كيف يختار الشعراء نهايات قصائدهم

2010-01-15

تُصادفني في الفترة الأخيرة ظاهرة ليست مُرضية عند عددٍ من الشعراء المُحدثين، وأنا أقرأ لهم قصائدهم الجميلة، وأراها ككلٍ متكامل، وعلى شكل وثباتٍ حسية في كل مقاطعها، إلا أنها لا تُحافظ على حيويتها عند بلوغ النهاية.. وفي حين أكون (كقارئ) في تهويمه انفعالية جميلة.. أرى بعض القصائد وقد انتهت بشكلٍ بارد، لا يمتّ بصلةٍ إلى مخاضاتها الديناميكية التي عشتها وكُنتُ منسجم مع مفاصلها.

إذاً كيف يُمكن للشاعر أن يبلغ هذه النهاية ؟

يقول "دي لاكروا" أن الشعر لا نهاية له، وإنما يفرض الشاعر النهاية ليقطعه ويفرغ لمقتضيات الحياة العملية، فهل هذا صحيح؟

أرى أن الإجابة التي سأفضي بها - ومن خلال قراءاتي لشعراء عرب وأجانب - هو أنّ الأمر على عكس ذلك. "فأن" الشاعر لا يفرض النهاية على القصيدة بل يتلقاها، ومن ثمّ فقد قال لي مرّةً الشاعر المُبدع سعدي يوسف، في حديثٍ خاصٍ معه: (بأن القصيدة هي التي تفرغ مني ولستُ أنا الذي أفرغ منها).

وفي حديثٍ مع شاعرٍ آخر ذكر لي: "إنما تنتهي القصيدة كما تنتهي العملية الجنسية.. أحياناً تنتهي وكأنّك تستيقظ من النوم.. أحياناً أكتب عشرة أبيات وينتهي كل شيء، وأحياناً أكتب قصيدة طويلة". من هذه الإجابة ومن إجاباتٍ أخرى مُشابهة يتّضح لنا أنّ نهاية القصيدة تحتّمها طبيعة فعل الإبداع، من حيث أنّه فعلٌ متكامل، له بداية وله نهاية، متضمنتان أصلاً في التوتّر الذي يُدفَع الشاعر إليه.

فنحن عندما نبدأ أي فعلٍ ينشأ عندنا توتّر لا ينخفض إلا ببلوغ الفعل نهايته، ولا تكون هذه النهاية حاضرةً في ذهننا منذ البداية.

وليس من الضروري أبداً أن تكون نهايةً نعرفها، أي نُدركها إدراكاً واضحاً، باعتبارها نهاية. بل أنّ علاقتنا بها علاقة ديناميكية أصلاً، فنحن "نبلغها" وهنا ينخفض التوتّر.

والتوتّر نفسه هو نظامٌ ديناميكي مُتكامل، بحيث يُملي علينا تكامل الفعل، فنحن إذا بدأنا السعي نحو غايةٍ مُعيّنة نشعر بضغطٍ شديد يدفعنا إلى مواصلة السعي نحوها، فإذا حاول أحدٌ أن يقف في وجهنا، فهنا تنشأ مظاهر السلوك الانفعالي، فنُحاول أن نُزيل العقبة بكل الطرق المُمْكِنة، وفي كثيرٍ من لحظات هذه المحاولة لا نعي الهدف بوضوحٍ في ذهننا لكننا نُنفّذ ما يقتضينا إياه ضغط التوتّر الذي نحمله.

والواقع أننا نستطيع أن نتّخذ من التوتّر عند الشاعر أساساً ديناميكياً لوحدة القصيدة، فهو يُساهم بنصيبٍ كبيرٍ في تحديد الهدف والطريق إليه. والظاهر أن نهاية القصيدة تكون على الدوام ذات صلةٍ واضحة ببدايتها، وبذلك يتم للشاعر تحقيق فعلٍ مُتكامل في صميمه، ينتهي في موضعٍ شبيهٍ بموضع بدأه، وإن لم يكن هو بالضبط، لأنّه عودٌ إلى هذا الموضع بعد رحلةٍ أكسبت الشاعر خبراتٍ جديدة... فهل يستطيع شعراءنا المحدثون من منحنا ضربة الوتر الأخيرة لتنتهي تهويمة القصيدة بإشباعٍ شعوريٍ مُريح.؟ بانتظار ثراء تجاربكم... أيها المجددون.

والله الموفق

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved