الفنان

2008-11-13
منذ ع//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/1fc13f7e-28a4-422d-bac7-02d46963f895.jpeg ام أو أكثر استأجرت أخته شقتها "الجديدة" في المدينة المطلة على البحر، وكلما دار بينهما اتصال تليفوني دعته ليزورها، وتغريه بأن المكان جميل، شعبي، خفيف الظل. سيقف في الشرفة المطلة على شارعين يرقب الناس أشكالا وألوانا، رائحين غادين، فينسى هموم الدنيا: إن جاءهما في الصيف أخذاه إلى الشط وسينزل معهما لنبلبط في الماء، وإن جاء في الشتاء سيفتنه المطر الذي يتساقط على المدينة فيغسلها لتغدو بعد النوة طازجة يانعة.
لماذا هو منغلق على ذاته هكذا؟ ألا يشغله في الحياة سوى الكتب والمراجع؟
وبعد إلحاح جاء فتأكد أن عمرا طويلا تسرب من بين أصابعه هناك في القرية النائية.

وأطل من الشرفة...
لمح أبراجا عالية تحجب شبكة المحمول عن منازل هزيلة متهرئة تقعي عند سفحها كأنما تحصي الأيام لتسقط على ساكنيها. ثمة فرن بلدي قريب لذا تتهادى فتيات وسيدات عائدات والخبز القابب في الشبك يحملنه إلى بيوتهن، بعضهن في عباءات سوداء وأكثرهن في أزياء حديثة، والمفاتن من جميعهن بارزة. قال زوج أخته: متع بصرك يا صديقي القديم!

أمام السنترال شبان وشابات يتضاحكون، وفي الشارع الصاعد صوب طريق البحر ،وتحت شمس الربيع، ثمة منضدة بلياردو ببساطها الأخضر وكراتها العديدة وقوائمها الضخمة، واثنان من الصبية كل منهما يغمض عينا ويدفع بعصاه الكرة التي تصطك بغيرها وتتدافع لتسقط في مهاويها، أما في الناحية المقابلة من الشارع فثمة تقفيصة دواجن وامرأة عارية الكتفين تقذف فضلات الطعام إلى المناقير المتأهبة.
يمكنه أيضا أن يلمح قبة مسجد كبير في وسط الشارع، ومسجدا أكبر منه في آخره، وثالثا في الجهة الأخرى إذا تحرك في الشرفة جهة اليسار، وتأتيه دقات نواقيس مشبعة بالحنين تؤكد أن الكنيسة قريبة، لكن الذي شد انتباهه أكثر هو ذلك الرجل الذي يرتدي فوق جلبابه الأبيض جاكيت جلد بني محروق وينام فوق كتفيه شعره الرصاصي الناعم، أما قدماه ففي حذاء بلون الجاكيت . تابعه حيث مال إلى الشارع الجانبي فتبين له لحية تمتد تحت مقدمة ذقنه بينما صدغاه خاليان تماما من الشعر محلوقان بعناية وفي السهرة وصفه لأخته وزوجها .
- إنه فنان كبير!
قالت أخته بينما استمر زوجها مندهشاً : الفنان؟ كم يبدو غريبا عن سكان هذه المنطقة وإن كان مشهوراً تماما ويحفر في الخشب ويصنع نماذج لمساجد عتيقة وقلاع وكاتدرائيات، وتم تكريمه في مهرجانات، إنه يسكن في برج الأندلس وهو مع شهرته متواضع جداً جداً...
- ألم أقل لك إن منطقتنا هذه ستعجبك؟
- أتمنى لو أتعرف عليه!
- هل تعرف، تقول لزوجها، أن المرأة التي جاءت هنا يوم الخميس قبل الماضي لتحكي لك عن زوج ابنتها الذي يهينها، أم سويلم؟ لقد ابتاعت منه طبلية منقوشة بأضعاف ثمنها، دفعت المبلغ عن طيب خاطر.

ويزداد صاحبنا شوقا للتعرف عليه.

في اليوم التالي وأذان الجمعة يتردد من مكبرات الصوت الكثيرة المنتشرة في الحي، خرج للصلاة في الجامع الكبير، في آخر الشارع، بينما توجه زوج أخته إلى زاوية قريبة قال إن الخطيب فيها يلقي أسرع وأقصر خطبة في التاريخ.

وفي طريقه لمح الفنان متجها إلى نفس الجامع الكبير فقال: ميولنا واحدة!
وكاد يقترب منه وبتعرف عليه لولا أن وجد رجلا آخر يستوقفه فسبق هو مؤجلا اللقاء إلى ما بعد انتهاء الصلاة.
وصل إلى المسجد وكان الإمام يصعد المنبر بتؤدة. أسند ظهره لحائط جانبي ليريح ظهره ويكون المنظر مفتوحا أمام ناظريه من كل اتجاه. رأى الفنان يدخل ممسكا حذاءه البني بيسراه ثم ينحني ليضعه في الركن الخلفي بعيدا عن أي حذاء آخر
- حتى حذاء الفنان ينفرد عن باقي الأحذية!

تركه وراءه ورآه يتخطى الصفوف إلى أن وصل إلى مكان خال في الصف الأمامي.
والخطيب يعلن أنه سيتناول السيرة النبوية المطهرة، لكنه اضطر للتوقف بعد دقائق لأن جلبة غير عادية دوت في المكان واستطاع من على المنبر أن يتبين رجلين اثنين يتجادلان في غيظ وحنق، وكل منهما يدعي أن الحذاء حذاءه.
يصيح العجور الواهي الذي بيده عصا غليظة، وعلى كتفيه حرام أزرق باهت قديم: جزمتي جزمتي!
والآخر، القوي المتين البنيان، ضخم الكرش، يقول: كيف ورجلك هكذا؟ كرجل طفل؟
وتكأكأ حولهما بعض أهالي المنطقة واستخلصوا الحذاء من يدي العجوز الذي تداعى نحو مكان الأحذية ووقف ممسكا بشبشب بلاستيك مهزول، صار يحدق فيه ويهز رأسه بينما انصرف الناس إلى أماكنهم واستأنف الخطيب حكاية شق الصدر. بقي العجوز واقفا لحظات ينظر إلى الشبشب ويحرك عصاه ثم تداعى إلى آخر المسجد وجلس متهالكاً... تماما إلى جوار الحذاء البني المحروق، حذاء الفنان. وضع شبشبه إلى جوار الحذاء المتفرد ثم عاد وتناوله وأبعده على مسافة منه ثم أمسك فردة من الحذاء البني المحروق وتأملها.
وكان الخطيب قد وصل إلى ما أنا بقارئ ، وصاحبنا القادم من الريف يستمع إلى ما سمعه آلاف المرات من قبل عندما أحس بالخطر وتخيل الفنان يبحث بعد الصلاة عن حذائه فلا يجده. هرع إلى الصف الأمامي وهمس في أذن الفنان: الرجل سيأخذ حذاءك!
هكذا في لمح البرق، ثم عاد إلى مكانه بينما تخطى الفنان الصفوف عائداً بحذائه ليضعه قريبا من حيث كان يجلس.
أما الخطيب فكان قد وصل إلى خيمتي أم معبد عندما حمل العجوز عصاه وشبشبه البلاستيك وغادر المسجد في هدوء.
- ربما يتوجه إلى مسجد آخر.
قضيت الصلاة ربما بعد المساجد الأخرى جميعا.
وشق صاحبنا طريقه إلى حيث تسكن أخته فوجد زوجها واقفا أمام باب العمارة يضحك: تأخرت كثيرا، ألم أقل لك تعال معي؟ ومع ذلك وقفا يثرثران ريثما يكون الطعام جاهزا، فلمح الفنان قادما من ناحية المسجد. ظل يتابعه حتى اقترب ووجده يحدق فيه ويلقي السلام فتقدم هو منه قائلا وابتسامة عل شفتيه: الرجل سيأخذ حذاءك!
ضحك من قلبه الطيب: أأنت الذي حذرتني؟!
وتعانفا بحرارة قال له بعدها: سمعت عن براعتك الكثير، أنت موهبة فذة وأتمنى لو تتاح لي فرصة رؤية الأشياء الرائعة التي بحوزتك!، سمعت أنك تمتلك كنوزا لا تقدر بثمن وأرجو أن يكون لي شرف رؤيتها قبل أن أسافر.
يبدو عليه اضطراب المتواضعين تحت الإطراء المتواصل. يتمتم:
- من العين دي قبل العين دي
- هل تقبل أن تشرفنا بالغداء عندنا أيها الفنان العظيم؟
- العظمة لله يا أخي
لا تهرب مني لأني سأفرض نفسي عليك اليوم أو غدا وأرى روائعك!
مرة أخرى يضع الرجل أصبعه قريبا من عينه: من العين دي قبل العين دي!
وزوج الأخت يتابع الحوار والدهشة تفط من عينيه. فسرها شقيق الزوجة بمقدرته على التكيف بسرعة مع سكان المنطقة. انصرف الفنان وصاحبنا يؤكد له أنه حتما سيزوره قبل أن يسافر.
وكان شعره الرصاصي الطويل ينام على كتفيه.

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved