مونودراما
المكان : غرفة امرأة وخزانة ومكتبة وساعة كبيرة مثبتة على الجدار ، كيس ابيض كبير
الزمان : صباحا
الشخصيات : امرأة متوسطة العمر
أمام خزانتها تحضر حقيبة السفر، تخرج ثيابها ثوبا تلو الآخر ومع كل ثوب تتلو حكايتها معه
تخرج ثوبا أخضر تتلمسه بحنان وتحمله :
المرأة - هكذا كانت البداية .. بخضرة هذا الثوب الأخرق .. بخضرة خيوطه الممتدة من أقاصي الحلم الى أقاصي الوهم ..
يومها كانت أيامي تلتحف بالرمال ..
لكني رأيت الخضرة تفترش صحارى قلبي من فمه الذي أمطر أحلى القصائد حتى آخر قطرة رمل في خوائي ..
( كم يليق بكِ هذا اللون ) ..
رمى بها في مدادي ليتدحرج الحب فوق بساط أخضر افترشني حتى هذا الوقت المتأخر من الحب ..
( تنهض وهي تحمل الثوب .. تدور به على المسرح )
خلتني فراشة تدور بألق أجنحتها من زهرة الى أخرى ..
خلتني امرأة بأجنحة من بياض ..
خلتني ....
(تدق الساعة المعلقة على الحائط لتذكرها بالوقت ثم تستدرك وهي تستفيق من هذيانها )
ترمي بالثوب في الكيس الكبير بحركة سريعة )
- يكفي .. كان هذا الثوب طعما لاستدراجي للجحيم ..
جحيمه الذي مايزال يستعر في ذاكرتي وروحي .. سأتخلص منه ..( تخاطب الثوب في الكيس ) هنا مكانك .. لقد تأخرت طويلا في الخلاص منك ..
كنت متواطئا مع صوته ضدي ..
مع قصائده ضد يقيني ..
مع الذكرى ضد النسيان .. مع ..(تستدرك وهي تعاود النظر الى الساعه من جديد )
- يا الهي أتى الصباح ومازلت لم أحضر حقيبتي بعد ..
يجب أن أنتهي لأن سيارة الخلاص لن تنتظرني ..
( تخرج ثوبا أحمر .. تتأمله وهي تحمله وتحاوره )
- الى الجحيم .. الى كيس النسيان .. أنت وقبلته الموشومة فوق حمرتك ..
رقصتنا المجنونة على كتف البحر .. (تضع الثوب في الكيس وتستمر بحواره حتى تنهض لتمثل رقصتها معه )
هكذا .. أمسك بيدي لأول مرة ..
هكذا تعلمت أصابعي المرتبكة الدرب الى سمرته الطاغية ..
كان يرسم لي خطواتي .. وكنت أسير مغمضة العين .. فاتحة القلب على مصراعيه ..
( أنت زهرتي البرية ) .. كان يهمسها في مسامعي مبتهلا كأنه يتلو صلاته عند اعتابي ..
كان ....( تستدرك .. تتطلع الى يديها الخاويتين وتعود الى الخزانة لتكمل تفريغها )
تخرج ثوب زفاف أبيض تحمله وتتأمله وسط المسرح ..
وموسيقى فرح خافتة ترافق كلامها
تضعه على جسدها وتدور به في المسرح على وقع الموسيقى البعيدة )
كنت سأرقص بأجنحته البيضاء فوق أوتار فرحك العصي ..
(تثبت الثوب على جسدها وتخاطبه )
- كان بياضك سيضم سواد أيامي الحالكة .. لكنك كنت تصغر عاما تلو آخر .. خيبة تلو أخرى .. وكان جسدي يعانق خواءه كل ليلة.. انظر .. ذراعي أطول من ذراعك .. وقامة حزني تفوق قامة فرحك المؤجل حتى عمر آخر ..
حتى بياضك أصبح كالحاً يعلوه غبار الأنتظار العقيم ..
لم تعد تشبه ثوب الزفاف ..
أصبح لبياضك رائحة الكفن ..
( تنفعل ويرتفع صوتها )
- لم تعد ثوب زفافي .. بل كفني الذي جفف أيامي وأحلامي وصلبني على خشية الإنتظار عشرة أعوام ..
كان بياضك قد بدأ ينشر لعناته في جسدي .. أنظر ..( تفرد شعرها لتخرج خصلات بيضاء من الشيب )
هذا هو بياضك اللعين يتسلل الى شعري ..
كل شيء اكتسى بلعنة بياضك .. الخضرة .. والحمرة .. و .. ( يعلو ضجيج أطفال من مكان قريب ، تصمت برهة ... تصغي اليهم .. يعلو صوت أحد الأطفال وهو يضحك ، وتخاطب الجمهور وهي تشير لمصدر الصوت )
- انه محمود .. ابن جارتي التي ولدته على يدي قبل عشرة أعوام .. كان صغيرا .. كان جسده طريا وناعما وملامحه دقيقة .. وقد أعطتني أمه قماطه لأحتفظ به لولدي القادم .. لطفلي الذي انتظرته منذ عشرة اعوام ( ترمي الثوب على الارض وتمسك ببطنها وهي تخاطبه)
هذا هو بياضك يتسلل نحو رحمي .. ليجففه من احلامه المعتقة منذ زمن بعيد ..
تخرج من الخزانة قماطا أبيض وملابس طفل بيضاء )
كل شيء ابتلعته لعنتك البيضاء .. وعوده المصلوبة في رأسي وجسدي ..
أحلامك الجوفاء التي انتبذت من راسي مهادا فعاثت به كل هذا البكاء ..
الى كيس النسيان أيها البياض ..( تضع ملابس الطفل وثوب الزفاف في الكيس الأبيض الكبير )
تدق الساعة مرة أخرى ، تنظر نحوها بارتباك ، تسرع نحو المكتبة المكتظة بالكتب القديمة الكثيرة تجر الكيس الأبيض اليها وتضع الكتب كتابا تلو الاخر .. )
- أمامي وقت قصير قبل وصول السيارة التي ستقلني للمحطة .. موعد القطار بعد ساعة من الآن يجب أن أتخلص من هذه التركة الثقيلة .. من الجراد الذي ملأ رأسي لسنوات طويلة .. كل هذا الهراء .. الى كيس النسيان ..
الكتب التي جففت أيامي وصلبتها فوق حروف سوداء ..
كنت أقتات عليها وكان الزمن يقتات على سنواتي ويعدو فوق ربيعي بسرعة الريح ..
( تقلد الريح بيديها وصوتها ) هكذا ...
(تستمر برمي الكتب كتابا تلو اخر في الكيس وهي تردد )
- الجراد .. الجراد .. الكثير من الجراد ..
تقع يدها على مظروف قديم فيه رسائل قديمة فتتوقف برهة وهي تتطلع اليه )
- (بانكسار ) الرسائل ؟
(تستدرك الوقت وبصوت ساخر وضحكة ساخرة )
- الرسائل اذن .. كل ما امتلكته من سنواتي التي عبرتني كالبرق ..
كلمات .. حبر أسود فوق بياض لعين .. إنه البياض مرة أخرى !
يلاحقني حيثما ذهبت ..
كلماتك المجففة فوق صفحات الفراغ ..
( تجلس على الارض وتفرد الرسائل لتاخذ احداها وتبدأ تقرأها بحنين كبير وموسيقى حزينة ترافقها )
- امرأتي والنبض الذي يسري في جسدي .. أعرف أن المسافة بيننا مقيتة كما هو هذا الفراق العسير الذي يدك جسدينا بالشوق معا .. لكني أريدك أن تتيقني أن الربيع قادم ..
وأن الحرب ستضع اوزار خرابها لأحط بين ذراعيك بهذا الشوق العظيم ..)
(تخرج رسالة اخرى وتقرأها )
- البارحة زرتِني في منامي ..
التصقت بكِ مثل طفل يتعلق بعباءة أمه .. وكنت ترمقينني بعتب كبير ، استيقظت صباحا على نظراتك المعاتبة الحزينة .. هل تعاتبيني على هذا الغياب القسري حقا؟
أعرف أن الوقت طال بيننا .. لكن الوطن يحتاجني اليوم أكثر من أي وقت مضى .. إنها مرحلة حرجة سنجتازها حتما ..
لا أريد أن أكون قيدا لك ..
لكني أريدك أن تمنحيني بعضا من الوقت ..
أنت معركتي القادمة .
تدق الساعة على الحائط فلا تبالي بدقاتها وتستمر بجلوسها وهي تقلب الرسائل فتختار واحدة اخرى )
- اليوم رزق عبد الباري زميلي في الحرب والسلم بصبي جميل وكان يبكي من الفرح ..
بالدمع أيضا سأستقبل طفلنا القادم وهو يدوس بقدميه الصغيرتين فوق سنوات القحط هذه ..
( صوت سيارة يقترب ويعلو منبهها ، لكنها لاتأبه وتستمر بقراءة الرسائل )
- لا أعرف كيف أبدأ .. لكني يجب أن أنهي نزفك معي ..
أن أفك قيدك وأطلقك بوجه الريح والحياة .. لقد أتت الحرب على روحي وأحرقتها ..
لايمكنني أن أرهن ربيعك بغابتي المحترقة ..
لك مطلق الحرية في التحليق بسماء أخرى ..
عشرة أعوام تكفي ..
عشرة أعوام من الفرح العصي والبكاء والإحتراق الصامت والأمنيات التي شاخت على نوافذ الإنتظار .. تكفي ..
أنا أطعن نفسي برحيلك المحتوم ..
لكنها الحياة التي لم تكن عادلة .
( صوت السيارة وهي تغادر .. بينما تستمر المرأة بتقليب الرسائل .. تعلو موسيقى حزينة وتخفت الإنارة بالتدريج ..
يسدل الستار )
تمت