الأدب اللاورقي!

2020-01-27

أذكر وأنا في مرحلة المراهقة أنني كنت أمنّي النفس في أن أجد اسمي مطبوعا على ورقة، لأن الطباعة يومذاك تكون في الكتب والصحف وأنّى لفتىً  مثلي كوته نار المراهقة أن يرى اسمه مطبوعاً ؟.. لكنني سمعت مرة حديثا لعاصي الرحباني (1925- 2009) في مقابلة يندب فيها حال الموسيقى والغناء في بلادنا العربية ! فاعترضت المذيعة بأن هناك فرقاً موسيقية وأصوات جادّة.. فأجاب عاصي : كنا زمان نسمع لستي (جدتي) فقالت قرأت أسم فلان في الجريدة يخزي العين الله نافخ في صورته!! فقلنا لها ما الله نافخ في صورته إنما الجريدة نافخة في صورته.. فردت : معقولة يعني جريدة مطبوعة ومكلفة مصاري معقولة تنفخ في الرماد ؟!! فقلنا : هون المصيبة !!

***

واعني بالأدب اللاورقي هو كل ما يُكتب في الحرف الضوئية ويُقرأ على الشاشات كبيرها وصغيرها، منذ بدأ ما يُعرف بالثورة اللاورقية  Paperless Revolution في مرحلة الجيل الرابع من عصر الكومبيوتر (الحاسوب) عام 71 وشيوعها من خلال الكومبيوتر المنزلي في الثمانينات.. والتي أفضت إلى ثورة الإتصالات في واسط التسعينات حتى يومنا هذا..

ومن نتائج هذه الثورة أن تقلص بيع الصحف والمجلات وحتى تسويق الكتب ! فأصبح أي حالم بالكتابة بوسعه أن يكتب ويرى إسمه مطبوعاً مضيئاً بغض النظر عمّا يكتب ومستوى الكتابة ! فليس هناك رقيب وزاد الأمر في السوشيال ميديا حيث يحق لكائن من كان أن يمتلك مدونته التي تتيح له إسماً وصورة وشيئاً من سيرته الشخصية.. فغدا الأمر مدعاة للجاه أمام أصدقاء يتخيرهم ويتخيرونه وهذا حال الفيسبوك ..

وهذا الفيسبوك له وجهان مثل القمر أحدهما مضيء والآخر مظلم .. وفيه ما يلبي حاجة النفس وهمومها وأفكارها والأجمل هو التفاعل مع الآخرين الذين معه..

ويبدو لي الفيسبوك أحياناً كسوق الخضر أو سوق الهرج كل ينادي على بضاعته ويسوّق أفكاره وعواطفه.. وفي خضم هذا التنافس ينشأ السِّباب والتراشق بنيران صديقة وأحياناً غير صديقة !! وفي هذه الأخيرة تظهر مهارات اللغة البذيئة ومقابح تجرح الأذن وتؤذي النفس وتود أن تنأى بنفسك عن هذه الأوساط السوقية..

ومن ناحية أخرى يبدو لي الفيس بوك مدينة بُيوتها وشبابيكها مشرعة الأبواب مثل المضايف، بوسعك أن تدخل بلا استئذان وأن تجلس وتسمع وإن طاب لك الحديث فيحق لك أن تُدلي بدلوك وأن تقول رأياً.. وإن لم يطِب لك المُقام فلك أن تغادر بل استئذان بل إن جاءتك ريحٌ خبيثة فلك أن تسد الباب التي تأتي منها الريح وتستريح وكفى الله المؤمنين القتال ! 

لعب التواصل دوراً هاماً في تبادل الآراء السياسية والتجمع والتظاهرات وتحشيد الجماهير وفضح الفساد والزيف السياسي لهذا فهو مكروه من قبل النظُم الشمولية الفاسدة ولطالما تلجأ لغلقه في الساعات الساخنة أو التي قبلها، وتعمد غلى بث جيوشها الألكترونية العميلة لرصد الذين يشكلون خطراً على هذه النظم وترصد الأسماء والعناوين فتعمد إلى أساليب القمع من اختطاف واعتقال واغتيال.. ولأجل هذا منعت الدول استخدام الكومبيوتر والهواتف المحمولة كما في عراق البعث الذي منع حيازة آلة طباعة إلا في حالات ضيقة ومحصورة على بعض المكاتب المتعاونة أو المراقبة بشدة ..

يوفر الفيسبوك فرصة البحث عن أصدقاء فرقت بينهم ظروف بلدانهم وتقطعت بهم السبل.. فكم من صديق قديم استعيدت صداقته.. إن متعة اكتشاف صديق أحسبها هي اكتشاف الذات بعد مرور سنوات عراقية مثقلة بالأحداث والحروب، فيتم التعرف على أفكار ومعاناة الذين عانوا من الحرب والحصار في ظل نظام دكتاتوري هو الأبشع في العالم ..

أما عن مساوىء الفيسبوك فهي كثيرة من المتطفلين ومن العدوانيين ومن الذين يريدون قضاء وقت، فالأسئلة مكررة ورتيبة يسأل عنك وعن عمرك وعن بلدك وبعدها عن عمامك (من ياعمام الأخ؟!) وعن أسئلة فيها لف ودوران ولو قرأ مدونتك لوفر على نفسه وعلى نفسك مشقة السؤال والجواب ! والأسوأ أن "يلطش" على البوست العائد لك نصاً لغيرك، ولا يكتفي بل ويلح ظانّاً أنه يقدم خدمة لك ولأصدقائك وهذه مصيبة أخرى..

ومن ناحية أخرى تسعد بحوارات وتبادل أفكار تُسَر بها ولربما تُسِر بها غيرك !

وتبقى حكمة عميقة سمعتها من المرحومة أمي: يمه ألف صديق ولا عدو واحد !

  • للموضوع صلة -

27/1-2020   

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved