القطعة السردية -نيران طرفي نهار-- 8

2022-01-31

نيران

والدها كان يعرف أن أحد الدواعش قص مقدمة رأس أرزة . قتلها سقطت أرزة . أرزة  الأطلس لا تسقط، تموت تشيخ، تعمر طويلاً . الداعشي قتلها، سقطت، لم تصبها ذائقة الموت، تمسح الغبار، الغبار كتم أنفاسها، تشعر بالدوران، تسقط على الأرض وهي تريد أن ترفع كتاباً  داسه صاحبها دون أن ينتبه إليه، تسأله :

-  لماذا انتحر أشهر الأدباء والوزراء ؟

لا يجيبها، تسأله عن  الانتحار وتترقب انتحار "فرانسوا" فيون، يقول لها :

-اكتبي مقالا في هذا الموضوع .

ركنت جنباً، تريد أن تستريح من الغبار، وبدأت تكتب :

"فرانسوا" فيون،  المرشح اليميني لرئاسة الجمهورية الفرنسية، وحامل لواء الطهارة الأخلاقية، يتورط في قضية وظائف وهمية، مليون دولار قيمة مرتبات تلك الوظائف لسنوات، وظّف زوجته البريطانية الأصل، ووظف ابنيه قبل فوزهما بإجازة القانون، وقبل التحاقهما بالمحاماة، كان يتباهى بين نظرائه المرشحين، بأنه الوحيد الطاهر أخلاقياً، وبأنه لم يتابع قضائياً بأي قضية، كان ملفه أبيض كالثلج، لكن بعد إبعاد منافسيه في الحزب الجمهوري، وفوزه  في الانتخابات الأولية الحزبية بمقعد مرشح الحزب الوحيد، خرجت العفريتة من القمقم وفي يدها ملف ذهب بكل ادعاءاته، العفريتة هي جريدة - لو كانار انشيني، المتخصصة في الفضائح، نشرت وثائق الأداء وأسماء المستفيدين، الزوجة والابنين، المقادير الشهرية المصروفة لهم عظيمة، تفوق بسنوات ما يجري به العمل في الوظائف المماثلة في فرنسا، تتهمه الصحيفة والأحزاب بجريمة اختلاس الأموال، لفائدة أقربائه تحت ستار وظائف وهمية، رد عليهم "فرانسوا" فيون، بأنها وظائف حقيقية، وان زوجته كانت تكتب له التقارير وتجري له الاتصالات، وأنها كانت تشتغل معه بصفتها ملحقة بالبرلمان، وأن ولديه أيضاً كانت وظائفهما حقيقية، طالبوه بالحجج، اجروا مقابلات مع برلمانيين وسياسيين محليين، كلهم قالوا إنهم لا يعرفون أن زوجته تعمل ملحقة عنده، وقال خصومه في الإعلام إنها لم تُشاهد يوماً في البرلمان، ولا في الاجتماعات الحزبية، تحولت القضية إلى سيل طاغ من الاتهامات، ذهبت بسمعته وأسقطت نصابه في مراكز استطلاع الرأي. صار لا يستطيع أن يخترق صفوف الجماهير خجلاً وخوفاً من الشتائم والسباب، أظهروه مرة يمر أمام جماعة ليدخل إلى قاعة الاجتماع و أظهروا تلك الجماعة وهي تسبه - يا لص، يا مختلس، تْفُو .

انتقل الأمر إلى الشرطة، لم ينتحر، لم يقتلوه، استنطقوه، استدعوا الزوجة والولدين، بثت القناة الثانية مقابلة مع زوجته، وفيها أعلنت الزوجة أنها لا علاقة لها بشغل زوجها البرلماني، انطبق السقف عليه ولم يعد له ولا لها ولا لولديه من مهرب، بعد أسابيع انتقل الأمر من الشرطة إلى القضاء بإجراء التحقيقات معه ومع أقربائه، طالبه بعض أعضاء حزبه بالانسحاب من المسابقة الرئاسية، رفض، تعلق آخرون من طلاب الانتفاع به،  وهم من حزبه لأنهم إن انسحب خسروا آمالهم فيه، فهم معه في سفينة واحدة، ضرب بعض أعضاء حزبه بالانتخابات التي جعلت منه مرشح الحزب عرض الحائط، وتقدم واحد منهم للانتخابات الرئاسية، محتجاً بأنه لا يجوز له أن يغرق وأن يُغرق معه كل ركاب السفينة، المهم أن البائس "فرانسوا" فيون، المرشح الرئاسي سيء الحظ، فلو كان يحمل جنسية عربية وتقدم إلى الانتخابات في بلد عربي، ثم اتهم بوظائف خيالية لفائدة أقاربه، لما أصابه النَكد الذي أصابه بسبب كونه فرنسياً يتقدم لانتخابات فرنسية، في البلاد العربية، هناك حكمة -عفا الله عما سلف، فإذا فرضنا أنه  كان قد أُتهم في بلد عربي، فإن التهمة تنسى بعد أن تكون سلفت بدقيقة أو ساعة من الزمن، ثم ينطلق بعد ذلك إلى خوض غمار الانتخابات التي تكون نتيجتها معروفة قبل إجرائها، والويل لمن يتعرض له أو يحتج أو يشتمه. لماذا ؟ لأن أخلاقنا خير من أخلاقهم، لأننا نتسامح مع المخطئين ولو كانت أخطاؤهم كالجبال، مسامحتنا عظيمة كمسامحة الله، نحن آلهة المسامحة، نحن مشركون محترمون لأننا ننافس الله في القدرة على المسامحة فنسامح القاتل والمزور والمختلس والمغتصب و.. وكل متصف برذيلة من الرذائل بشرط أن يعود إلى عبادة رجل السلطة، أما الفرنسيون فمجرد بشر، لا ينبغي أن نتخذهم قدوة لنا فإن الآلهة مثلنا تغفرُ للمجرمين، في بلدنا لا ينتحر الوزراء، لم ينتحر الوزير"خالد" لأن اسمه مقرون ب"خالد "بن الوليد، سيف الله المسلول، -عفا الله عما سلف، ومنذ ذلك العهد واللعنة منصبة على وزارة التعليم، سقط القلم من بين بنان الإبهام والسبابة و شعرت بلهب نيران تلتهم جسدها،لا تريد خوض غمار السياسة، تلج  إلى غرفة التلفاز، لا تستمع إلى الأخبار على الشاشة، تهمس - أنا مثل الأطفال لا أخوض غمار السياسة،  لا أتشبث بالماضي ولا أحفظ التاريخ ولا أرسم الخرائط ولا أستظهر التربية  الإسلامية ولا الوطنية، أركز على الحاضر والمستقبل، أنا مثل الأطفال أغرق في لعبة -دراكو . أقفز إلى المسافات البعيدة، افرح وأنا طفلة صغيرة، برؤية "شارلي" شابلان و " طارزان" ولكن وأنا شيخه الآن لا أفرح برؤية " فهد" و "أسد"، افرح عندما  أرى "ياسمين"، الحاضر، المستقبل، أقفز إلى المسافات البعيدة لا توجد خرائط .

***

تمسح الغبار وتحاول الحصول على نغمة موسيقية، مثل نغمة أمها، التي كانت تسمعها وهي تردد فجر كل نهار .

- اللـهم لك الحمد، هذا من فضل الله علي .

- الله الله، الله الله، الله الله. سعدي أنا بالله .

 يلتفت إليها وهو يستمع إلى صوتها كأنه منبعث من الجنة، يخفي عذوبته، متباهياً بصوته، يغني :

- يا ورد من يشتريك ...

تغني  له، وقد انسكبت من فنجان القهوة الذي بيده قطرات على الأرض :

-يا وريدة بين النخيل

يستمر في الغناء :

- يهدي إليك الأمل الهوى والقُبل

 

تنشغل بالقُبل، تخفي انشغالها، تقول له :

- أنا أحب زمهرير فصل الشتاء لأن شجر اللوز يزهر، و أحب لهيب  فصل الصيف لأن شجر الرُمٌان يُزهر .

لا يجيبها  يغني :

-  .. الهوى والقُبل .

يلتفت إليها وقد سقطت من داخل كتاب تمسحه صورة فوتوغرافية جماعية لتلاميذ بالقسم الابتدائي الأول، تقول له :

- انظر إلى هذه الصورة بالأبيض والأسود، أنا فيها طفلة صغيرة، معظم  زميلاتي وزملائي مبتهجون، رغم أن أَحْذيتهم ممزقة، أشبه بالحفاة، وجوههم تعلوها صفرة داكنة، تُنْذر بفقر الدم .

لا ينتبه إلى الصورة، لأنه  انصرف عن الغناء وانشغل بالأرقام. يقول لها :

- الرقم الذي أريد أن يكتب على قبري بعد اسمي هو : 999

عندما  يحدثها عن الأرقام، لا تفهم حديثه، تهمس له بقطعة شعرية لصديقتها الشاعرة "منيرة" :

- "آني" في ظلال الزيتون .

الشاعرة الأمريكية من أصل فلسطيني "منيرة" استوحت القصيدة  من زميلتها  "آني" الأمريكية التي سافرت إلى فلسطين، أثناء حصار -جنين-  وعاشت معهم، وكتبت دراسات عن أوضاعهم أثناء الحصار، وعندما عادت لتستأنف عملها بالجامعة تحدثت عن  الحصار،عادت مرة أخرى لجنين وتألمت ألماً شديداً، لأنها علمت أن ولدي المرأة التي استضافتها في المرة السابقة استشهدا‏، ركزت صورتيهما في مِضمّة تحزم  خصرها وهي تتعجب عم يتساءلون، و تجيبهم بسرعة- هذان أخواي  قتلهما "شارون‏"..‏ هكذا أدركت  "منيرة " أن  "آني" تحمل قيماً إنسانية، وأنه من الخطأ أن نضع الشعوب والأفراد في إطار الصورة النمطية للحكومات والسياسات‏، ‏وفي رسالة إلكترونية توصلت بها من صديقتها  "منيرة"،  أن "آني" توفيت، حزنت  عليها حزناً عميقاً، لأنه سبق لها أن تعرفت على المستشرقة الأمريكية "آني"، خلال المحاضرة التي قدمتها بجامعة شيكاغو، حول- أدب ما بعد جبران .

تمسح الغبار، عن كتاب- الروض الهَتُون في أخبار مكناسة الزيتون، تفتح صفحة 13 أم "هاني" العبدوسية، لا تعرف عن هذه المرأة شيئاً ؟ ربما تكون مطلقة، أمر الطلاق يشغلها كثيراً . تذكرت أن جدها كان يحكي لها حكايات طريفة، من الحكايات التي علقت بذاكرتها والتي تتعلق بالطلاق، حكاية رواها لها عن"العباس" بناني، الذي عاصره  وكان فقيهاً مشهورا مذكوراً في فاس، من علماء القرويين من الجيل الأول للقرن العشرين. فارق التعليم وتقاعد قبل استقلال المغرب، وكان جل علماء القرويين من تلامذته، بقيت في أذهان سكان فاس حكايات تدل على ذكائه الفقهي، فقد كان مشتغلاً بالفتوى للعامة والخاصة، وكان الناس يلجئون إليه، لفك عدة إشكالات دينية يقعون فيها ولا يستطيعون تعديلها بقرار من أنفسهم، وكانت العقلية السائدة في ذلك الوقت قبل الاستقلال، توجب عليهم في تلك الأحوال استفتاء علماء الدين، فلم يغير الحاكم الفرنسي شيئاً عظيماً من مركزهم الاجتماعي، كان أحد تجار الجلد والقنب ولوازم صنعة المحافظ والأحزمة الجلدية بحي الصبطريين، يجادل زبوناً على عتبة حانوته، كان الزبون قد اشترى منه جلداً، ثم تغاضبا واقسم الزبون بالطلاق آخره ثلاث كما يقولون في فاس، ليسترجعون ورقة الألفي ريال التي دفعها للتاجر بعينها وأن يرد إليه بضاعته، وأصبح بين أمرين أحلاهما مر، فإما الطلاق وإما أن يرد إليه الورقة بعينها، لم يعترض التاجر على ذلك ورد له الألفين، لكن الزبون لم يقبل، وأصر على استرداد ورقة الألفين التي دفعها بذاتها، لا أيّة ورقة تكون في صندوق الحانوت، واعتذر بالقسم الذي اقسمه، وأعتقد أنه إن قبل أية ورقة يعطيها إياه التاجر فلن يتحلل من قسمه ولن ينجو من طلاق التحريم، وقال له التاجر - إن في صندوقي عشرة ورقات من صنف الألفين فلا أعرف أية ورقة أعطيتني، إنني أدرك قوة عذرك ولكن ما العمل ؟ في هذه اللحظة مر "العباس" بناني، بجنب الحانوت فلمحاه، سارع التاجر إلى دعوته، فاستجاب "العباس" كعادته لاعتياده التعامل مع عامة الناس ومخاطبتهم في شؤونهم بما يسألونه عنه، وأخبره التاجر بالمشكلة فقال الفقيه "العباس"-هات صندوق حانوتك الذي فيه ورقات الألفين وورقة صاحبك هذا، أخذ منه الصندوق وقال للزبون- خذ هذا في يدك، أخذه وهو لا يدري ما المراد، ثم قال له الفقيه - أعده إلى صاحبك التاجر، أعاد الزبون الصندوق إلى التاجر ثم قال له الفقيه "العباس"- الآن أخذت الصندوق وفيه مع أوراق الألفين ورقتك، فقد أخذتها حين أخذت الصندوق وبررت بقسمك، ثم قال للتاجر- الآن أعطيه أي ورقة من ذات الألفين تختارها من صندوقك، ثم خذ بضاعتك وتنتهي القصة ولا يكون أحدكما مذنباً،  أهديا إليه هدية ثمينة ثم انصرف عنهما .

 

لطيفة حليم

 أستاذة جامعية وكاتبة حاصلة على شهادة الدكتوراه، تعيش ما بين كندا وبلدها المغرب، صدرت لها روايتان “دنياجات” عام 2007 عن منشورات زاوية الفن والثقافة، و“نهاران” عام  2012   عن دار فكر المغربية بالرباط . بالإضافة إلى نشرها العديد من المقالات والمواضيع في مطبوعات متعددة .

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved