يصادف يوم الثاني والعشرين من شهر شباط الحالي 2016 ذكرى قيام الوحدة السورية ـ المصرية التي كانت أول تجربة وحدوية في تاريخ العرب الحديث... قد يكون الحديث هذه الأيام، عن الوحدة بين ركني العروبة سورية ومصر، نوعاً من أحلام اليقظة، أو الدموع المسفوحة على العسل المسكوب، هذا إذا لم يوصف باللغة الخشبية التي فات أوانها، ومات زمانها... ليس في الأمر ما يلتبس على الفهم ونحن نرى هذا المد الهائج لاستبعاد العروبة والفكر الوحدوي من التداول، حيث الدول العربية مشغولة ببقع الصقيع المنتشرة، أو تئن تحت وطأة الفكر الظلامي القادم على أجنحة الوهابية ولبوسها التقليدي الإخوانية التي تحتفظ بإرث طويل من المواجهة الإلغائية.
لغة الثأر من القومية تتدحرج خلف كرة من المشاريع المعدة للتقسيم والمحمولة على جناحي الوهابية التكفيرية والإخوان اللتين تتبادلان التموضع على وجهي العملة الواحدة المصكوكة أميركياً وبأصابع إسرائيلية، في عملية اصطفاف سياسي ترمي بسلالها خارج السياق المتداول، وهي تُخرج ما في جوفها من خرائط تقسيم تناصب العداء للوحدة وذاكرتها.
حين تحققت وحدة مصر وسوريا في مثل هذه الأيام (1958) كانت ظروف الأمة صعبة، وكل التواريخ العربية مستها الصعاب أو سكنتها، وما هو ممنوع عليها اليوم كان غير مسموح في السابق، ويوم جن الفرح الشعبي العربي بهذا الإنجاز، فقد سجل انضمامه له، ورغبته في أن تعم أرجاء الوطن العربي. وحين وقع الانفصال بعد سنوات ثلاث من تحققها، كان الإصرار أكثر تشبثاً بها، بل تمسك إلى الحد الذي كاد أن يصنع وحدة ثلاثية ينضم فيها العراق إلى سوريا ومصر. وحين نتجاوز التفصيل فليس تهرباً، فالحركات التاريخيّة الكبرى تشكّل مهاداً للعديد مما يختلف فيه، وأدركت الرجعيّة العربيّة، وفي مقدّمتها الرّجعيّة المذهبيّة الوهابيّة، خطورة أن تعيش الوحدة، فتآمروا عليها، وفصلت بعمل خيانيّ، وبدعم عواصم ما تزال على نهجها منذ ذلك التاريخ حتى الآن، وأبرزها حكام السعوديّة، والأردن، وتركيّا.
سقطت الوحدة بين مصر وسوريا بسبب ما حوته من مبررات السقوط! لكنها وللتاريخ أقول: لم تعش يوماً بلا تآمر عليها... ومن قبل المجموعة ذاتها... إسرائيل... الغرب الاستعماري... تركيا وحلف بغداد والعائلة الهاشمية التي سقطت في العراق واستمرت في الأردن... وطبعاً العائلة السعودية التي لها في كل قذارة نصيب. وعندما سقطت دولة الوحدة كانت إسرائيل و تركيا و الأردن من أبرز المرحبين وأسرعت تركيا و كذا الحسين بن طلال إلى الاعتراف بالنظام الجديد، حتى إن الإذاعة الأردنية أقامت برنامجاً خاصاً للحدث تحت عنوان ''يا حماة الديار''. بدأ زمن الانكسار العربي... ليس لأن دولة الوحدة سقطت وحسب... بل لأن زمن الانتصار العربي كان فيه من الوهم أكثر مما فيه من الحقيقة... وتتالت الكوارث من هزيمة حزيران النكراء... إلى احتلال العراق... إلى ما يجري اليوم. وما زالت تركيا ومازال الأردن ومازالت إسرائيل.
للأسف المأسوف عليه، أنّ ذكرى قيام الوحدة تمر هذا العام متزامنة مع أوضاع خطيرة وتحديات مصيرية تتعرض الأمة العربية. فالواقع العربي اليوم مأساوي بفعل ''الفوضى الخلاقة'' و''الربيع العربي'' والنتائج يحصدها العرب من دمائهم وبناهم التحتية ومقدراتهم وثرواتهم ومستقبل أبنائهم ووطنهم العربي الكبير الذي يتعرض لتشظية المشظى وقتل الآمال. غير أن توسع دائرة فعل المقاومة العربية الراهن ضد الأحلاف المعادية وأدواتها في الداخل العربي، يعطي أملا جديداً باستكمال خطوات المشروع القومي العربي التي تم إجهاضها قسراً من قبل المتضررين من كلمة سواء عربية خالصة. فالوحدة تشكل الرد العملي على أي نزعات طائفية أو مذهبية أو عرقية، تؤجج لتفتيت المنطقة العربية، وفي ذات الوقت هي دعوة إلى رحاب انتماء قومي جامع تتكامل فيه وطنيات، وتتناغم فيه خصوصيات وتزول فيه حساسيات، بل إلى فضاء إنساني فسيح تتلاقى فيه قوميات وأديان وثقافات.
إن العرب لا يملكون إلاّ الوحدة وسيلة للخروج من واقعهم المتردي، وعلى هذا فالوحدة ليست مجرد دعوة من الماضي تجمع العرب، لغة وتاريخاً وجغرافيا وإرادة ومشيئة وآمالاً وآلاماً، فحسب، بل إنها ضرورة يفرضها الواقع، واستجابة فاعلة للمصالح، وهي الوسيلة الأجدى، بل والوحيدة، لدخول المستقبل، وللحفاظ على الوجود والهوية. فقد أثبتت التجارب غير الناجحة للدول العربية في حماية أمنها الوطني وفي إنجاز تنمية حقيقية، وتجارب الاتحادات الأخرى مثل الاتحاد الأوروبي واتحاد آسيان واتحاد الميركوسور وغيرها، استحالة أي تنمية جدية في ظل كيانات قطرية متباعدة، واستحالة أي تقدم حقيقي في الإنتاج دون سوق عربية واحدة، واستحالة بناء استقلال مالي ونقدي يحررنا من الارتهان للأزمات الاقتصادية والنقدية العالمية دون استراتيجية مالية ونقدية عربية موحدة، بل استحالة نهوض اقتصادي حقيقي دون تحقيق تكامل بين العناصر الضرورية لكل إنتاج، وهي متوفرة في أمتنا لكنها موزعة بين أقاليمها حيث تتركز أغلب الرساميل في جهة والعمالة، في غالبيتها، في جهة ثانية، وتتوضع أغلب فرص الاستثمار في ناحية وأغلب الخبرة والكفاءة في ناحية أخرى.
الوحدة ترفض أن تكون واجهة لاحتلال خارجي أو مطية لاستغلال داخلي، وأن تكون وحدوياً هو أن تكون مقاوماً حقيقياً يدرك الصلة الوثيقة بين الاستعمار من جانب، والتجزئة والتبعية من جانب أخر، والصلة بين المشروع الصهيوني ومخططات التفتيت والهيمنة والفتنة والتجزئة، لذلك فإن مقاومة الاحتلال والهيمنة، بكل الوسائل، هي فعل وحدوي من الدرجة الأولى تماماً مثلما تصبح كل خطوة وحدوية، وطنية كانت أو قومية، قوة للأمة وسنداً لمقاومتها. وعلينا أن ندرك ما كشفته الأحداث والتطورات التي تعيشها أمتنا وهو أن لا أمن قومياً، بل ولا أمن وطنياً، يمكن أن يقوم في ظل كيانات متناحرة ومتباعدة، وحال العرب اليوم لا تحتاج لشرح ولا لتفسير، فالإطار الوحدوي الجامع المانع هو الضمانة الحقيقية لكل أمن وطني ولكل نهضة حقيقية، مع الإشارة إلى أن الوحدة الوطنية بات مطلوبة، في ظل الظروف الصعبة التي تواجهها الأقطار العربية، للحفاظ على كيانها وسيادتها ووحدتها، أرضاً وشعباً وهوية.
تتصدر اليوم قاعة اجتماعات مبنى جامعة الدول العربية في القاهرة الآية الكريمة ''واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا '' في تلخيص لأهمية الوحدة العربية كفكرة نابعة من الجذور، وكحاجة لمواجهة كل التحديات والمخاطر، وكطريق لمستقبل العرب الذين لا مستقبل لهم بدون الوحدة، في حين نجد العرب اليوم مختلفين ومقسمين، بل نجد بعضهم أحياناً يتحالف مع المعتدي والمحتل والمستعمر، في ظلمه واحتلاله وعدوانه كما نشهد اليوم في الأزمة التي ألمت بسورية، إذ بات مجلس الجامعة العربية مطبخاً للمؤامرات المشبوهة ضد الأمة العربية وحاضرها ومستقبلها ومشروعها النهضوي الوحدوي القومي.
نتذكر الوحدة في يوم قيامتها، وسورية الوطن الأكبر تتقاذفه أعاصير صقيع غير عربي تقوده إلى الأصولية المتحاربة مع الأصل، والظلامية التي تمتهن الإرهاب سبيلاً لتدمير كل ما حققه الإنسان العربي خلال قرن من التوجه نحو الحداثة والعصرنة والتطوير... نتذكر الوحدة والوحوش تنهش الجسد القومي، يعضدها أعداء الأمة وعلى رأسهم ـ إسرائيل ـ التي تعيش أزهى ساعات شهر العسل الأمني والسياسي، وهي ترى الأمة تكاد تحمل أكفانها قبل موعد آجالها نحو قبرها الذي حفره ''الربيع العربي''! غير أن صمود سورية ونهر تضحياتها المترع بالشهادة والبطولات، لابد أن يبدع موعداً للثأر القومي الذي يصحح أغلاط التاريخ، ويعيد الصواب الشارد إلى رؤوس أمراء ومشايخ النفط، التي أدمنت القعود في أحضان المهانة والاستسلام.
وما قيمة هؤلاء العملاءِ عند أسيادهم، بعد هذه العقودِ من العمالةِ للصهيونيةِ والأمريكان وقد حوّلوا أطهر أَرضٍ أنجبت خاتم الأنبياء وصحابته الأوفياء، إلى قاعدة أمريكية صهيونية وحركة تكفيريةٍ؟! وهم ليسوا أكثر من كائنات محنطة خارجة عن القيمِ الإنسانية والأخلاقية لا تحلل ولا تحرّم، وترى في سفكِ الدَّمِ السوري جهاداً وتَتَفرج بمتعة على الكيان الصهيوني، وهو يهوِّد المسجد الأقصى، بل ويخطط لهدمه، من أجلِ إقامة الهيكل المزعوم. وبغض النظرِ إن كان آلُ سعود يهوداً أو أعراباً، ومعهم آلُ ثاني وآل خليفة، وجميع الآلات والأدوات، فهم ومن معهم من المرتزقة وعصابات الإجرامِ من شتى أنحاء العالم، قَدْ خاضوا حرباً بالنيابةِ عن الكيان الصهيوني.
هل يستطيع أحد أن ينكر التلازم التام بين المسألة الوطنية المصرية والمسألة الوطنية الشامية منذ الهكسوس والفراعنة والفينيقيين مروراً بالملكة السورية زنوبيا التي حررت مصر من روما وبالدولة الأموية وصلاح الدين والدولة الفاطمية والحمدانية ومحمد علي باشا وابنه إبراهيم وصولاً إلى عبد الناصر وحافظ الأسد؟ لا يمكن لأي باحث في التاريخ ـ أعجبه ذلك أم لا ـ إلا أن يعترف أنه لا يمكن لمصر أن تقف على قدميها وتصبح قوة إقليمية دون التلازم مع سورية، والأمر نفسه ينطبق على سورية أيضاً... هذه ليست رغبات عاطفية، ولا هي حتى مجرد مشاعر قومية وعروبية... إنها تعبير عن منطق الطبيعة والجغرافيا (التي لم نصنعها نحن وإنما صنعها الله)، وهي تعبير عن منطق التاريخ وانثربولوجيا الواقع. هي أمر يتعلق بطبيعة الأشياء وطبائع البشر، لا مكان للإرادة فيه إلا إذا كانت متلازمة مع منطق الأشياء وقوانين الحياة...
في ذكرى الوحدة لابد من التأكيد أن الوحدة العربية هي حقيقة وليست ضرباً من الوهم أو الخيال كما يدّعي أعداؤها وأنها هي الشيء الطبيعي أو الوضع الطبيعي بالنسبة للعرب، بينما وضع التجزئة السائدة هو الاستثناء وهو بالأساس ـ وكما هو معروف ـ من صنع الدول الاستعمارية عبر الاتفاقيات المزيفة التي طبقتها مثل (اتفاقية سايكس ـ بيكو) وغيرها، وذلك بهدف تجزئة الوطن العربي وتقسيمه إلى عدة دول وأجزاء متفرقة الأمر الذي يسهل على الاستعمار السيطرة على هذه الدول ونهب خيراتها، حتى إن إسرائيل من دوافع إيجادها في قلب الوطن العربي فصل مشرقه عن مغربه واستنزاف موارده ونهبها. إن وجود (إسرائيل) في قلب الأمة يعتبر مانعاً بالمفهوم الجغرافي، لكنه يجب أن يكون محرضاً أكثر فأكثر نحو تحقيق الحلم الوحدوي الذي وحده الخلاص من أزمات الأمة ومن نكدها، رغم ما تعوم عليه من خيرات زراعية ونفطية وغيرها.
كيف أستطيع اختصار تاريخ أكثر من نصف قرن، ولو عبر المشاعر، في مقال متواضع، سأنحّي الجزئيّات، ولكننّي الآن، وأصداء أعراس الوحدة ترنّ في أذني، أدرك، رغم القتام، وقسوة المواجهة، وأنين الحزانى، أنّ ما يفعله الجيش العربي السوري، والمقاتلون الآخرون، هو خطوة تأسيس لشكل وحدويّ قادم يكون بمستوى الحلم والألم، مع التّنبّه الشديد إلى أنّ خطّ (المقاومة) يحمل هذه المرّة إضافة نوعيّة، وهي أنّ ثمّة بلداً إسلاميّاً، هو إيران، يقف في المقدّمة النّاصعة، وعليه لابدّ من إعادة النّظر في مرتكزات المعطى الجديد.