Deprecated: Required parameter $lineno follows optional parameter $only in /home/public/maakom.link/mini2/vendor/twig/twig/lib/Twig/Node/Include.php on line 20
الغرب... والسقوط الأخلاقي والسيّاسي...؟

الغرب... والسقوط الأخلاقي والسيّاسي...؟

2012-11-29

إذ//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/55553894-4017-4652-a8b2-5d0cb0c9c2dd.jpeg ا كانت المنطقة العربية تتعرض اليوم لمخطط أشبه ما يكون بتطبيق نسخة محدثة من اتفاقية (سايس بيكو)، فإن من يقود بعض الدول الأوروبية اليوم لا يقل عداوة وحقداً على العرب ممن أعطى اليهود وعداً بفلسطين قبل نحو تسعة عقود ونصف العقد، أو من أمر بقصف دمشق بالمدافع في الأربعينات، أو من اتبع سياسة الأرض المحروقة في ليبيا، أو من قتل مليون مواطن جزائري... وهذه كلها ممارسات لقادة دول أوروبية طبقت في النصف الأول من القرن الماضي، وثمة من يحاول اليوم إعادة تطبيقها بطريقة أخرى تواكب المتغيرات التي مرت بها السياسة العالمية.
ينطلق عمل الغرب وسعيه الحثيث للتدخل في شؤون المنطقة العربية، وسورية بثقلها الجيوسياسي، من حالة إفلاس سياسي واقتصادي أفضت إلى استمرار العمل على زعزعة استقرار الشرق الأوسط، من خلال نظريات وبرامج ''الشرق الأوسط الجديد، الفوضى البناءة، الربيع العربي...'' فتضافرت سياسة الغرب الاستعماري مع الإيديولوجيا الصهيونية بشكل لا أخلاقي سيضر بالغرب وبالشرق، ويزيد من توتر العلاقة الإشكالية بينهما.

ليس جديداً نفاق الغرب فيما يطرح من شعارات وعناوين لمواقفه وسياسته في قضايا العالم، فهذا الغرب لم نعرف عن مواقفه سوى الرياء والمداورة، إضافة إلى المساواة بين الضحية والجلاد، هذا إن حاول الإنصاف، لكنه سرعان ما يظهر وجه الإمبريالي الاستعماري بشعارات فارغة المضمون، وبالأخص عندما يتحدث مسؤولوه عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير للشعوب، تلك المفاهيم التي أفقدت معانيها الحقيقية.
فلم تغادر لغة المصالح السياسة الأوروبية طوال كل تلك العقود السابقة، وإن اختلفت طريقة تعاطيها مع القضايا العربية، فهي مرحلة ما كانت رؤية بعض القادة الأوروبيين تنطلق من فرضية اعتماد طريقة جديدة للوصول إلى مصالحهم في المنطقة العربية، تقوم على محاولة كسب ثقة الدول العربية دون الإخلال بالعلاقة مع الكيان الصهيوني وأمنه، أما في المرحلة الحالية فإن السعي لتحقيق المصالح الأوروبية المشروعة وغير المشروعة دفع قادة تلك الدول إلى طرق أبواب العدوان والاحتلال والتدمير والعقوبات تماماً كما حدث مع بداية القرن الماضي، وهذا ما يعني بوضوح أن ردة فعل الشعب العربي ستكون كما فعل أسلافه المقاومة والمواجهة بعكس الطريقة الأولى التي وجدت تجاوباً عربياً قام على الحذر وعدم التفريط بالحقوق.

لقد نصب الغرب نفسه متحدثاً بالشرعية وعلى الطريقة الأمريكية واللاّشرعية في البلدان العربية، ووضع بكل استفزاز نفسه قيّماً يعطي الشرعية في البقاء لمن يريد، دون اعتبار لخيارات الشعوب وكرامتها، متناسياً أنّ الشعوب العربية هي صاحبة الكلمة الفصل في تحديد شرعية من يحكمها، وليس أحد آخر يعمل خدمة لأهداف تصب أولاً وأخيراً في مصلحة الكيان الصهيوني والقوى الامبريالية العدوانية الأخرى في الولايات المتحدة وقوى الغرب الأخرى. فأوروبا تغوص في قاع ماضيها الاستعماري... وتستحضر أوراقه.. أدواته... وأطماعه... تستأجر أطرافاً في المنطقة وتستعجل في اللهاث خلف أضغاث أحلام، طالما أنعشت من خلالها رائحة تلك الأطماع من جديد..

تتنوع العناوين و بعض التفاصيل لكنها تقود إلى النتيجة ذاتها إحياء لعهود غابرة من الاستعباد ومحاولات التحكم بمصير المنطقة دولاً وشعوباً. ما يزيد من فجاجته أنّ الهوس الأوروبي يستيقظ على وقع حروبها القادمة التي وجدت فيها ''استثمار في الغد''... وكأنّ التاريخ المتخم بحروبها تلك لم يسقط بعد من حسابات سياسييها، ولا من عقول أطماعهم التي تستجر البشرية نحو تلك العهود البائدة تحت شعارات نفضت عنها غبار السنين لتقدمها في حلتها الجديدة. بين القديم والجديد تتبدل الأطماع في لغتها وتأتي تحت عناوين مغايرة إلاّ أنّها منذ البداية فضحت أهدافها، ولم تترك زاوية إلا وقدمت من خلالها مشهد الدلالة عليها إمعاناً في الذهاب بعيداً.

رغم عهود التجربة المريرة وسنيّ التقاعس الأوروبي ظلت العلاقة بين طرفي المتوسط تتجاذبها فترات المدّ والجزر... لم تستقر على حال، وتواصلت المحاولات الأوروبية لإبقاء الضفة الأخرى من المتوسط تحت دائرة النفوذ وتعامل ساستها مع قضايا المنطقة بكثير من التهور والمغامرة والرغبة في تركها كجزء من مساحة التبعية أو ساحة للمساومة عليها داخل المشهد الدولي. وظلت ندوب العلاقة تحول دون المضي أبعد، وسيطر الجفاء نتيجة أخطاء الساسة الأوروبيين الذين رفضوا النظر إليها من باب الندّية، ومارسوا خلال تلك العقود ازدواجية أخفت خلفها ترددهم الواضح في ممارسة دور بنّاء في قضايا المنطقة، رغم المد الهائل والتشجيع المتواصل ليكون بمستوى حضور أوروبا وما تمثله في ذلك المشهد. وبدل أن تسعى إلى تجاوز تلك الأخطاء عبر دور سياسي فعّال وإيجابي أظهرت وجهاّ كان الأسوأ وأماطت اللثام عن رغبة دفينة في استحضار الماضي الاستعماري بوجهه الأكثر بشاعة ودموية، وإلغاء لكل ما تم تحقيقه في عقود ''المهادنة''، ولم تكتف بذلك، بل عمدت إلى تعميم المواجع بصور وأشكال عكست أطماعاً وحنيناً غير مسبوق في السيطرة، وهي تلهث خلف أطلال ما تبقى لتستعيد مجد استعمارها البغيض.

المؤسف أنّ أوروبا انساقت خلف تلك الأطماع وأحضرت معها ساسة وقادة يريدون تعويض هزائمهم الشخصية والسياسية ويغطون فشلهم في تحقيق تطلعات الأوروبيين عبر توريطهم في حروب ونزاعات مع شعوب المنطقة التي كانت تسعى إلى مصالحة ذاتية مع الماضي بحكم التقادم. والخطير أنّها استحضرت معها الأدوات ذاتها وتعاملت بأسلوب العقوبات والابتزاز و التهديد والوعيد وصولاً إلى العدوان والحروب والتفكير جدياً في الاحتلال العسكري من جديد، وكان مشهد التهافت على اقتسام غنائم حروبها شاهداً صارخاً على النيات المسبقة التي عرّت شعاراتها وفضحت غاياتها.


فأوروبا اليوم في زمن الهوان والشتات العربي، تستعيد ذاكرة الاستعمار القديم بلبوسه الجديد. بين الواجب ''الشرعي'' و ''الأخلاقي'' تتشرذم السياسة الأوروبية وتحاول أن تستعيد ذلك الوجه البغيض في ذاكرة الشعوب التي لم تنس بعد كوارثها الممتدة فينا منذ عقود، وما زالت أخطاؤها توغل في تاريخنا وحاضرنا وتنبت بين جنباتنا كوارثها اللامتناهية. عقوبات ولهاث سياسي وضغط إعلامي متواصل ليكون تعويض الهزائم الأوروبية سياسياً والفشل اقتصادياً مزيداً من الحروب والويلات على حساب الشعوب العربية.

وفي الواقع فإن سياسة التدخل السافر التي ينتهجها الغرب تشهد اليوم انعطافاً خطيراً يتمثل في متغير راهن يتجاوز استهداف الأنظمة ''الوطنية'' التي وصل إلى الحكم بعد المخاض الطويل والمستمر لحركات التحرر الوطني العربية، ليصل الاستهداف إلى الإرادة الشعبية بما يتصل بها من وعي وانتماء ومصالح، ويتم استهداف هذه الإرادة بوسائل عديدة تقوم على التدخل المباشر من خلال الضخ الإعلامي وتزوير الحقائق، واستلاب الوعي، واستئجار أشخاص، وسياسات، وحركات يتم تسخيرها لضرب المصالح الوطنية والعربية الحقيقية المتناقضة مع مصالح الغرب وإسرائيل.
وقد وصل هذا الاستهداف إلى الإعلام، والثقافة، والحراك الشعبي والسياسي، فوقع بعض المثقفين العرب في فخ تكرار الكتابة عن ''الربيع العربي'' وهم يشهدون بأم أعينهم خريفاً مؤلماً، وواقعاً عربياً عصيباً شعبياً ورسمياً، يتم العمل خلاله على سايس بيكو جديد في ظروف تقهقر المشروع القومي العربي ''لا الفكر'' تقهقراً يذكر بالسياسات الغربية الناجمة عن وضع الرجل المريض في مطلع القرن الماضي، تلك السياسات التي ترى في الواقع العربي الراهن رجلاً مريضاً ثانياً، دون أن تنسى الرجل المريض الأول الذي يظن بعض الأخوة الأتراك أنه منسي في استراتيجيات الغرب الاستعماري الآن.
فمع الأزمة المالية العالمية المستمرة منذ ثلاث سنوات، تتابع اليوم سلسلة الانهيار الاقتصادي الغربي، والاعتصامات والاحتجاجات، وأزمة اليورو، بما لا قدرة للغرب معها على متابعة مسيرة الرخاء والرفاهية ولنمو المعهودة، فكان على الغرب الهرب إلى الأمام بتصدير الأزمات، والعودة إلى الاستعمار بشكل جديد أكثر خبثاً وإرهاقاً، ينطلق من التسلط على المجتمع الدولي والأمم المتحدة، ومجلس الأمن... وصولاً إلى الانقضاض على الأنظمة الرسمية في المنطقة، وعلى الإرادة والمصالح الوطنية والشعبية فيها.
ومن هنا كان الفيتو الروسي والصيني الأخير نقطة انعطاف كبير في السياسة الدولية والتاريخ المعاصر ليس لصالح سورية رسمياً وشعبياً فحسب، بل يمكن تطوير الإفادة منه لصالح شعوب المنطقة ضد منعكسات حالة الإفلاس في الغرب. فمخاض ولادة عالم متعدد الأقطاب يرث الأحادية الأمريكية يتبلور يوماً بعد يوم، بُعد آخر مع استمرار الشد والجذب في مشهد السياسة الدولية بين محور يفترض أن العالم ما زال أرضاً مشاعاً يمكن التلاعب بجغرافيتها وديمغرافيتها وفق مصالح استعمارية، وآخر أدرك أن قدر العالم كملعب مفترض للأول ليس حتمياً ويمكن كسره بواقع تعددي متوازن يمنع التفرد وينبذ الاستئثار.
صراع يتخذ اليوم من المنطقة العربية مسرحاً بحكم أهمية موقعها الجيوسياسي القابع في قلب العالم وما تحتويه أرضها من خزانات طاقة تشكل عصب الغرب الاقتصادي وبما أن سورية تشكل صلة الوصل فيها وخزان فكرها القومي الممانع يتوحد ويستشرس هذا الكمّ من الاستهداف الغربي بأدواته العربية ضدها.

ومشاهد الإفلاس السياسي والأخلاقي الغربية عديدة اليوم، ولا يمكن حصرها وأهمها: الضياع الاستراتيجي الرخيص في السياسة الفرنسية، وفي السياسة الأمريكية أيضاً. ويبرر الكثيرون عودة أوروبا إلى ارتداء ثوب الاحتلال بكثير من الظروف التي تتعرض لها حالياً، أبرزها سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على سياسات البعض منها، ليبقى العامل الأهم المتمثل في ابتلاء أوروبا بقيادات سياسية فاسدة تحاصرها الفضائح من كل جانب، وافتقادها أي رؤى سياسية تعيد دولها إلى الساحة العالمية كلاعب مهم لا كتابع مطيع لواشنطن.
فالغرب اليوم يناهض حركة التنوير والتحرر العربية، ويدعم ''الربيع'' الذي يبارك الطائفية والفتنة والإرهاب... إنه أكبر إفلاس، بل نفاق وتآمر. وما حدث في ليبيا وما يحدث حالياً في سورية يصلحان كمثالين واضحين على السياسة الاستعمارية الغربية غير الإنسانية وغير الأخلاقية التي تتبناها الدول الأوروبية، ففي ليبيا قتلت طائرات ''الناتو'' أكثر من مائة ألف مواطن ليبي وفتحت البلاد على صراع الفتنة والتقسيم، ويبدو أنه سيكون طويلاً من أجل النفط، وفي سورية تدعم أوروبا التخريب والإرهاب والقتل وتعاقب شعباً كاملاً بإسم شعارات تبين أن القارة العجوز براء منها.

روت أوروبا أطماعها في المنطقة لعقود خلت... مارست عدوانها واستعمارها مراراً وتكراراً... فرضت عقوباتها غير مرة... استسلمت للإرادة الأمريكية إلى حدود التبعية... واليوم ليست أفضل حالاً... ومثلما لفظ التاريخ كل فظائعها ومن كان خلفها... سيلفظ الحاضر ما تُقدم عليه ومن معها، وكما كانت الخاسر الأكبر في الماضي... هي اليوم أيضاً... ولعابها الذي يسيل على غنائم الهزائم العربية سيكون أول الشواهد على أنه دون طائل... لأنّه بلغة التاريخ سيرتد عاجلاً أو آجلاً وبالاً عليها... إن لم يكن اليوم فإنّه الغد القريب... والشعوب التي تناست لبعض الوقت ما خلّفه استعمارها يوماً... لن تنس طول الوقت ما تفعله وما تقترفه. فعبر التاريخ تؤكد إنّ إرادة الشعوب هي المنتصرة دوماً مهما بلغت قوى الشر والجريمة.

 

مصطفى قطبي

باحث وكاتب صحفي من المغرب

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved