حشرت جسدها الضئيل في مقعدٍ خلفي لسيارة نقل، جالت ببصرها فيما حولها: جموعُ من المسافرين متراصين ملتصقين على المقاعد الجلدية المهترئة المتآكلة لسيارة النقل، وآخرون يفترشون الأرض، حقائب، أمتعة، أقفاص دجاج، سلال بيض، وفاكهة طازجة.. مرت بعينيها حول هاته المفردات المتراكمة المتناقضة المتزاحمة ببرودٍ ولامبالاةِ من ألف رؤيتها آلاف المرات. تحركت السيارة دفعة واحدة، بعد أن أُحكم إغلاقُ أبوابها بصفقاتٍ أحدثت دويّ مخيف، وسرعان ما أثارت في حركتها زوبعةً ترابيةً غطت وحجبت معالم المحطة التي تحركت منها.
بدأت رحلتَها، والتي اعتادت ان تسميها برحلة التنفيس عن النفس، والتي دأبت على القيام بها منذ مدة لا تعرف مداها على التحديد، ربما سنتين، ربما ثلاث أو أربع، لاتدري، لأنها لم تعد تحس بوقع الزمن، وربما ثقل أيامه قد يوهمها بطولها...
على كل حال إنها رحلة لزيارة الأضرحة، أشعلت سيكارتها، نفثت دخانها وراحت تتطلع إلى ما حولها من خلال حلقاته الرمادية المتتابعة. بدأت سيارة نقل المسافرين بالتهام المسافة، إلا انها كانت تتوقف من حين الى آخر، توقفاً مباغتاً يكاد يطوّح الاجساد المتسمرة على المقاعد والتي تحدث صريراً مرتفعاً وفوضى، سرعان ما تتوقف بصعود رجال يسمون برجال الامن والذين يدخلون السيارة مثيرين بدخولهم الهلع والتوجس، مبددين أمن المسافرين وهدوءهم، يقلبون الأوراق بفضاضةٍ ووحشية، ويقطعون على البعض رحلتهم، ولذا بدأت تتناقص بعض الوجوه، لكنها لم تندهش، ولم تعر لذلك أي اهتمام، بل كان يمر المشهد كباقي مفردات حياتها التي اعتادت عليها، إلا أن شيئاً جعل وجيب قلبها يزداد اضطراباً فقالت تحدث نفسها بألم:
- كم أكره أن أفقد حس الدهشة...كم أكره أن تحمل مشاعري كل هذه البلادة...ثم استدركت وأضافت بصوتٍ مسموع:
- لكن لم يبقى ما يؤسف عليه! ..
بلعت ريقها، فأحست بطعم الألم والمرارة في حلقها، وفجأةً سكنها الخوف واعترتها رغبة بالبكاء ...
شمسٌ صافيةٌ تتكسر أشعتُها على زجاج السيارة لتتبعثر بقعٌ منها على الوجوه المتربة المسمّرة في أماكن جلوسها، وتمر سراعاً عبر النوافذ، قامات نخيلٌ تتطاول في حقولٍ معشبةٍ خضراء، فلاحون معروقوا الأيدي وفلاحات بثيابٍ براقةٍ متضاربة الألوان، صورٌ تتلاحق عبر النوافذ وبحركة السيارة السريعة تختلط وتندمج الالوان والاشياء في حدقتيها، فساءلت نفسها:
- كم مرة امتزجت فيها الألوان لتحفر مقابر جديدة لشهداء وقتلى؟ ثم دمدمت بأنينٍ مسموع :
- لم يبقى ما يؤسف عليه...
تنشقت سيكارتها حتى امتلاء الرئتين، فغامت الأشياء من حولها وراح ضباب الذكريات يغلف معالم الأشياء الممتدة امام ناضريها... كان بيتها يعج بالحياة، يعج بالضحك، بالشحن ومناكدات الأبناء، كان كل شيئ يتوهج بالمشاعر ويملأ بيتها بهجةً ودفئ، كانت أيامها تلك معبأة بنبض يفرض رونقاً سحري يشعرها بالقناعة والرضا، رغم الجهد الذي تبذله في تدبير أُمور العائلة.. رغم الشجارات التي قد تنشب بين حينٍ وآخر بين أبنائها أو بناتها، والتي تلزمها ان تكون حكماً يمارس قضاءه بصعوبةٍ بالغة، لتعذر معرفة من ابتدأ الإعتداء...
كانت لياليها مهرجاناتاً يتزاحم فيها لعب الصغار، ونقاشات الكبار وموسيقى متلونة تنبعث من سطح المنزل، أو من إحدى الغرف المكتضّة، والتي تمتزج مع صوت إحدى التمثيليات التلفزيونية التي يتصاعد صراخث ممثليها، في أكثر الأحيان ليغطي على كل الاصوات...
وها هي الآن في هذه الرحلة للترويح عن النفس والهروب من منزلٍ تلفه الوحدةث والصمتث الثقيل، غصةٌ صعدت الى حلقها، مرّرت اصابع يدها المعروقة حول وجهها على مهل كأنها تحصي الغضون المتشابكة فيه .
صوت أُغنيةٍ قديمة ينساب من مذياع السيارة :
1* يا من تعب يامن شكى يامن على الحاضر لكى ...
إمرأةُ متلفعةُ بالسواد تطلق آهةً مسموعةً تنتزعها تلك الأغنية الحزينة، عجوزٌ مقوس الظهر يصيح بلهجةِ ريفية محببة :
2*- بوية علي الراديون... ثم يعود إلى صمته وإطراقه ...
صبية حبلى تعدل من جلستِها لتعيد توازنَها، يتعالى صوت الأغنية بنغمِها الحزين، فتهاجر عيناها إلى بطن تلك المرأة الحبلى، ثم تقول لنفسِها :
- أن تلك الصبية في شهرها التاسع...
كانت صغيرة عندما حملت بابنِها البكر، أربعٌ وثلاثون سنة مرت، لكنها لازالت تحفظ مشاعر امومتَها البدائية، لازالت تذكر خفق القلب وهي تتحسس طفلَها الذي ينمو من جسدِها، وخفق القلب حين يولد، حين يضحك ، حين يحبو، حين يكبر، وحين بنته من حبِها خليةً خلية .. وبلوعةٍ ساءلت نفسَها :
-لماذا يحرموننا من ممارسة طقوس إنسانيتِنا ؟
سيارة النقل تزداد سرعتُها، تتلاحق الصور عبر النوافذ، يتصاعد تيارُ ذكرياتِها، يختلط الزمن وتتلاحق الأحداث لتعبّر عن نفسها بقسوةٍ وسرعة وذهول .
-كم اختلط الزمن؟ وكم اختلطت المشاعر والأحاسيس؟
لم يستطع ابنُها البكر أن يقنعَها بان تسمح له بالرحيل، كيف يرحل ؟ انه فرح حياتِها ورونقِها، كيف تستوعب طعم بيتِها ونكهته خالياً منه؟ قال لها ذات مساء :
- اماه ..لابد من الرحيل ...
سألته مستنكرة :
- هل أنت خائف؟
لاذ بالصمت .. فغرقت بالبكاء، ازداد ارتفاع رائحة الموت ورائحة 3*اللبن الممزوج بالزرنيخ، وأصبح الموت لكل شئ ولأي شئ، للعقيدة، للمذهب ورائحة العرق، تصاعد الموت في الشوارع والبنايات والدروب الآمنة ..
لم يعد سوق البتاويين يشهد أحمالَها من ( علاليك) الخضر واللحوم، كانت تضع تلك الأحمال وهي تنوء بثقلها، في أقرب (عربانة)، يلكز الحوذي حصانه ويسألها مازحاً :
- لمن هذه الأكوام من الخضر ؟
تجيبه ضاحكة بأنفاسٍ متلاحقة :
- عشرة خرفان تنتظر في البيت ..
كم كان قلبُها يخفق فرحاً وهي تسمع ابنَها وجمع الصحاب بضحكاتهم ونقاشاتهم التي تتشابك خطوطُها وتتعالى في ليالي بغداد القائضة .. كانت تقطع عليهم خلواتَهم بصينية شاي تفوح منها رائحة الهيل، فيحل الصمت وتتلاقف الأيادي أقداح الشاي برضا وطمأنينة ...
عجوز يردد بصوتٍ أجش مقطعاً من أغنيةٍ يشق بها الصمت، تلتفت إليه، ثم يلتفت إليه الجالسون جميعاً، يشيح بوجهه نحو نافذة السيارة ثم يجثم الصمت على الجميع من جديد .
كانت حبات المطر تنقر نوافذ منزلَها بعنف .. لم تسمع صفق الباب رغم أنها كانت بانتظاره في تلك الساعة المتأخرة من الليل، لقد فاجأها بسحنةٍ شاحبةٍ، وقسمات تقطر عذاباً وألماً، جلس صامتاً، فجلست ملتصقة ًبه، وضعت كَفها الدافئة حول جبهته وسألته بلوعة :
- ما الخبر؟
أجابها وهو يجاهد كي لا ينتحب
- أخذوه ...أخذوا أحمد يا أمي ...
وامتدت البداية بزخمٍ وحشي عطشٍ حد الأحتراق، أخذوا أحمد صديق طفولته وصباه وأخذوا الآخرين تباعاً، وذاب الجمع أشلاء، أ نباء الموت تغلف ببراقع شفافة، زهرات تسحق قبل الأوآن، العشرات تقتطع من أرحام امهاتهم لتُسلخ معصوبة الأعين ..ويصبح كل شيئ محظور ويصادر الكلام، وتصبح الشوارع صراط المستقيم ...
عاد صوته حزيناً يخترق اذنيها :
- أماه ...لن أمكِّنهم من تشويهي أبداً ...
كم تمنت لو يدخل جسدها !.. لو يعود جنيناً لا يراه سوى قلبَها وأحشاءَها ...بيدَ أنه في تلك الليلة قرر الرحيل ...
عادت إلى سيكارتها وسحبت نفساً عميقاً، ثم رددت بحزن :
- لم يبقى ما يؤسف عليه ...
تتلاحق الأحداث، تبتلع جبهة القتال من أبنائها تباعاً، ولم تعد تعارض من يقرر الرحيل ... اخبار تصلها مشحونة بالموت، أخبار تحاصرها في وحدة موحشة ... جالت ببصرِها كأنها تبحث عن شئ، وأنينٌ في داخلها يقول :
من يصدق، أن من تلد عشرة من الأبناء تقبع وحيدة منعزلة ...
خففت السيارة من سرعتها، بانت منائرُ كربلاء وقبابُه شامخة متلألئة، بدت حركة الناس مخلوطة بلغط البائعين والمشترين ...توقفت السيارة، ارتجل الراكبون بأمتعتهم، حزن ثقيل يغلف الوجوه ...تفرست في وجوه النساء، وجوه موشومة متلفعة بالصمت وأخرى متهدلة موشحة بالحزن ...شعرت بتوحدٍ غريب، ثم ابتسمت بألم وقالت :
-لم يبقى ما يؤسف عليه ..
عالية كريم
1990
هامش
1*اغنية عراقية تراثية تعني ان هنالك من يشقى ويتعب لانجاز شئ وآخر يستولي عليه دون تعب
2* بلهجة ريف جنوب العراق وتعني انه يطلب منه ان يرفع صوت المذياع
3*الزرنيخ هو سم كان يستعمله جهاز مخابرات رئيس العراق السابق صدام حسين لقتل ضحاياه بعد التعذيب،ومن خواصه أن مركباته تكاد تكون بلا طعم ولا رائحة أولون مميز حيث يسهل تقديمها في مختلف الأطعمة والمشروبات دون أن تثير الريبة .