(مقاربة سيميائية)
إلى صديقي عمران عز الدين أحمد
بخلاف سيميائيات الصورة المرتكزة على تحويل الصوري إلى اللسانيTextualization يمكن القول بأن هذه الدراسة ترتكز على العكس تماما، أي تنطلق من محاولة ترجمة اللساني إلى الأيقوني Iconicalization أولا ومن ثم تحليله سيميائيا. والسبب في ذلك هو ما ألاحظه من تفوق الخطاب على النص في كتابات التونسية فاطمة بنمحمود مما يعطي متعة أكثر في دراستها سيميائيا. ثم إني لن أحلل كل ما ورد في النصوص الآتية بهذه الطريقة، بل سأقتصر على المفردات المفاتيح فحسب كجزء من التناغم مع هيمنة الخطابي على النصي من جهة، وتفاديا للإطالة من جهة أخرى إذ أعتقد بأن الأهم هو الكشف عن طبيعة النوى الأساسية العاملة في إنتاج النص الأدبي من هذه الناحية. أعتقد أنه عندما نرصد ميلا، لدى الكاتب، إلى تبسيط النص، مع الميل إلى تقوية الخطاب، يكون من الأنسب أن نكمل إيصال هذا النص إلى المستوى الأيقوني، للاتصال، كتتمة نقدية لحركة الكاتب الأدبية داخل النص.
تشمل هذه القراءة عينات من النصوص الشعرية والسردية معا نظرا لما تحمله من نقاط التقارب الأسلوبي بين الجنسين الأدبيين، كما أرى أن ذلك سيقوي استخراج مكونات الاستدلال على موضوع البحث بقدر ما قد يساعد القارئ أكثر على فهم الفكرة التي تدور حولها هذه الدراسة. بالإضافة إلى كون القراءة تتناول الشعري والسردي فإن شعر فاطمة بنمحمود هو شعر سردي، في كثير من أحيانه، أو أقرب إلى السرد القصير جدا. يتميز أدبها بالميل نحو تجاوز الصيغ السائدة لطرح العلاقات الاجتماعية و النفسية وغير ذلك من حيث التبئير Focalisation. إلا أن هذا التجاوز لا يتجلى في بعده اللغوي بقدر ما يتجلى في بعده الكلامي. لهذا فإن تحليل عينة من نصوصها يقود إلى ملاحظة أنها لا تنطلق من البعد اللساني للأدب وإنما تنطلق من بعده الخطابي كما أشرت أعلاه. أي أنها تضع المضمون الأدبي للنص فوق شكله. من المعلوم أن هناك من ينطلق من الداخل (الخطاب)، في إنجاز النص، وهناك من ينطلق من الخارج (النص). من هنا نرى ميلا واضحا، لنصوص فاطمة بنمحمود، إلى الخواطر بين الفلسفي والأدبي. شخصيا أعتقد بأن النص يكون أدبيا كلما عكس رصدا للموضوع من الداخل عن طريق إضفاء الذاتية عليه. ويكون فلسفيا كلما تحقق العكس. إذن هناك تناغم جدلي بين الاتجاه الألسني والذاتي من جهة، و بين الاتجاه الألسني والموضوعي من جهة أخرى. هناك خواطر فلسفية وأخرى أدبية. فما يجعلها أدبية هو كونها قائمة على الخيال وفن القول، أما ما يجعله فلسفية (حكمية) فهو ما يدفعها من الداخل نحو مطابقة الحدث المرجعي، ليس من حيث الوصف بل من حيث الحُكم. أعتقد أن كل الكتاب القائم أدبهم على بناء النصوص من الداخل يميلون إلى الحكمة، برأيي، عن طريق ميل لغتهم، عبر التضاؤل اللساني، إلى التقاط مشاهد الأحداث من زاوية الحكم بدل الوصف، ومن زاوية الموضوع بدل الذات التي تؤدي، عادة ونسبيا، إلى إطالة النص. لذلك نرى القطعة الأدبية، من هذا النوع، تتضاءل كميا (معجميا) شيئا فشيئا مع اتساعها كيفيا (دلاليا) لدرجة انطباقها الكلي، في بعض الأحيان، على حكم الحدث أو الظاهرة. عندما ينصت الأديب لبعده الذاتي، محاولا قياس الموضوع على مقاسه، يكون بمقدوره إطالة النص وإغنائه بخلق الانفتاح على أكبر قدر ممكن من الدلالات والعكس صحيح. وهذا ما سوف نخلص، في نهاية هذه القراءة، إلى توضيح علاقته بمضمون النص لدى فاطمة بنمحمود.
في أقصوصتها " حافة الصمت" من باقة بعنوان " على الحافة...أكاد أتماسك" (1) تقول:
"اتكأ على جدار
صمتها
مرّ العمر
وهو لا يزال
ينتظر.. مرورها"
بإسناد فعل "مرّ" إلى كل من العمر والحبيبة تجعل هذه الأخيرة مرادفة للعمر في نفسية المنتظِر. أي أنها عزيزة على قلبه مثل شبابه، لا بل إن الخطأ الذي ارتكبه عن طريق الإسراف في انتظارها يعني أنها كانت أفضل من هذا العمر نفسه. فاطمة بنمحمود تملك أنامل الطبيبة الجراحة. فهي تجر قلمها على الورقة بأكثر من رفق وأكثر من هدوء وتكتفي بتسجيل إشارة ضئيلة النسيج فإذا على شِفرتها يتقرر الفرق بين الفني والعادي. من خلال هذه القطعة نرى علاقة تكاملية بين العنوان والعرض تتجسد في تحويل الجدار إلى حافة. ولكن هذا التحول يتضمن اتكاء الرجل. وبهذا يكون مرور العمر، الذي قضاه في الانتظار اللاجدوى منه، كفيلا بتحويل هذا الجدار إلى حافة. من خلال كلمات قليلة تحكي الكاتبة عن قصة مؤلمة تبدأ من قمة الحماس للقاء، المتمثل في ارتكاب موبقة الانتظار، والإجهاز عليه بذهاب المنتظر(بكسر الظاء) إلى الجحيم. لو انطلقت الكاتبة، في كتابة هذه الأقصوصة، من الخارج (المستوى اللغوي) لكانت أطول مما هي عليه الآن، ولكنها، بهذا الشكل، تحمل انطباقا مضغوطا على حكم حقيقة نلمسها يوميا في كل مكان. من الجلي أن كلمة (المرور) تشكل بؤرة التعبير لدى الكاتبة في هذا الصدد. أو لنقل بأن هذه الكلمة تشكل النوة البلاغية التي انطلقت منها وهي تنسج ما يحيط بها من عناصر اللفظ والمعنى على مقاسها. أنظر،مرة أخرى، قولها "اتكأ على جدار صمتها" فقبل أن نصل إلى كلمة "الصمت" المعبرة عن توقف الصوت، الموحي بحركة ما داخلية، نرى أن هناك جدارا. والمعلوم أن مهمة الجدار الأساسية هي الفصل بين شيئين ؛ واحد موجود في الخارج والآخر في الداخل. إذا كان الحديث عن الباب يوحي بحركة ما يقام بها إما من الداخل إلى الخارج أو العكس فإن الجدار يوحي بالعكس (لا حركة)، أي ما يوجد في الداخل لا يوحي الجدار بتواجده في الخارج والعكس صحيح. نلاحظ أن الرجل المحور قد اتكأ على هذا الجدار المفترض أنه فاصل بينه وبين شخص ينتظره. ولكن الكاتبة تعطينا خبرا مفسرا لنوعية وماهية القابع داخل هذا الجدار. ألا وهو "صمت" الحبيبة وليس هذه الأخيرة بعينها. هناك نقطة أخرى وهي أن الكاتبة قد أصرت على الزج بالمنتظِر، في غياهب الانتظار، بحضوره الكلي بينما أصرت على الاكتفاء بجزء فقط من حضور المنتظَرة (بفتح الظاء). للمزيد من الإيضاح سأستخرج الضمائر العائدة إلى كيلا الشخصين لنرى النتيجة. لقد وردت الأفعال المسندة إلى المنتظِر كالتالي "اتكأ" "لا يزال" "ينتظر". نرى أن الوضعية التي أخذتها هذه الضمائر تدل على حضور كلي للمنتظِر داخل النص. لننظر العكس الذي وردت عليه الأفعال المسندة إلى المنتظَرة وهي كالتالي: "صمتها" "مرورها". أول ما يتوجب أخذه بعين الاعتبار هو أن ما تم إسناده إلى المنتظر عبارة عن أفعال، بينما تم إسناد الأسماء (مصادر الأفعال) إلى المنتظَرة. ولا ننسى أن الفعل يدل، في حد ذاته، على الحركة (حضور) بينما يدل الاسم على السكون (غياب) هذا يعني أن المنتظَرة ليست حاضرة حضورا (معجميا) كليا بل انتدبت "الصمت" في المقطع الأول كما انتدبت المرور في المقطع الثاني. لاحظ أن هذه المنتظَرة لم تغب على مستوى العرض فقط بل على مستوى البنية الصيغية أيضا. وهذا يعني أن غيابها راسخ= (حضور+ صغير). إذا كان المنتظِر يفوقها حضورا داخل النص، على مستوى العرض، فهو يفوقها على مستوى الصيغة أيضا من حيث الحيز المعجمي المخصص له (حضور+ كبير). ففي حين نجد الساردة قد خصصت له ثلاثة أفعال ( مرَّ/ لا يزال/ ينتظر) نجد أن تضاؤل حضور الحبيبة، على مستوى العرض أيضا يوافق تضاؤلها على مستوى الصيغة إذ أن الحيز المعجمي المخصص للحديث عنها أقل من الأول. مثلا ( صمتها/ مرورها). إذا كانت العناصر العائدة إلى الشخصين (الضمائر)، كما رأينا، تدل على نسبة الحضور لكل منهما في النص كيفيا (وضعية الضمائر) وكميا (عدد تكرارها) وأن كيلا البعدين يدلان بالتضاؤل على ضآلة الحضور والتكاثر على كثافة الحضور فإننا نرصد بعدا أخر لهذه النقطة يتمثل في أن العناصر المعجمية المنتَدبة على الحبيبة في النص تفوق ما انتُدب على المنتظِر. مثلا:
"اتكأ على جدار صمتها
مر العمر"
فالعمر هنا للمنتظر، أي أنه أفنى عمره في انتظار بوحها. نلاحظ هنا بأن الساردة عندما تتحدث عن "العمر"، في هذا السياق، فهي تتحدث عنه بدل الحديث المباشر عن المنتظِر. وهذا يعني أن "العمر" كلمة قد انتُدبت للتعبير عن حضور المنتظِر في النص. بما أن الرجل قد أخذ من العرض الإيجابي أكثر مما أخذته الحبيبة فهو لم يحصل على كلمة أخرى غير هذه "العمر" بينما نلاحظ أن الحبيبة بالعكس تماما أي أن الكلمات الدالة على حضورها بالانتداب تفوق ما هو عليه الأمر في شأن المنتظِر. لنرى الكلمات الانتدابية التي تقابل ما يحيل على المنتظِر:
(جدار/ صمت/ مرور)
إذا كان حضور المنتظر قد تفوق على حضور الحبيبة، في النص، لكون الساردة قد خصصت له ثلاثة ضمائر بينما خصصت للحبيبة ضميرين فإنا نرى العكس تماما على المستوى الانتدابي. أي أن الحضور الانتدابي للحبيبة يفوق الحضور الانتدابي للمنتظر لكون السارة قد خصصت لها ثلاث مفردات بينما خصصت للمنتظر مفردة واحدة. من هنا ندخل إلى مستوى العمق الذي يحكم النص، ألا وهو أن هناك ميلا لدى الساردة من العرض الموجب Positive show إلى العرض السالب Negative show. وهذا يعني أن المنتظِر ليس هو الذي يشكل موضوع النص بل تلك المرأة التي ترفض البوح ! بعبارة أخرى أقول بأن الساردة لم تتخذ الرجل المنتظر موضوعا لنصها بل اتخذت الحبيبة موضوعا. وإذا كان حضور هذه الحبيبة ضئيلا بالمقارنة مع حضور منتظرها، على مستوى العرض الإيجابي، فإن الحبيبة تفوقه حضورا على مستوى العرض السلبي الذي ألاحظ بأن الساردة تميل إليه على صعيد التبئير. لنعد الآن إلى العنوان العام لهذه الباقة "على الحاففة...اكاد أتماسك". هذا عرض سالب تقديره الموجب هو التالي " على الحافة...أكاد أسقط"!
يقوم العرض السالب، من خلال هذا النص، على تبئير الساردة للمرأة المنتظَرَة المسند إليها الصمت وغيره، ولكن هذا التبئير ليس مُظهَرا بل مضمرا، ومن هذا الإضمار تستمد القصة سلبيتها على أن الموضوع المُظهَر هو الرجل المنتظِر. بما أن الموضوع المضمر، المتمثل في الغائبة، كما قلنا، هو الذي يشكل بؤرة السرد، من خلال ما سلف ذكره، فهذا يعني أن الساردة تعرض الموضوع بشكل سالب لكون المنتظِر هو الذي يشكل الموضوع الإيجابي. من أجل تقوية تركيز القارئ وحسن تفاعله مع ما سيأتي من تفاصيل أود التذكير بأن المفردات المفاتيح في هذا النص هي "الحضور" و "الغياب" وأن الأول يمثله الرجل المنتظِر كما تمثل حبيبته الثاني، وبما أننا وجدنا بأن الساردة تميل إلى موضعة الحبيبة بدل الذي ينتظرها، كما رأينا، فهذا يعني أنها تعرض موضوع الحبيبة عرضا سالبا كما قلت. ولهذا فإن الحضور يمثل البعد الموجب للنص بينما يمثل الغياب بعده السالب.
ملاحظة: أتحدث عن العرض بدل السرد لكي أجمع بين الشعري والسردي.
في قصيدة بعنوان "حافة النشوة"(2) تقول الشاعرة:
"كلّ يوم
يذهب الصباح إلى الحقول
تبتسم له كلّ الورود...
الاّ وردة ... لي
تشرق اذ أطلّ عليها
و تنتشي اذ تلامسها
يدي"
لاحظ أنها تقابل بين "الورود" (الكثيرة) ووردتها (الواحدة). سوف يتضح ما يبدو غامضا في هذا الشأن وغيره بعد قليل. لو قالت مثلا: "كل الورود لي" في هذا السياق لما كان هناك معنى للحديث عن العرض السالب الذي أتحدث عنه. لكنها تقول "كل الورود تبتسم للصباح إلا وردة لي" فهذه الوردة لا تأخذ سوى ما تمارسه عليها الشاعرة من اللمس وغير ذلك مما يترتب على طلتها. إذا كانت هناك مقابلة بين الورود (الكثيرة) والوردة (الواحدة) فإن هناك مقابلة موازية بين الشاعرة والصباح ! يبدو أن الشاعرة مثل الشمس ، بالنسبة إلى وردتها، ولا ننسى بأن انبلاج الصباح هو كناية عن شروق الشمس. بدل أن تذهب الشاعرة إلى الحقول نرى الصباح هو الذي يأتي. أجد مظهرا بلاغيا (بديعيا) يتجلى في تبادل الأفعال بين الشاعرة والصباح. فهي تسند فعل "ذهب" إلى الصباح في حين تسند فعل "طل" إلى نفسها وهو الفعل الأنسب تداوليا للصباح وإن كان الأليق بلاغيا بالشاعرة في هذا التصوير. لأن الصباح (الشمس) لا يذهب ولا يعود من الحقول بل يطل عليها. ترى ما هو العمق الذي يمكن أن يعكسه مثل هذا التصوير ؟ إنه يعكس تبادل الأدوار الدلالية بين الصباح وذات الشاعرة بحيث أنتج عن تحولها البلاغي إلى الشمس تحول مضاد للصباح (الشمس) إلى ذات الشاعرة. ومن الناحية السيميائية نرى أن الشاعرة قد مالت إلى القليل (الوردة الواحدة) وتركت الكثير (من الورود) للصباح. إذا كانت قد مالت إلى "الغياب" في النص الأول" حافة الصمت" فهي تميل الآن إلى الوردة (الواحدة) تاركة الورود (الكثيرة) للصباح في هذه القصيدة كما تركت الحضور لذلك الرجل المسكين الذي كان من المُنظَرين مع إبليس إلى يوم يبعثون. من المعقول أن نقول بأن كل الورود تشكل العرض الإيجابي الذي تم التخلي عنه لصالح السلبي الذي تمثله الوردة (الواحدة). والفرق بين ثنائية "الحضور والغياب" وهذه الورود الكثيرة التي تقابل الوردة الواحدة يكمن في أن الأولى جاءت معنوية بينما جاءت الثانية لفظية هذا كل ما في الأمر.
في خاطرة من نفس الباقة بعنوان "حافة الوحدة" (3) جاء التالي:
"مدينة.. في ليل عميق
زقاق موحش
غرفة منعزلة
رغبة وحيدة... تستفيق".
أولا هناك تدرج من الأكبر حجما مرورا بالصغير وانتهاء بالأقل. هنا تعقد الشاعرة مقارنة بين عالم الروح والوجادان وعالمها الفيزيائي. ففي حالة المدينة تعبر عن حالتها المظهرية، والليل هو حالتها الباطنية. هناك علاقة بين المبنى الفيزيائي للإنسان والمبنى المعماري لهذه المدينة. إن كلام الشاعرة لا يدور، أو بالأحرى لا يهمه التركيز، على الوحدة بالمفهوم الاجتماعي، بل يتعلق بالوحدة الوجدانية الروحية وهو إحساس بتلك اللحظة التي تشتد فيها حاجة الفرد لمن يشاركه فيما يحس أيضا وليس فيما يعيش فحسب. إذا كان هناك شعور بأن ما نحس به لا يشاركنا فيه الغير يكون الحديث عن الوحدة مخصصا وهذا التخصيص يقابله قولها"غرفة منعزلة" علما بأن التعميم يقتضي الحديث هنا عن المدينة بأكملها. بما أن هذه الأخيرة قد اكتُفي بذكرها في البداية ليتوجه العرض نحو التخصيص شيئا فشيئا فهذا يعني أنها تدل على البعد الاجتماعي للشاعرة. إنها تعكس انصهارا بين معمار النفس ومعمار الجماد الذي يتمثل في المدينة وبالتالي غرفة. إذا كانت، في هذا المقطع، قد أسست استطرادا شعريا، في حديثها عن الذات، انطلاقا من حديثها عن الجماد (المدينة/ الغرفة)، وإن كان في النهاية جمادا كنائيا يتضمن الإشارة إلى الأهالي القاطنين في طيته، فلقد سبق أن رأينا نفس الشيء في مقطعها السابق الذي يحمل عنوان "حافة الصمت" حيث تقول:
" اتكأ على جدار صمتها"
إن وجه الشبه القائم بين هذا التصوير والذي أتحدث عنه الآن هو أن الكاتبة أسست الحديث عن الذات (ذات المرأة المنتظَرة) في الأول انطلاقا من الجماد على أن هناك نقطة معقدة وهي تجميد الصمت الكنائي من خلال المزج بين المادي والمعنوي في شأنه. عندما نجد بأن الصمت هو كناية عن الحبيبة التي التزمت به فهذا يعني أن الساردة، من إخلال إضافة الجدار إلى تلك المرأة، تصور هذه الأخيرة وكأنها بيت أو غرفة ما. من هنا يتضح لنا جانب من اللعبة الفنية في التصوير لدى الشاعرة بنمحمود. لو التقطنا صورة انثروبوغرافيةAnthropographic لما تكتب سنجد أنها تكتب عن أشخاص مجرد أنصاف وذلك لأن أنصافهم الأخرى تقوم على ما يحيط بهم من المادة والمعنى والمجرد والمعين والمعقول والمنقول. ثم من الجهة التي تشكل بؤرة الموضوع نلاحظ أن المقطع بدأ بالمدينة (المفروض أنها أكبر من الغرفة) فالغرفة المنعزلة (مما يؤكد الميل نحو العرض السالب) ثم انتهاء بالرغبة الوحيدة. حتى دون أن نأخذ هذه "الرغبة الوحيدة" يمكن القول بأن الكلمات التي تشكل المفاتيح في هذا النص هي كلمتي؛ "المدينة" و"الغرفة" وبالتالي أقول بأن الكاتبة قد قامت بضغط القلم على الغرفة المنعزلة التي استفاقت فيها تلك الرغبة الوحيدة من خلال توجيه بوصلة النص نحو العرض السالب كما ستتضح الفكرة لاحقا.
ننتقل إلى خاطرة شعرية أخرى بعنوان "شعلة" (4) حيث تقول:
"
جسدي القتيل
أستلّ منه قلبي
و أشعله.. فتيل"
قبل الخوض في الموضوع أود الإشارة إلى أن كلمة "فتيل"، من الناحية النحوية، يجب أن نقرأها "فتيلا" لأنها جاءت حالا حتى وإن كانت بإهمال النصب تحقق سجعا على أن الخطأ المطبعي وارد بقوة. على كل حال واضح بأنها جاءت حالا. في هذا المقطع نرى أن الشاعرة تميل إلى القلب على حساب الجسد لفظيا وجدانيا ومعنويا. وكأنه لا يهم من هذا الجسد شيء سواه. إذا كان الجسد قتيلا فإن القلب يجب الاحتفاظ به ومن ثم لا بأس من ذهاب الجسد إلى الجحيم. تتجلى سلبية العرض في كون القلب مجرد جزء من الجسد الذي يشكل الكل العضوي للإنسان. فالميل من الجسد (كبير) إلى القلب (صغير) سيميائيا هو الميل من الحقل الدلالي الذي أحدده في هذه الدراسة بـ" الكبر= "ك" إلى حقل " الصغر="ص". لتوضيح هذه النقطة أقول بأن تقسيم وتحديد المفردات المفاتيح، في هذين الحقلين الدلاليين المتعارضين، لا يعني التعبير عن حجم العنصر أو شأنه فحسب وإنما ينطبق على مفهوم العدد، الرتبة، الذات، القيمة الخ. أي إذا كنت أتعامل مع الحجم وفق التقسيم المحدد أعلاه فإنني أيضا أتعامل بنفس الطريقة مع نسبة العدد المرتفعة في مكونات العنصر النصي مقابل النسبة المنخفضة في العنصر المضاد وهكذا دواليك.
الجسد= الكـل + ك = (ع. ج)
القلب= الجزء+ ص = (ع.س)
ملاحظة: من أجل الإيجاز ارتأيت أن أضع حرف (ك) مكان الحقل الدلالي المحدد في مفهوم "الكبر". ووضعت حرف (ص) كذلك للإشارة إلى حقل "الصغر". وضعت (ع.ج) بدل "العرض السالب" و(ع.س) بدل العرض الموجب للسبب ذاته.
من الواضح أن الشاعرة تميل إلى الجزء المتمثل في القلب. وبناء على ذلك نرى (ع.س) يتجلى ، من خلال هذا المقطع، في الميل الوجداني والتبئيري إلى القلب الذي يشكل جزء من الجسد في مقابل هذا الأخير الذي تحدثت عنه الشاعرة باعتباره قتيلا أصلا وبالتالي لا حرج من إحراقه على طريقة قد تكون هندوسية أو ما شابه. في قصيدة بعنوان "عتبة قلبها" (5) تقول الشاعرة:
"يا لهذه المدينة كم
تضيق..
تشتدّ أزقتها
فتختنق الخطى,
غير أن بابنا الخشبي
يفتح على قلبها...
الفسيح
تلك الأم الطيّبة"
يمكن القول بأن الشاعرة تتحدث، في هذا المقطع، عن المدينة (الجسد) التي(الذي) تشتد أزقته (مسالكه التواصلية) فتختنق الخطى(التعبير) ! من المعلوم أن وظيفة الخطوة هي نقل الشخص((الجسد)) من مكان إلى آخر، ولهذا فهو يرمز إلى التعبير بالنظر إلى وظيفة هذا الأخير وهي نقل الإحساس (المعطى التواصلي) من مكان (شخص) إلى آخر. إن الشاعرة تتلفظ بالمدينة لكنها ترمز بها إلى الجسد. وهذا ما نستشفه من استقراء وضعية "الأزقة" التي تلعب دور الشرايين وأوصال الجسد في القصيدة. هذا التصوير مضغوط مكثف على المستوى البلاغي (البيان) مع الخفة اللغوية التي يبدو عليها. فعندما تضيق شرايين الإنسان (المستوى الداخلي للجسم) يؤدي ذلك إلى اختناق الخطى. وفي نفس الوقت إذا اشتد ضيق الأزقة على هذا الإنسان (المستوى الخارجي للجسم) يؤدي الأمر إلى نفس النتيجة ! إذن فالملحوظ أن هناك مقايضة بين المستوى الخارجي والداخلي لهذا الجسم. وهذه المقايضة تكمن في أن مستواه الخارجي أخذ شكل المدينة في حين أخذ مستواه الداخلي شكل الجسم. لاحظ كيف انعكست هذه المقايضة حتى على المستوى الجزيئي الكامن في الأفعال مثل (الاشتداد) و (الاختناق). لنعيد إنتاج المقطع في وضعية طردية كالتالي:
"يا لهذه المدينة
كم تختنق"
ما الذي ينقصنا حتى نكمله؟ ينقصنا تعيين زمن حدوث الاختناق. على سبيل المثال:
"يا لهذه المدينة
كم تختنق
عندما تشتد أزقتها"
هذا هو المستوى الطردي للقصيدة والمتعلق بتعيين زمن الاختناق بأداة "عندما". الملحوظ أنه حتى ندرج ضيق الخطى في المقطع الافتراضي يجب إضافة أداة أخرى مثل "حتى" أو غيرها كالتالي:
"يالهذه المدينة
كم تختنق
عندما تضيق أزقتها
حتى الخطى تضيق فيها"
طبعا لا يهم إعادة إنتاج المقطع أدبيا أو شعريا ولكني أبين للقارئ الأوضاع الخفية في القصيدة فقط. إن الالتجاء إلى إلقاء القصيدة عكسيا يعني ترجمة الكلام العادي إلى كلام شعري فني كما فعلت الكاتبة هنا. لأنها تجنبت مثل تلك الأدوات التي ذكرتها في الحالة الطردية. بناء على ذلك نرى أن الخطى أخذت فعل "الاختناق" في حين أخذت المدينة فعل "الضيق" بطريقة عكسية. ولكن ما هو السبب الخفي الذي أدى إلى ذلك؟ إن السبب هو أن القصيدة في عموميتها مطروحة بشكل معكوس، كما قلت، يمكن التوصل إليه عن طريق استخراج ما أسميه بـ (ع.س) لدى الشاعرة. وذلك لأن القصيدة ببساطة في حين يبدو مستواها الإيجابي دائرا حول المدينة إلا أنها تدور سلبا حول الجسد. وبما أن هناك جهدا فنيا لإخفاء مضمونه أنتج ذلك ما سميته بالمقايضة بين العناصر الجزئية كامتداد لذلك. إذا كان فهم (ع.س) يقود إلى فهم طبيعة تلك المقايضة فإن العكس صحيح إذ يفترض فهما لإضمار الجسد في ملفوظ المدينة. وإذا كان الجسد قد أخذ شكل المدينة، على مستوى العموم، فإن الخطى قد أخذت فعل الاختناق بدل الضيق. ثم إذا كان الجسد مغيبا (بفتح الياء)، عن طريق إضماره في المدينة، فإنه غائب من الغرفة أيضا حيث نجد أن الباب الخشبي يُفتح مباشرة على القلب وليس على صاحب القلب !! علاوة على ذلك أقول: إذا كان القلب نائبا عن الجسد، في هذا التصوير، فإن الباب الخشبي أيضا ينوب عن الغرفة ! وهكذا تنطلق الشاعرة من أكبر ما يمكن، على مستوى الحجم (المدينة)، إلى أصغر ما يمكن (القلب) دون المرور بمرحلة الغرفة أو الجسد. إنها تنطلق من الأكبر حجما إلى أصغره لنستنتج بأن الأصغر حجما أكبر شأنا في خطابها والعكس بالعكس. ربما يكفي أن نشير إلى أن شساعة المدينة لم تكن، في القصيدة، بمستوى فساحة القلب ! لاحظ كم تضيق المدينة في القصيدة وهي فسيحة على مستوى المرجع (الواقع) ثم لاحظ أن ذلك الباب الخشبي ينفتح على قلب فسيح في القصيدة (على المستوى النصي). هذا يعني أن (ع.س) يتجلى، في هذه القصيدة، كالتالي:
على المستوى الشكلي
المدينة + ك = (ع. ج)
الجسد + ص=(ع.س)
على المستوى الضمني
الجسد+ ك = (ع. ج)
القلب+ ص= (ع.س)
قد يكون هناك سؤال كالتالي: إذا كانت هذه الدراسة تندرج تحت عنوان سيميائي "العرض السالب" فكيف نجد هنا توافقا بين المستوى الضمني للقلب ومستواه السالب؟ الجواب أن سلبية إيراد القلب تتجلى في تجريده المبدئي، في القصيدة، من الجسد وربما يكفي ذكر الباب الخشبي المؤدي إليه مباشرة وكأنه قلب للمدينة وليس للجسد! وهذا ما نجده، وإن بطريقة أخرى، في القصة التي تحمل عنوان "حرية" (6)حيث تقول الساردة:
"كانت الرعية تحن للحرية.. و عندما أعياها حنينها كانت في الليل تحلم أنها تحولت إلى طيور..
كل صباح، كان الملك يعجب من شوارع المدينة كانت تزخر بريش الطيور"
أجد هذه الأقصوصة أكبر من ذاتها. أولا لأنها لا تقوم على سرد الاختلاف المندلع بين الملك والرعية حول ممارسة الحرية فحسب، وإنما تقدم لنا علاقة مقلوبة تماما بين الطرفين. علاقة كاريكاتورية مضحكة تجسد هذا الاختلاف (أو بالأحرى الخلاف) في طبيعة القوى العقلية والإدراكية للطرفين بشكل أساسي. إنه اختلاف شبه إبيستيمولوجي بين إدراك الملك وإدراك الرعية الأوسع من مجرد الاختلاف النمطي حول ممارسة الحرية. الملحوظ، في هذه الأقصوصة، أن ما تراه الرعية في الحلم يراه جلالة الملك في اليقظة ! وبالتالي فالعكس بالضرورة صحيح! ترى هل يمكن أن يصل الأمر إلى هذا الحد؟ إن المسألة تبدو لنا مضحكة عندما نفهم السبب الحقيقي الذي تتضمنه الأقصوصة والذي أدى إلى توسيع هذا الشرخ الذهني بين الملك والرعية إلى هذه الدرجة. إنه الخوف من تحرر الرعية. نعم، لقد بلغ خوف الملك، من يقظة شعبه، درجة تحقق له فيها، من الإشراق والكشف المقلوبين، ما يكفي لتحوله إلى كائن روحاني لا يشق له غبار. أصبح بإمكانه الاطلاع، ببصيرته النفاذة، على مضامين ومظاهر أحلام شعبه حتى وهذا الأخير نائم يشخر. وبالتالي فإن هذا الإشراق وذاك التصوف، النادر لهما مثيل، واللذين أصبح يتمتع بهما جلالة الملك، بفضل هذا الخوف الشجاع الأقرع، لم يكتف بإطلاعه على مضمون حلم الرعية فحسب وإنما جعل هذا الحلم حقيقة ملموسة في صباحه الحقيقي !! والأكثر من ذلك أن جلالة الملك هذا قد ارتقى، في مدارج التصوف والروحنة والتخوف، إلى أعلى عليين بحيث لم يعد ما يشاهده من التغير، الناجم عن فظاعة الخوف المتبادل بينه وبين شعبه، تغيرا ذاتيا بل أصبح وكأنه تغير موضوعي مستقل بذاته. كأن الساردة كادت تعطيه صلاحية صوفيه لمسخ شعبه نهائيا وتحويلهم إلى طيور لولا تنافي ذلك مع الحرية التي تتحلى بها الطيور !! بعد أن قلنا بأن هناك اختلافا إدراكيا بين الملك والرعية وأن هذا الاختلاف قد أدى إلى رؤية الملك، في اليقظة، ما تراه الرعية في الحلم ننتقل إلى الوضعية التي زجت فيها الكاتبة بقصتها لدى جلالة الملك. إذا كان ما يراه الأخير من الريش في الأزقة يطال الموضوع، ناهيك عن الذات، فهذا يعني أن الواقع، رأسا على عقب، في غياهب الهذيان والهلوسات والعصاب هو الملك، وأن الساردة تؤيد وضعية الرعية في هذا النص باعتبارها لم تفعل إزاء هذا الانقلاب الذهني، الذي طال الملك، إلا لأنها حنت إلى الحرية لدرجة بدأت ترى نفسها طيورا في الحلم. وهذا شيء طبيعي معروف من الناحية النفسية. من هنا نقول بأن الملك هو الذي وقع في الهذيان بعد أن ارتقت به الساردة إلى سدرة التصوف والتخوف المنتهى. إن بؤرة موضوع هذه الأقصوصة قد غابت على مستوى اللفظ من متن القصة الحكائي. وهذا ببساطة يعني أن الساردة تطرح الموضوع بطريقة سالبة بالإضافة إلى الجانب اللفظي السالب الذي تجسده الطيور كما سيأتي. فكأنها تكتفي بسرد الوجه المهزلي دون التطرق إلى التفاصيل التي تحولت بها الرعية إلى طيور أو بالأحرى الكيفية التي ارتقى بها الملك في مدارج التصوف (التخوف) إلى هذا النوع من الخلط بين الواقع والخيال. إن الشق الغائب من الموضوع هو ذلك المسكوت عنه بعد أن خلقت الساردة الأجواء المؤدية إلى استنتاجه من قبل القارئ. والمعلوم أن الذي غاب، على مستوى التصريح السردي، هو الذي أصاب الملك بالضبط، أو الذي أصاب الرعية بحيث أدى بحلمها إلى التحقق أمام عيني الملك. فعلى مستوى التصريح نرى أن عملية تحول الرعية إلى طيور أصبحت حقيقة بالنسبة للملك، ولكن لا يخفى المكر التلميحي الذي قلبت الكاتبة، من خلاله، صاحب الجلالة رأسا على عقب. هل يصح القول، بعد هذا، بأن الرعية تقابل الملك في هذا النص؟ إن ما يساير دراستي هذه يقول بأن ما يقابل الرعية، في هذا النص، هي الطيور وليس الملك. وما هذا الأخير سوى قوة ظرفية لإجراء المقابلة بين الإنسان والطير ! هناك مقابلة سيكولوجية بين الرعية والطيور. فمن هذه الناحية نجد أن الكاتبة تعكس إحساسها بأن الرعية لو كانت طيورا لأصبح بمقدورها التحرر من هذا الملك، ومن الناحية السيميائية نضع الطيور في مقابل الرعية ويتضح لنا بأن صغر الحجم، الذي تمثله الطيور في مقابل الرعية، يمثل كبر الشأن علما بأن هذا الأخير يتعلق بالحرية والتحرر في هذا الصدد. من هنا نفهم بأن المسار السيميائي لا يختلف عنه في شأن مقابلة الكاتبة للجسد (كبير الحجم) بالقلب (صغير الحجم) كما أسلفت على أن ما تعكسه بوجدانها هو كبر الشأن الذي يمثله القلب في مقابل صغر الشأن الذي يمثله الجسد.
في أقصوصة بعنوان "بين الأنقاض" (7) تتحدث الكاتبة عن دمار خلفه الهجوم الإسرائيلي حيث تسرد مفارقة تتجلى في أن الأم كانت تصرخ من شدة الألم والحزن على زوجها الذي تم تقطيعه إربا إربا بينما كانت طفلتها تصرخ حزنا على دميتها الضائعة بين الأنقاض. تقول:
" كان صراخ الطفلة شديدا وهي تحاول أن تتخلص من حضن أمها، تريد أن تنزل لتلتقط دميتها بين الأنقاض".
الكاتبة تعنون هذه الأقصوصة انطلاقا من النقطة الهامشية من ناحية المتن الحكائي وإن كانت مركزية رئيسية على مستوى المبنى الحكائي. فالعنوان مستمد من الأنقاض التي تحيط بدمية الطفلة. تلك الطفلة التي أقامت الدنيا بالصراخ دون أن تقعدها، ولكن ليس من أجل أمر جلل يستحق الذكر أو البكاء، بل من أجل دميتها. لذا فإن الزوج الذي تحول إلى أشلاء أمام الزوجة يقع في المستوى الإيجابي للعرض السردي، وأن الذي تمت صياغته بطريقة سالبة هو صراخ الطفلة أو لنقل الدمية بالتحديد. فالقصة بسيطة جدا، على مستواها اللساني، ولكن من الناحية السيميائية (الأيقونية) تقدم لنا مزيدا من الأمثلة على أن الساردة تميل إلى (ع.س) من خلال جعلها للدمية بؤرة للموضوع على حساب أبي الطفلة. فهي، كما قلت في البداية، تشتغل على إنتاج النص الأدبي من الداخل وذلك اعتمادا على رصد المفارقة المعيشة في الواقع عن طريق تقريب اللغة من هذا الأخير. يمكن أن نقارن بين الضحيتين؛ الزوج والدمية سيميائيا. ونقارن بين الصارختين ؛ المرأة والطفلة كذلك. أقول أولا: إذا حذفنا الطفلة الباكية على الدمية فلن يبقى هناك مقوم واحد لهذه الأقصوصة لكونها تقوم على رصد المفارقة المذكورة، وذلك المجهود المهيأ ليلقى به في الفراغ.
الــزوج + ك = (ع.ج)
الدميــة + ص= (ع.س)
الزوجة + ك = (ع.ج)
الطفــلة + ص= (ع.س)
يبدو أني أبالغ عندما أصف الزوج بالكبر على سبيل المثال، ولكن أود التنبيه إلى أن ذلك نسبي فقط أي بالنسبة إلى الدمية يعتبر الزوج (الإنسان) كبيرا والعكس صحيح وهكذا. صحيح أن الكاتبة وجدانيا تميل إلى كل من الزوج والزوجة، فهذا أمر طبيعي، لكن ما يهم هنا هو ما يشغل المتن الحكائي. ثم إن الميل الوجداني ليس شرطا ولا معيارا، في هذه الدراسة، لقياس ميل الساردة إلى (ع.س) وإنما هو إحدى حالاتها فقط. على سبيل المثال إذا كانت هنا قد مالت عاطفيا، وبشكل طبيعي، إلى كل من الزوج الضحية والزوجة الحزينة فإن ما يشكل بؤرة النص وقوامه الأساسي هو كل من الطفلة والدمية أو الدمية على وجه التحديد. وهذا هو الأهم لأننا هنا بصدد تحليل نص وبالتالي فنحن نحلل صورة فنية أدبية أولا وأخيرا. للمزيد من الدقة أقول بأنه حتى وإن قلبنا المعادلة أعلاه فسيكون علينا أن نقلب الدلالة أيضا، أي إذا كنت قد احتكمت دلاليا إلى الكبر في الحجم، من خلال مقابلة الأب بالطفلة، فإن العكس يقتضي الاحتكام لكبر الشأن وليس لكبر الحجم على ألا ننسى قياس هذا الشأن على مقاس النص الذي بين أيدنا وهكذا نصل إلى المعادلة التالية التي لا مفر منها:
الـــزوج + صغـير الشأن= (ع.س)
الدمـــية + كبــيرة الشأن= (ع. ج)
الزوجـة + صغيرة الشأن= (ع.س)
الطــفلة + كبــــيرة الشأن= (ع.ج)
من خلال هذه الأمثلة يتضح بأنه لا مفر من القول بأن كلتا الصيغتين سيان وأن الاحتكام إلى رصد التوافق الدلالي وفق ما سلف الحديث عنه أيسر الطرق ليفهم القاريء الفكرة التي أتحدث عنها بوضوح أكثر. هناك أقصوصة أخرى تدور حول القصف تحمل عنوان "براءة" (8) وهي تندرج في خانة الأقصوصة السالفة "بين الأنقاض". جاء فيها الحديث كالتالي:
" ذهبت العائلة لتفقد منزلها : لقد تساقطت عليه القنابل الاسرائيلية بشراسة , صعق الأب وهو يرى ثمرة عمره ركاما , و ولولت الأم وهي تتجول ببصرها بين السقف المنهار و الجدران المتداعية و الغرف المطموسة , شد الطفل على كف أخته الصغيرة .. انقبض قلبه الصغير بشدة و هتف : أين سنلعب الغميضة بعد الآن ؟ "
شبه كبير بين هذه القصة والقصة السابقة على المستويين؛ البناء والمتن الحكائيين. وبالعودة إلى النسق الدلالي نجد أن القصة تدور حول مشروع الغميضة الذي يبدو أنه قد تم تقديمه على مشروع السكن الذي أصبح في زمن كان. وذلك بعد أن ذهبت الغارة الإسرائيلية الهمجية بالمنزل حيث هتف الطفل الصغير قائلا: أين سنلعب الغميضة؟ فالنص، من الناحية الدلالية، يقوم على عكس انطلاقة سردية انحنائية في خط تنازلي يشكل همُّ السكن قمته ويقابل الحضيض الذي تشكله الغميضة. لا حاجة هنا لإجراء مقابلة سيميائية بين الطفل والأب الذي صعق لما حل بمنزله، إذ يكفي مقابلة همّ السكن بهمّ الغميصة حتى نجد بأن المسار السردي، في هذه القصة، كما في غيرها من نصوص فاطمة بنمحمود يتجه نحو (ع.س).
الســــكن + ك = (ع. ج)
الغميضة + ص= (ع.س)
تزداد الفكرة اتضاحا أمامنا عندما نقرأ خاطرتها الشعرية التي تحمل عنوان " فرار" (9)حيث تقول:
"أحيانا كثيرة
أتوق أن أفرّ
من بيتي
و ألتجىء الى بيت
في...قصيد"
إن الفرار من بيت السكن إلى بيت القصيد هو فرار من الواقع إلى الافتراض أولا، وبالتالي فرار من المادي إلى المعنوي. فرار من الحقيقي إلى المجازي. فمن خلال هذه الخاطرة تؤكد الشاعرة تفضيلها الفني، في أحيان كثيرة، للمجازي على الحقيقي. بيت القصيد جاء في وضعية بلاغية تسمى التورية، وهي تنقسم إلى المورّى هو بيت السكن (المادي) والمورّى به وهو بيت القصيد (المعنوي). ولكن مجيئها بذكر القصيد بعد ذلك أضعف هذه التورية. وفي نفس الوقت كان من الصعب الإتيان بالتورية على هذا النحو دون ذكر القصيد على كل حال. هذا المقطع يجعل الفكرة، التي تدور هذه الدراسة حولها، أوسع من خلال فتحها على نقاط دلالية جانبية، وهي أن المقابلة بين المعنوي والمادي أو الواقعي والافتراضي أو الحقيقي والمجازي يمكن أن تؤدي نفس الوظيفة الدلالية التي تؤديها من خلال المقابلة بين حقلي؛ "ك" و"ص" كما سبق على سبيل المثال. بعبارة أخرى، عندما نقارن بين "بيت القصيد"، الذي تفضله الشاعرة فنيا على "بيت السكن"، فإننا ندخل بالضرورة المنهجية إلى المقارنة بين المعنوي والمادي أو الحقيقي والمجازي. ولا نقول مثلا بأن بيت السكن أكبر حجما من بيت القصيد وإنما نحتكم إلى المقابلة الممكنة بين الكبيرالحقيقي والضئيل المجازي. بهذا نفهم أكثر معقولية ما جاء في بداية هذه الدراسة من المقابلة بين الحضور والغياب والقول بأن الحضور يصب في حقل "ك" بينما يصب الغياب في حقل "ص". هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكن رصد "ص" في بيت القصيد الذي يقابل بيت السكن عبر استحالة السكن الحقيقي في بيت مجازي مع إمكانية السكن الحقيقي في بيت السكن الحقيقي. لو ربطنا هذه النقطة بأية نقطة، مما سبق الحديث عنه سالفا، سنجد أنها على توافق معقول. لنقل بأن العيش في بيت القصيد غير ممكن إلا مجازا وهذا يعني ميل النص إلى (ع.س). كذلك في شأن الغميضة التي لا يمكن تفضيلها على السكن إلا مزاحا وهذا يعني (ع.س) وقس على ذلك في كل ما سبق لتتضح الفكرة أكثر فأكثر.
في أسرودة شعرية بعنوان "قلبي هناك" (10)تقول:
"لأول مرة
حين تناثرت
قطرات الصبا
على ثوبي الداخلي
أشرقت أمي للصبيةّ
و هللت.. للجسد.
و انفطر قلبي
لقد فارقت طفولتي
إلى الأبد"
رغم أن الأم قد استبشرت خيرا وفألا بانتقال ابنتها من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الصبا، إلا أن الصبية ما زالت تفضل الطفولة. وعبرت الشاعرة عن ذلك بدقة بلاغية أكثر حين قالت" أشرقت أمي للصبية" فكأنها ليست حاضرة بحضور هذه الصبية لأنها باتت غائبة بغياب الطفولة التي أصبحت في خبر كان. تعزز ذلك بقولها " وهللت للجسد" كأن الروح كانت ما تزال في تلك الطفلة السالفة، وبالتالي فهذه الصبية، التي تهلل لها الأم، ليست سوى جسد بلا روح. صبية انفطر قلبها لعدم رضاها عن تسيير الطبيعة التي لا تسمح بالاستقرار على أمر ولا على شيء سواء كان نفيسا أو خسيسا. عندما يكون المرء طفلا يتمنى أن يكبر ويصبح شابا. وعندما يصبح كذلك يتمنى لو كان طفلا. هذا ما يعكسه مضمون النص من خلال ميله السيميائي إلى تبئير "ص"، في مسألة الطفولة، مقابل العكس الذي يمثله الصبا. ثم لاحظ أن نفس الشيء حدث في مقابلتها الجسد بالقلب. فأنا لا أنظر إلى هذه المفردات من الناحية الإيقونية فحسب، ولكن عندما أتحدث عن مقابلة دلالية فإنما يكون ذلك بعد أخذ طبيعة السياق والوظيفة، المورود من خلالها، بعين الاعتبار. على سبيل المثال، إذا كانت الشاعرة قد مالت بوضوح إلى الطفولة وفضلتها على الصبا من جهة، فلقد مالت أيضا من الجسد إلى القلب وفق نفس الطبيعة الدلالية. لأن قولها "هللت للجسد" يعني أنها تسلم بتوفر هذا الجسد أخيرا على ما يستوجب تهليل الأم له بلا نقاش. وبالتالي تركت هذا الجسد بما يحمله من الاستحقاق للتهليل لأنه لا يعنيها. أما القلب الذي يعنيها فهي تقول بأنه "انفطر" لأنها لم تستجب لما أملاه الجسد عليها من الاستمتاع بالصبا، ولكنها استجابت للألم الذي أملاه القلب. إذا فهذا المقطع لا يحمل أي تفاعل إيجابي لما هللت وأشرقت له الأم، أي مرحلة بلوغ سن الرشد من خلال بعض العلامات الجسدية المشار إليها في النص. رغم أن متن المقتطف يكاد يكون مشغولا بالحديث عن ولوج مرحلة الصبا إلا أن الشاعرة جعلت من هذه اللحظة فرصة لإبراز شوقها للطفولة التي أصبحت غابرة. حين تطرح ولوج مرحلة الصبا وحصول تلك العلامات الجسدية التي تكون عادة مدعاة للفخر ونوع من الاعتزاز والاعتداد بالنفس لدى الطفل فهي تستغلها لتطرح الطفولة المتجاوزة بنبرة الحزن والحنين إليها. ومن الناحية السيميائية نجد توافقا وتماشيا مع ما خلصنا إليه سالفا من مقابلة الكبير بالصغير كحقلين دلالين تندرج فيهما الكلمات المفاتيح التي تتضمنها مثل هذه النصوص. للتذكير نعرض هذه المفردات كالتالي:
الصــبا + ك = (ع. ج)
الطفولة + ص= (ع.س )
بهذا ننتقل إلى صنف أخر من التقابل السيميائي لدى الشاعرة بنمحمود وهو ما تتضمنه أقصوصتها "غزل"(11) من العلاقة الممتعة بين الواقع والافتراض حيث تسرد ميلها الفني إلى الافتراض ملقية بالواقع وراء ظهرها حين تقول:
"أحيانا
أشتهي أن أغازل زوجي
إذا ما استلذّ
كلامي
أهمس .. ليته كان
زوج.. جارتي"
الزوج المفروض أنه يشكل محل الغزل، شريطة أن يستلذ كلامها، هو زوج المتكلمة (زوج الواقع)، كما جاء في ظاهر النص، لكن يبدو أن هذا الشرط مجرد شكلي لا يعكس أية تغطية عاطفية لأن حصول هذه الأخيرة نراه مشروطا أيضا بأن يكون هذا الزوج للجارة (افتراضيا). وهذا يعني أن استلذاذ الكلام غائب مع غياب التصريح بالزوج الواقعي إغراقا إياه في ذلك الزوج الافتراضي. ما دمنا نتساءل عن وضعية الزوج الواقعي والافتراضي فلا بد من التساؤل حول ما إذا كان هناك استلذاذ في النص أصلا أم لا. الجواب: ليس هناك استلذاذ! لأن هذا الأخير هو استلذاذ واقعي مشروط بلذة افتراضية من المفروض تحققها في حالة الحديث عن الزوج الافتراضي فقط. من هنا يمكن الدخول إلى جدلية (ع.س) و (ع.ج) ومن أجل هضم ثنائية الواقع والافتراض هذه أود التذكير بما سلف الحديث عنه في قصيدة "فرار" حيث وجدنا مقابلة بين الحقيقي والمجازي من خلال قول الشاعرة السابق ذكره:
" أحيانا كثيرة
أتوق أن أفرّ
من بيتي
و ألتجىء الى بيت
في...قصيد"
ماذا نستنتج بأخذ هذا المبدأ بعين الاعتبار؟ نستنتج أن الشاعرة لم تقم بتغييب الزوج الواقعي من النص بمقدار ما غيبت ذاتها وأفنتها في ذات الجارة ! أعني أن المقطع يحمل تهكما من النوع الغليظ، كقولنا للفاشل "أيها الناجح العظيم !" لاحظ مرة أخرى:
" أحيانا
أشتهي أن أغازل زوجي
إذا ما استلذّ
كلامي"
هنا نجد جملة شرط وجملة جواب شرط. أي أن الشاعرة تستجمع قواها الفنية، في هذا الحيز النصي، لكي لا تترك لنا مجالا لتشتيت الذهن. فهي تريد منا أن نصغي جيدا لدوي التهكم والسخرية التي ستطلقها، بعد قليل، ليس ضد زوج واقعي أو افتراضي ما بل ضد جنس الرجال برمته ! من خلال هذا المقطع تعمل على قلب أفق الانتظار أمامنا، والذي تعده كذلك لنتوقع منها إخبارنا بالكيفية الحميمة التي تغازل بها ذلك الزوج المتحدث عنه في النص. لننظر إذن كيف تغازله وقد استلذ كلامها:
" أهمس .. ليته كان
زوج.. جارتي"
هذه هي الكيفية الحميمية التي تغازل بها بعد تحقق الشرط السابق ذكره. وهذا يعني أن الأمر يتعلق بتهكم محكم ومضحك. كأن الشاعرة تعكس تلك اللحظة التي يتهوع فيها المحيط برمته بلا أي سبب ظاهر. تلك اللحظة التي يكون فيها الإنسان تعبا وضجرا من كل شيء بحيث لا تكون لديه أية رغبة في رؤية أي شيء في محله الطبيعي. تعكس رغبة ما في رؤية كل شيء منقلبا رأسا على عقب وقد استهلك من الخير ما طاب واستهلكه من الشر ما خاب. الواقع أن الشاعرة غيبت نفسها من مسرح الغزل المشروط واللامشروط معا وتركت هذه المهمة لجارتها. أي أنها لا تتحدث عن ميل الذات إلى غير الزوج باشتراط افتراضه زوجا لغيرها، وإنما تتحدث عن افتراض هذا الزوج للجارة من أجل تحقق انسحابها وشأنها أصلا من هذه اللحظة والمسرح والحالة. من شدة البساطة اللغوية التي أخذها هذا المقطع كدت أتركه ولكن عندما أعدت قرأته ضحكت لما يحمله من تهكم ودفعني ذلك لإعادة ضمه إلى الدراسة.
سيميائيا نرصد، من خلال هذا المقطع، مقابلة الواقع بالافتراض تتضمنها مقابلة زوج المتكلمة بزوج الجارة ملاحظين أن الميل الفني النصي إلى الافتراض، في هذا الصدد، يساوي ميل الشاعرة إلى (ع.س) الذي أتحدث عنه. فعندما نقارن بين هذا الافتراض، الذي تم النزول النصي إلى قاعه من قمة الواقع، نجده يساوي ما شئنا الإشارة إليه من الأمثلة التي تصب سيميائيا في حقل "ص" كما قلت سالفا. فهو نفس الشيء الذي يتضمنه رصدنا للميل الفني، لدى الكاتبة، إلى كل من "الغميضة" و"بيت القصيد" وهلم جرا إلى بداية الدراسة حيث نجد "الغياب" يتصدر قائمة هذا الحقل الدلالي في مقابل العكس الذي يدل على (ك) في مقابل (ص) وبالتالي (ع.ج) مقابل (ع.س).
زوج واقـــــعي + ك = (ع. ج)
زوج افتراضي + ص= (ع.س)
في أقصوصتها بعنوان "ضمير الناقد"(12) جاء التالي:
"تأمّل الناقد الكبير قصائد الشاعر الشاب.. كان شعرا جميلا يضجّ بالحياة، تحسّس الناقد وجهه المتعرّق : كم تمنّى على امتداد حياته لو كتب شعرا جميلا، لكنه يعلم أنه - رغم محاولته الخفيّة - لم يقدر .. بلع ريقه الجاف ثم أخذ قلمه الجاف و خطّ أعلى الورقة بجانب اسم الشاعر تماما : " غير صالح للنشر"
لما اشتد خناق الدكتاتوريات في هذا الشرق، أو هذا العالم بأسره، كان من الحتمي أن يتسلل التسلط جدليا إلى مختلف بنى المجتمع. وهو ما أدى بالإبداع إلى الانكماش مسايرة لسلطة النقد على اعتبار أن هذا الأخير هو المعيار وليس العكس. هذا كله جاء نتيجة، بطريقة أو بأخرى، للأوضاع السياسية التي مر- أو مازال يمر- بها المجتمع. فالمواطن الذي يعيش في دولة جائرة مستبدة من الطبيعي أن يواجه صعوبة في فهمنا لو قلنا له بأن النقد هو الذي يجب أن يساير الإبداع وليس العكس، أما المتحرر من التسلط السياسي فهو أكثر قدرة على فهم مثل هذه الأفكار. وهكذا فإن النظام السياسي هو الذي يحدد الإطار المعرفي و الإدراكي للمواطن. وها هي الكاتبة تتحدث عن الناقد كما يمكن لأي مناضل معارض أن يتحدث عن السلطان الجائر. لو كانت هناك صورة مشرقة للناقد، لدى المبدع، ما كان للحديث على هذا النحو معنى لأنه ببساطة لن يفترض قارئا سيتلقاه بما ينبغي من الترحيب. من المعلوم أنه، على المستوى المبدئي، لا بد للنقد أن يكون تابعا للإبداع وليس متبوعا له. ولكن، من جهة أخرى، لا بد من الحديث عن الإبداع بالمعنى الحقيقي وإلا فمن اختصاص النقد الحقيقي أن يبين الأجود من الجيد ويبين الرديء من الأردى. الكاتبة تتحدث عن الناقد وتصفه بالكبير في مقابل الشاعر الشاب. هنا نرى أن لكل منهما نصيبا من الإحباط . فالإحباط المعنوي للناقد (الكبير)، أما الإحباط الملموس فللشاعر (الشاب). ولكن عندما يُختتم إحباط الناقد بالقول"غير صالح للنشر" يبدأ إحباط الشاعر في أروقة دور النشر مع العلم أن القارئ العامي العادي تابع لرأي هذا الناقد وفقا لمعيار التبعية المعرفية على الأقل وباعتبار أهل مكة أدرى بشعابها. رغم أن ما كتبه الشاعر الشاب نص جمالي يستحق الوصول إلى القارئ، إلا أن البصمة السلبية لهذا الناقد الحسود الحقود من شأنها عرقلة ذلك. إن التبئير واقع على الشاعر (الإحباط الأكبر) ولذلك (من البيان البلاغي) أنها لم تقل "الشاعر