في نهاية الستينات من القرن الماضي، كنت كلما أمر في شارع الرشيد -أيام مجده - يستوقفني مشهد دون إرادة منّي، وأقف أمام المشهد أتأمله وأغرق في التأمل، فما الموضوع ؟
مقابل بناية البريد المركزي في السنك، جلس رجل أربعيني القرفصاء بملابسه العربية أو جلس على شيء كالكرسي، وقد فرش على البلاط مخلوقات عجيبة غريبة لكائنات تُشبه تلك الشائعة من التراث النرويجي كالجن والساحرات.. كانت مخلوقاته من الأحجار في اغلبها ومن الطين الثقيل (الغرين)، ناهيك عن رسوم مبهرة، وكل تمثال أو تشكيل لايشبه الآخر.. إنها تماثيل من الغرابة والجمال وحسن التكوين، والتكوين هنا يتسم بالتلقائية وإلغاء نسبية الأبعاد وهندستها في الانسان العادي وأحيانا مخلوقات تشبه الحيوانات الخرافية متحركة أو ناطقة..
وكنت أميل أن أتحدث إليه لكن انقباض وجهه يجعلني أتردد، سألته مرة عن الأسعار التي تتراوح بين دراهم معدودة واقصاها بضعة دنانير قال اكثر المشترين هم من السواح وقليل من العراقيين.. ثم استغرقت بالأسئلة القليلة فبدا الرجل لطيفاً.. والرجل هو الفنان الفطري منعم فرات، واكتشفت أن الإسم لا يخلو من جمال في اللفظ والمعنى ! وأسمه الكامل منعم بربوت الجبوري الذي سبق أن كتبت عنه قبل سنوات..
قال أن أعماله مستوحاة من قصص الطفولة التي سمعها عن الجن والطنطل والغول والسعلاة.. وفيها لمسات مما قرأ عن الحضارة العراقية القديمة لاسيما السومرية..
شارك منعم فرات بمسابقات عالمية في إيطاليا عام 66 وتشيكوسلفاكيا لمعرض الفنون الفطرية في براتسلافا في أيلول عام 72 وهي السنة التي عثر عليه ميتاً مدهوساً بسيارة عن عمر 72عاما !
إن أي مبدع سواء كان شاعراً أو فنانا هو مزيج عجيب من موهبة فطرية ومن خبرة مكتسبة من الدراسة والصقل بما اكتسبه من معايشة حياتية ! حتى إذا نضج واستوى عوده راح يردُّ الديْن للمجتمع بل قل إلى الحياة بقيم جمالية وإنسانية .. الفن الفطري هو أقرب الى فن الطفولة التلقائي، لأنه غير ممنهج مدرسيا، فالطفل تكمن عبقريته في جرأته وأسئلته الجريئة التي سيقمعها الكبار، وهناك وصف لماركس حين يصف مرحلة الحقبة الفلسفية اليونانية بمرحلة فكر الإنسان الطفولي !
قبل عام كنت مع الشاعرة وئام ملا سلمان في مُتحف بيكاسو في مدينة برشلونة، فيه نماذج لرسومه من طفولته وشبابه، تتسم بالجرأة والتلقائية فتذكرت قولة له :" بقيت أرسم ثلاثين عاماً لأتعلم كيف يرسم الأطفال" !
وقبل أسابيع قليلة جاءني تسجيل مصور لحوار لسيدة ريفية عراقية عجوز مع ابنها، تطرح عليه أسئلة محورها الوجود وغائية الوجود، وكانت تجهد في لهجتها الجنوبية الجميلة.. وابنها يحاول أن يهمش أسئلتها أو يصادرها : بأننا وجدنا لكي نعبد الخالق ولكي يختبر عباده؛ فكانت ترد عليه أيصح للخالق أن يختبر عباده إذا كان هو الذي خلقهم، ويعلم ما في الصدور؟ وهل يحتاج عبادتهم ؟ كان الأولى به أن يخلق الطبيعة جبالا وسهولاً وأنهارا .. وألا يخلق الناس لكي لا يتحاربوا.. وتقول السيدة بأن أسئلتها تؤرقها منذ زمن طويل..
ومن الطبيعي إنها تطرح بشكل فطري ما عالجه جان بول سارتر في لب فلسفته وفي كتابه الوجودي والعدم، وهو مسألة " الوجود يسبق الماهية " فالوجود هو إدراك الانسان لكينونته المفكرة وجوهره.. وإن كل تاريخ هو تاريخ للإنسان كوجود.. وهي مسائل ليس من السهل إدراكها ولكن فطرة الإنسان تفضي في كثير من الأحايين إلى فلسفة الفطرة المبدعة creative innate، يبدؤها الطفل ويصادرها المجتمع وعقده المفروض كقيود لحرية الإنسان في الشك والتفكير والبحث عن منطق الأشياء وعلة الوجود !!
18/ك2 -2020