العرب والانتظار

2018-09-01
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/591fbc9a-baed-4f76-99a1-b19f735467e4.jpeg
هل نحن محكومون بالانتظار ؟
 
هل يَعودُ حبيبٌ رحلَ، أو شبابٌ انقضى، وهل الانتظارُ قدرٌ لا فِكاكَ منه ؟
 
هل يوجد انتظارٌ إيجابيٌّ وآخر سلبيٌّ، أم أنَّه وهمٌ وخِداعُ نفْسٍ ؟

لا ضيْرَ بانتظارِ الأَرضِ للمطرِ، واللَّيلِ للقَمرِ، وَلكنْ ما نفعُ انتظار مَنْ تحبُّ وقلبُه بغيرِكَ مُعلَّقٌ ؟ فَقدْ رحلَ الحَبيبُ عُمُرَاً كاملاً وانتهى الأمر، فَرحٌ يأتي مُتأخِراً لا طَائلَ مِنهُ، بَلْ حَتَّى النَّصرُ المتأَخِّرُ عن وقتِه ليسَ إلا هزيمةً جديدةً تُضافُ إلى هزائمِ العمرِ، فالأمور محكومةٌ بمواقيتها وإلَّا فَلا نفعَ يُؤْمَلُ منها .
 
حَقَّاً أنَّ العُمُرَ مَاضٍ إلى مَرساه الأخير، لا جدالَ في ذلك، ولكن أُفَضِّلُ ألفَ مَرَّةٍ سُلوكَ طريق محفوفٍ بالمخاطرِ يَوصلُنِي إلى هدفٍ مرتجى، على انتظار مجهولٍ لا يدَ لي في صُنْعه .
 
عُدْتُ إلى زَمنِ الجاهليَّةِ فَشاهدْتُ عنترةَ العَبسيَّ يَنْتظرُ انتصارَه في مَعاركِه كُلِّها لَيحظَى بِالاعترافِ من أَبيه، والزَّواج بعبلة .
 
وَصلْتُ إلى مَرجِ دابق، فَرأيْتُ قَائداً من جيشِ قَانصوه الغَوري يَقولُ مُحاولاً مُواسَاةَ جُنودهِ المَهزومِين :
 
- لا بَأْسَ عَليكُم يا رجال، انتظرُوا خُروجَ الأتراكِ، أُوكِّدُ لكم أنَّهم سَيخرجُون من أَرضِنا مَدحورِينَ ولو بعدَ أربعمائةِ عامٍ .
 
وَكانَ مُصِيْبَاً بِالفعلِ لِكَبِدِ الحَقيقةِ .
 
وَحينَ بَلغْتُ قَاهرةَ المُعِزِّ عام 1960، سَمعْتُ مُثْقَّفَاً عَربِيَّاً يَجْزمُ لِرفَاقِه أنَّ تَوحدَ العَربِ محتومٌ بعد بِضْعِ سِنينَ .
 
وَقبْل نِهايةِ عَامٍ وإِطْلالةِ عَامٍ جَديدٍ، وَجدْتُ العَرَّافاتِ والمُتنبِّئِينَ الكَاذبِين يَنصحُونَ النَّاسَ بِانتظارِ العَامِ القَادمِ ; وخصوصاً الأَشْهُرَ الأَخيرةَ منه ففيها الفرحُ المُؤكَّدُ والنَّصْرَ والسُؤدُدَ .
 
في واقعِنا العربيِّ، ما أكثرَ ما يُؤلِمُنا ويُؤذينا، ولكنَّ أَحدُ أعدائنا الألدَّاءِ حَسَبَ رَأْيِي المُتواضِعِ هو الانتظارُ، فالمستقْبَلُ لا يَنتمِي إلى أَحلامِ المُنتظِرِين بل إلى أَفكارِ العَامِلِين .
 
اعتقِدُ جَازماَ أنَّ قراءةَ صَفحتَينِ مِن كتابٍ ما، أو تَمَرُّنَ رَياضيٍّ مُحتَرفٍ مُدّةَ سَاعتَين، أوعملاً صالحاً لمؤْمِنٍ بِقضِيَّتِه أَفضلُ مِن مُحاولةِ تُوقِّعِ أَسئلة الامتحان، أو الاتِّكَالِ على ضَعْفِ المُنافِسِ، أو تَرْكِ الأمُورِ لِلصُّدَفِ الحِسانِ .
 
فَحتَّى حَلُّ مَسْأَلةِ رِياضيَّاتٍ أو مُعضِلَةٍ عِلميَّةٍ، والَّذي قَدْ يَدْهَمُ شَخْصَاً ما في حُلْمٍ كما يَقولُ البَعْضُ، سَيقتصِرُ حَسَبَ قَناعتِي الشَّخْصيَّةِ على طَالبِ عِلْمٍ  أَمْضَى نَهارَهُ، وشَطْرَ لَيلِه في التَّفْكِيرِ، ومُحاولِة الحَلِّ، فَيأتي الحُلْمُ اِستكمالاً لِلواقعِ ونَتيجةً مَنطقيَّةً لَهُ، وليسَ بَديلاً عَنِ العَملِ، فَالإلهامُ إنْ جَاز التَّعبيرُ يكونُ استكمالاً للجهد المُضنِي، وَالبَحثِ المُسْتَفيضِ، وفي مُطْلَقِ الأَحوالِ ليسَ كعَاصِفَةٍ رعديَّةٍ فِي قَلْبِ يومِ صَحوٍ مَديدٍ .
 
قد يَبدُو الأَمْرُ هَامشيَّاً وَسط  مَشاكلِنا الكُبرى فِي وَطنِنا العَربيِّ، لكنِّي اعتقدُ أنَّه مُشكِلةٌ بِنيويَّةٌ تَجتاحُ طَريقةَ تَفكِيرِنا فَتحدُّ من قُدرتِنا على العملِ المُثمِرِ البنَّاء، وَتسلِمنا للالتهاءِ بالوهمِ .
 
وللإِنصافِ وتفاديَاً للتَّعميمِ والأفكارِ المُسَبَّقَةِ، فالانتظارُ كَثقافةٍ ليسَ حِكراً علينا نحنُ العرب، ولكنَّه لدينا يَأخذُ طابعَ الثَّقافةِ المُجتمعيَّةِ المُعيقةِ عن العَمل، والأمثلةُ عَلى ذلك عَديدةٌ، سبق ذكر بَعضٍ منها .
 
ولا يَخفَى على القارئِ الكَريمِ انتشارُ ثقافةِ انتظار المُخلِّصِ في الكثيرِ من المَذاهبِ الدِّينيَّةِ، شَرقاً وغَرباً .
 
الكاتبُ الفَرنسيُّ أندريه بروتون "1896-1966" André BRETON يُمَجِّدُ في أفكاره السُّورياليَّةِ  ثقافةَ الانتظارِ بِقولِهِ "Indépendamment de  ce qui : arrive, n'arrive pas, C'est l'attente qui est magnifique" (1)
ومعناهُ بِالعربيَّةِ : "بِمَعْزِلٍ عمّا سَيحدثُ، أوْ لا يُحدثُ، فالانتظارُ هو الرائعُ" ، أوْ بِقولِهِ " pas de tout de suite"   أَيْ "ليسَ فَوراً" 
 
(1) أَوْ في انتظارِ غودو لصمويل بيكيت الغَنيِّ عن التَّعريفِ .
فِفكرةُ الانتظارِ قَدْ لا تكونُ مُقلِقَةً لِلمُجتَمعِ الغَربيِّ، وَقدْ تَرسَّخَتْ أفكارُ الحَداثةِ، بل تفَشى مَفهومُ ما بعدَ الحداثةِ فيه، لكنَّها بِرأيِي البَّسيطِ لا تلاؤمُ مُجتمعَنا العربيّ الَّذي نَطمحُ حَالِيَّاً أنْ يَتلمَّسَ طَريقَ نَهْضةٍ، وحريَّةٍ فكريَّةٍ جديدةٍ .
وأُشيرُ أَيضَاً إلى وجودِ كُتَّابٍ أَخَرِين في الغَربِ، قَديماَ وحَديثاً، انتقدوا ثَقافةَ وَ" فَلسفةَ الانتظارِ" إن صَحَّتْ التَّسميَّة .
فالشَاعرُ الفرنسيُّ بيير كلود فيكتور بواست  Pierre –Claude-Victor BOISTE 
"1765-1824". 
يَقولُ :
 
  "L'attente, c'est la mort  de l'amour à petit feu, c'est le doute c'est  la dépendance" (2).
"الانتظارُ هوَ الموتُ البَطيءُ لِلحُبِّ، إنَّه الشَّكُّ، وَالخُضُوع".
 
والأَشدُّ تَعبِيرَاً عن الحَالِ مَقولةُ  موريس بلانشو وهو كاتبٌ رُوائيٌّ فَرنسيٌّ Maurice BLANCHOT "1907-2003"  حَيثُ يَقولُ :
 
"L'attente commence quand il n'y a plus rien à attendre"
وَتعنِي "يبدأُ الانتظارُ عندما لا يُوجَدُ شَيءٌ ليُنتَظَر"،
 أو "L'attente  n'attend rien" (3) أَيْ  "الانتظارُ لا يَنْتَظِرُ شَيْئَاً".
 
والقولُ البَليغُ لهنري فريدريك امييل وهو كاتبٌ، شاعِرٌ، وفيلسوفٌ سُويسريّ
Henri-Frédéric AMIEL   "1821-1881" :
 
 "On attend de vivre , et la mort vous surprend dans cette attente" (4).
"يُفاجِئُكَ الموتُ وأَنتَ تَنتظرُ أَنْ تَحيا".


وَقَبْلَ الخِتامِ، فلنْ أنتظرَ إلَّا نتيجةَ عَملِي، ولا أرجُو رؤيَّةَ ألَّا ما جِهدْتُ في بنائِه، ولا انبلاجَ صُبْحِ يومٍ جديدٍ لم أمضِ ليلَهُ بالصَّبرِ والعملِ .
 
أَعْتقدُ أنَّنَا نَحْتاجُ لِلَّحَاقِ بِرَكْبِ الأُمَمِ المُتقدِّمَةِ إلى
- التدارك  -
 
أَيْ تَداركِ ما فاتَ، أَيْ مُحاولةُ إِدراكهِ والوصولُ إلِيهِ، أَوْ تَداركِ الخَطأِ بِالصَّوابِ كَما تَشرحُ مَعاجمُ اللُّغةِ العربيَّةِ، مُستشهِداً بِقولِهِ تَعالَى في القُرآنِ الكَريمِ "لَولا أَنْ تَدارَكهُ نِعمَةٌ مِن ربّهِ لَنُبذَ بِالعَراءِ وهو مَذمُومٌ" (5) .
 
 فَعندمَا تَصِلُ الأمَّةُ إلى  تَقدُّمٍ كَافٍ، فَقدْ تَسْمَحُ لِنَفْسِهَا بِانتظارٍ هَادئٍ لِمَا بَعْدَه، أمَّا وَحالُ أُمَّتِنَا العَربيَّة على مَا هُوَ عَليه مِن تَرَدٍّ مُحْزِنٍ، فَنَحنُ في أمَسِّ الحاجةِ حسب رَأيِيٍ غَيرِ المُلْزِمِ إلى تَصْحِيحِ أَخطائِنا، والانطلاقِ بقُوةِ العِلمِ والعَمِلِ إلى المُسْتَقْبل الرَّحْبِ .
وَلِلْحَدِيثِ بَقيَّةٌ .

هوامش ومصادر:
(1) -André Breton :c'est l'attente qui est magnifique-18/10/2017-www.franceculture.fr.
(2) -Pierre -Claude-Pierre-Boist- Dictionnaire des meilleurs proverbes et plus belles citations françaises-proverbes-français.fr.
(3) -De Maurice Blanchot/L'attente,L'oubli-evene.lefigaro.fr/citation.
(4) -Henri-Frédéric-Amiel-Dictionnaire des meilleurs proverbes et plus belles citations françaises-proverbes-français.fr.
(5)- سورة القلم (49).


25/02/2018

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved