الحركة الوطنية في الصين في بداية القرن العشرين

2011-10-05

لقد بدأت حركة الاحتكاك الأوربي بالصين بالعلاقات التي أقامتها شركة الهند الشرقية البريطانية مع الصين، إلا أن الأمور تطورت فيما بعد فأصبح هناك تدخل أوربي في الصين بداية من معاهدة نانكنج 1843 ووصولاً لمعاهدة تيان تسن 1858، حيث أصبحت لكل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وروسيا مصالح وامتيازات في الصين التي ظلت كإمبراطورية قائمة وإن تحطمت سلطاتها المعنوية وضعفت قبضتها على أبناء شعبها. بيد أن الشيء الذي لم يقدره الأجانب هو وطنية الشعب الصيني ومزاجه، فقد كان الضغط المتواصل من جانب الدول الأجنبية للحصول على امتيازات من جميع الأنواع، وفوق ذلك افتراض الدول، بمنتهى السهولة، بأن الصين إنما وجدت هناك لتقتسم بينهم، كل ذلك أثار ثائرة وطنية الرجل العادي. فقد حدث انفجارًا وطنيًا أصيلاً تمثل في حركة الملاكمين "البوكسر" Boxers حاملاً بين حُممه كراهية الأجانب، والتعصب الأعمى، والتأييد الشعبي، فقد اندلع هذا الغضب من عقول الأهالي الصينيين التي كانت تتقد وطنية، على الرغم من أن الدول حسبت أنها عقول مظلمة لا تؤمن إلا بالخرافات.

 

 

كان انتصار اليابان على الصين في الحرب اليابانية - الصينية (1894 - 1895)، ومسارعة الدول الغربية إلى اقتطاع أجزاء من الصين من ناحية أخرى، تسبب في قيام تيار يدعوا للمطالبة بقيام الصين باحتذاء حذو اليابان بالأخذ بأساليب الدول الغربية. وكان دعاة المحافظة على الأوضاع القائمة أو الرجعيون في تلك الآونة هم أصحاب السلطة التامة، وقد زاد من حماسهم ظهور حركات معادية للأجانب تمركز نشاطها في شمال الصين، وقد مهد كثير من المسئولين الصينيين الجو المناسب لإثارة السخط السياسي والاجتماعي والاقتصادي ضد الأجانب، فتألفت جمعيات سرية مناهضة لم تحظى بمباركة ذوي النزعات المحافظة من رجال البلاط الإمبراطوري، وانخرط هؤلاء في "ميلشيات" الهدف منها مكافحة الوجود الأجنبي على أرض الصين، وكان في مقدمة هذه الجمعيات جمعية أطلق عليها حركة الملاكمين "البوكسر" Boxers (حركة القبضات المتآلفة). وقد اختلف المؤرخون حول سبب تسمية الثوار "الملاكمين"، فريق يرى أنهم عرفوا بذلك الاسم لأنهم كانوا يتدربون على الملاكمة الصينية، وفريق آخر يرى أن مرجع التسمية يرجع لكونهم أعضاء الجماعة الانتقامية الذين سبق لهم أن قاموا باغتيال رجال التبشير الألمان في 1897م.

وكان لهذه الميلشيات شعارات خاصة صارت تنتشر أصداؤها بين العامة من بينها "أن السماء غاضبة على الأجانب وعلى كافة ما يصدر منهم من أفعال وخصوصًا عقيدتهم المسيحية"، وأن رسالة هذه الميلشيات هي تطهير الصين من هذه الشرور، وكانت الحكومة الصينية تغمض الطرف على أعمال الملاكمين الأمر الذي شجعهم على مهاجمة الأجانب وإتلاف ممتلكاتهم. فقد اشتعل الريف غضبًا وظهرت في الولايات "حركة البوكسر"، وكانت غضبة الأهالي موجهة وقبل كل شيء إلى المتنصرين الذين انتشروا في المناطق الريفية، فضلاً عن أتباعهم المتنصرين من أهل الصين. وكان الناس ينظرون إلى المتنصرين نظرتهم إلى وكلاء الاستعمار ويعدون الصينيين المتنصرين عملاء. وكان مبدأ حزب البوكسر هو "اعتزوا بآمرتكم المالكة وأبيدوا الأجنبي". وقد وجدت الحركة التي كانت تقوم من حيث الجوهر على الشعور الشعبي تأييدًا من بعض كبار الموظفين الذين لم يكن لهم اتصال مباشر بالأجانب، كما لقيت الرعاية من بعض الأمراء، وما لبثت الإمبراطورية في النهاية أن تحولت إلى جانبهم. وأزعجت قوة هذه الحركة الدول التي بلغ من أمرها أن طالبت بالقضاء على البوكسر، واقترحت أن يصدر مرسوم إمبراطوري ينص صراحة على "أن الانتماء إلى أية جماعة من تلك الجمعيات، أو إيواء أي فرد من أعضائها، يعد جناية في نظر قوانيين الصين". ولكن هذه الحركة بدلاً من أن تضعف البوكسر لم يكن منها إلا أن زادتهم يقينًا بأن الدول الأجنبية مصممة على القضاء على الصين، وواجه القصر الإمبراطوري معارضة أجمعت عليها جميع الدول الأجنبية، فأصدر أوامره بقمع الحركة.
وفي مايو 1900 كان لحركة البوكسر قوة شعبية هائلة، فشرع رجال البوكسر يتناولون الأمور بأيديهم، وأخذوا يزحفون إلى بكين، وكان يركزون أنظارهم وقبل كل شيء على المتنصرين الصينيين أو "الطبقة الثانية من البرابرة" كما كانوا يسمونهم، وعندئذ أرسلت البعثات الدبلوماسية في طلب الحرس والقوات العسكرية. وأخذ الموقف يتدهور تدهورًا متواصلاً، وشعر ممثلو الدول أنه قد حان الوقت لاتخاذ إجراءات حربية، وقام البوكسر ببعض الأعمال العدوانية العشوائية، وتم محاصرة السفارات الأجنبية في بكين، أما في داخل البلاد فقد نُهبت مباني المتنصرين وذُبح مَن يعملون بها من عمال. وإذا كان البوكسر الصينيون الجهلة قد أظهروا شيئَا من القسوة في معاملتهم للمتنصرين وأنصارهم من الصينيين، فإن ملوك الدول الأوربية في لحظة الانتصار اتسموا بالرغبة المفرطة في الانتقام.
تقول التقارير أن جند الدول المتحالفة تحولوا إلى النهب المطلق من كل قيد، كما حتمت الدول على الصين دفع تعويضات باهظة، وفرضت شروط صلح قاسية مهنية تسمى "بروتوكول البوكسر" (اتفاقية الملاكمين)، تتمثل في: قيام الصين بتقديم اعتذار رسمي لكل من اليابان وألمانيا عن مقتل ممثليهما الدبلوماسيين في حوادث الشغب، وإنزال العقاب بالمسئولين الصينيين عن هذا الحادث، وتقوم الصين بدفع غرامة قدرها (330) مليون دولار. وفضلاً عن إنزال العقاب بالثائرين وإقامة نصب تذكاري لأحد المتنصرين، فقد اتخذوا المفاوضات وسيلة قُصد منها منح فرصة للحصول على الوظائف للمتنصرين، وحظر استيراد الأسلحة والذخائر لمدة سنتين، والاحتفاظ بحي السفارات للأجانب دون غيرهم، وذلك معناه طرد الصينيين وإلقاء عبء الدفاع عن هذا الحي للسفارات. وقد ظنت الدول أنها مستطيعة بهذه الوسائل ضمان هيمنة الأجانب على الصين، ولكن هذه الشروط المتطرفة كانت تحمل بين طياتها بذور تدميرها هي نفسها، فذلك البروتوكول هو الذي نستطيع أن ننسب إليه المرارة المفرطة التي كانت تتصف بها علاقة الصين بالغرب في السنوات الخمسين التالية.

فقد كان العصر الذهبي لسلطان الأوربيين ببلاد الصين يتمثل في السنوات العشر التي مضت بين تسوية البوكسر وسقوط أسرة المانشو، فإن المتنصرين أوشكوا أن يهيمنوا على التعليم هيمنة الاحتكار، وأصبحت المناطق الساحلية التي غلب عليها نفوذ الأجانب مركزًا لحياة جديدة، كانت زوارق المدفعية الأجنبية تتولى أعمال الشرطة في نهر اليانجتسي Yangtze، كما تمكنت القنصليات الأجنبية من تقديم الحماية لكل من التمسها منها. ولكن من دون ذلك كله، كان يلم بالصين تغير عميق، حيث بدأت تظهر طبقات جديدة من الصينيين تنظر بعين الحسد للفرص التي يستمتع بها الأجانب والتي أصبحت عاملاً له أهميته في الحياة الاقتصادية، وكان نمو الرأسمالية الصينية عجيبًا حقًا، فُنظمت شركة الملاحة التجارية لتجار الصين سنة 1872م لكي تنافس الاحتكار الذي كان الجانب يحاولون تأسيسه في المياه الساحلية والنهرية، وبدأت مصانع غزل الحرير ومصانع القطن والكبريت ومطاحن القمح تنشأ في المدن الساحلية. واستفادت الطوائف الثورية من الحرية السياسية التي تظل المدن، وانتشرت حركة قومية من المدن نحو الداخل، وبدأ القوم يستخدمون المقاطعة سلاحًا قويًا في المسائل السياسية.

وكان ينبغي أن تفتح أعين الدول الاستعمارية على قوة وطنية للصين الجديدة، فقد بدأت الثورة في أكتوبر 1911، كان مولد الثورة هادئًا ولكن حياتها كانت صاخبة، فقد انتشرت الفوضى وتوالت الأحداث والفتن، وسقطت أسرة المانشو في فبراير1912 بتنازل الإمبراطور عن العرش، واجتمعت جمعية وطنية ثورية أنشأت على عجل، وأعلن إنشاء دستور مؤقت، ومجلس قومي استشاري مؤقت، وبرلمان مُشكل من مجلسين، وانعقد البرلمان بعد سنة ولكن نشأ بين الثوريين الذين كانوا أغلبية في المجلس، وبين الرئيس "يوان شيه كاي" Yuan Shih Kai الذي كانت له سلطات فعالة، صراع اشتد حتى جعل دفة الأمور في الدولة من المحال إدارتها. ولما نضب ما في خزانة الدولة من مال كان الطريق السهل هو المفاوضة في عقد قرض أجنبي، وكانت تلك هي الفرصة التي كانت الدول العظمى في انتظارها، فإن بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وألمانيا وروسيا واليابان أعلنت عن استعداها لتكليف اتحاد من البنوك بتقديم القروض المطلوبة، على شرط أن تعترف الصين اعترافًا صريحًا بأن لهذه الدول وحدها فقط الحق في تقديم جميع القروض.
غير أن الولايات المتحدة عادت فسحبت تأيدها لذلك الترتيب، وذلك لأنه الرئيس الجديد للولايات المتحدة شعر بأن شروط القرض تبدوا أنها تمس الاستقلال الإداري للصين ذاتها. ونجد أن الصين دخلت في فترة من الاضطرابات وظلت إحدى عشرة سنة بغير حكومة مركزية قوية، ولم يضع حدًا لهذه الحال سوى "صن يات" Sun Yat-sen (1866 - 1925). فقد ولد في أحد الأماكن القريبة من مدينة كانتون، وتعلم في إحدى مدارس الإرساليات وقد بدأ بحركة وطنية لمعارضة حكومة المانشو، ثم اتجه في تفكيره السياسي اتجاهًا يساريًا، وأصبح جمهوري الاتجاه يعتنق الفكر الاشتراكي، ويطلق عليه "الدكتور صن" لأنه التحق بمدرسة الطب في هونج كونج، وتلقى دراسات واسعة في العلوم الاجتماعية والسياسية والعسكرية عن طريق المكتبات العامة في مختلف أنحاء العالم. وفي عام 1912 أنشأ حزبًا سياسيًا هو حزب "الكومنتانج" Kuomintang أي حزب الشعب القومي.

وكان مثله الأعلى اليابان، ثم تحول عن ذلك بعد أن وقع تحت مؤثر الثورة الروسية، فأعلن أن الشعب الروسي سيكون الحليف والأخ الوحيد للصينيين في كفاحهم من أجل الحرية. وبذلك بدأت العلاقات بينه وبين الحكومة السوفيتية، وأسست الأكاديمية العسكرية الصينية، وكان المقصود من الجيش الصيني الجديد هو توحيد البلاد، ولكن قبل أن يبدأ هذا الجيش زحفه توفى "صن يات" في 25 مارس سنة 1925، إلا أن تحالف الكومنتانج Kuomintang والشيوعيين بعدها طهر الصين كلها من القادة الانفصاليين ووحد البلاد.

الحقيقة أن؛ تحول "صن يات" نحو الحكومة السوفيتية، وانضمام الشيوعيين إلى حزب الكومنتانج Kuomintang يحتوي في حد ذاته على بداية صحوة الصين الجديدة، فقد قامت ثورات شيوعية في بعض دول العالم على نمط ثورة اتحاد السوفيت أملاً في القضاء على ظاهرة عدم العدالة في توزيع موارد الثروة والدخول بين الأفراد، وذلك ما حدث في الصين حيث قامت ثورة الصين الشيوعية 1949 وأعلن عن قيام جمهورية الصين الشعبية، وبعدها قامت دولة الصين الحديثة، حيث وُضع الدستور وأنشأ البرلمان من مجلسين، وتم تعيين رئيسًا للصين.


المراجع:
Marina Warner, The Dragon Empress: Life and Times of Tz'U-Hsi, 1835-1908, Empress Dowager of China.- 2nd Edition.- New York : Atheneum, 1986.
جاد طه، دراسات في تاريخ آسيا الحديث.- القاهرة: د. ن، 2001.
فوزي درويش، الشرق الأقصى: الصين واليابان (1853 - 1972).- الطبعة الثالثة.- د. ن: الغربية، 1997.
محمد علي القوزي، حسَّان حلاَّق، تاريخ الشرق الأقصى الحديث والمعاصر.- ط1.- بيروت: دار النهضة العربية، 2001.
كاتب المقال:
أشرف صالح محمد سيد
عضو هيئة التدريس
الجامعة الاسكندينافية - النرويج

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved