانَ مسدساتهم، تحية لأعوانهم في الضفة الأخرى من الحدود .
[1]-اسم يطلق على نوع من الخمرWiski
[2]- Et le jasmin refleurit..