لماذا تغيرنا ؟

2018-08-14
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/047c4da7-3461-4243-a6cb-0391c7740d9c.jpeg
في ظل الصراع الازلي بين القديم والحديث تظل نفس الأسئلة تتكرر، يرددها جيل بعد جيل، للبحث عن إجابة ليست موجودة أو لمحاولة فهم بعض التغيرات التي تصيب المجتمع والإنسان من زوايا متعددة .

يظل الإنسان يتأمل ما طرأ على المجتمع من تغيرات يراها البعض سلبية ويراها البعض الآخر ضرورة حتمية .

وبعد قراءات كثيرة اهتديت إلي عدة نقاط هامة أري أنها المحور المشترك لكل من حاول الإسهام ولو بكلمة في هذا الصدد .
 
النقطة الأولي هي إتفاق كافة الأجيال علي تدهور القيم والأخلاق في حينه، فجيل الستينات سوف يشكوا من أن جيل السبعينات ينقصه الإلتزام والتحلي بالخلق الحميد، ويترحم علي ما سبقهم من أجيال، وجيل التسعينات يشكو من جيل الألفية الجديدة بأنه جيل منحل لا هم له سوى إرضاء شهواته وأطماعه .

ويشكوا الجميع على إختلاف الأجيال من شيوع أنماط منحطة من السلوكيات تعلي من شان المادة وتقيس الإنسان بمقياس واحد فقط وهو مقياس المال .

عندما يستمع أي فرد منا إلي أحد كبار السن نلاحظ أنه يتحدث عن الأجيال التي لحقت به وكأنما كان يستمع إلينا ونحن نتحدث عن الأجيال التي جاءت بعدنا .

نفس الكلام ونفس الشكوي ونفس الاستياء . إذن قضية التغير هذه قضية مرتبطة بالتطور والزمن .غير أن هناك عوامل أخري لا يمكن إنكارها أثرت في الأجيال الحديثة ولم يتأثر بها كبار السن، وذلك بسبب بسيط وهو عدم ظهور هذه المعطيات في الماضي فمثلا الموبايل والإنترنت لم يظهرا في عصر الآباء أو الأجداد، ولكن هناك أشياء أخرى ظهرت في ذلك العصر إتهمها الآباء والأجداد آنذاك بأنها سبب أساسي لتغير الذوق العام وإفساد القيم والأخلاق .

من منا لا يتذكر بأن مشاهدة التلفاز كانت من أكثر الأمور إثارة لغضب آبائنا أثناء فترة الطفولة نظرا للثقافة التي سادت حينها بأن هذا الجهاز يفسد الاطفال ويجعلهم أكثر عرضة للانحراف .

البعد الانساني في عملية تطور المجتمعات لم يعد له وجود فالتطور سوف يحدث وسوف يخترق حواجز العلاقات بين البشر دون إستئذان أو تنبيه .

لقد أصبحنا نشاهد التغير يحدث وبسرعة مذهلة ونحن إما مشاهدين أو لاعنين له دون أن يكون لنا دور واضح في بلورة هذا التغير ليلائم مجتمعاتنا أو علي الأقل في التصدي له بكل السبل الممكنة .

عادة لا تنجح سبل التصدي للتغير ولكن في حالات كثيرة تقف بعض الدول موقف المستفيد من التغير علي كافة الأصعدة، وتناست تلك الدول أن التغير مقبول ومفروض عليها ضمن خطط النمو ولكنه قبول يجب أن يكون مشروطا بالحفاظ على ما تبقي من عادات وتقاليد كانت تحفظ للمجتمعات قدرا من التوازن أمام هجمات الحداثة .

في مصر بالتحديد نالت قضية تبدل الكراسى بين الطبقات إهتمام الطبقة المثقفة، نظرا لأهمية تلك القضية ويرى الكثير من أصحاب الرؤى ان الهجرة إلى دول الخليج كانت السبب الأكبر وراء هذا التغيير الذي يرونه سلبيا دون النظر إلى بعض الجوانب الإيجابية لهذه الهجرات .

لقد سافر مواطنون كثيرون من طبقات كانت تقدر بأنها طبقات معدمة غير قادرة علي توفير حياة بسيطة لنفسها وفي خلال سنوات قليلة استطاعت مئات الآلاف من العائلات أن تصبح من أصحاب الأموال الوفيرة ونشأت بذلك طبقة جديدة هشة البنيان فلا هي طبقة الأغنياء ولا هي طبقة الفقراء بل مجموعة من الفرق الغير متناسقة القوام امتلكت المال ورأت أن أهم ما يمكنها فعله هو شراء أي شيء وبأي سعر ظنا أن هذا الفعل سوف يوفر لهم الراحة والسعادة .

فظهرت الابراج مكان القصور، وسلاسل السوبر ماركت مكان الحدائق، وانتشرت سمسرة الأراضي والشقق، وأصبح الموظفون مجرد أداة طيعة في أيدي هذه الطبقة الجديدة .

من لم يولد في فترة السبعينيات والثمانينات لن يفهم هذا المقال لأننا ولدنا وشاهدنا أناسا غير جديرين بقيادة المجتمع ولكن بعد العودة بأموال الخليج أصبحوا هم الواجهة الأساسية للمجتمع الذي اضطر لقبول سطوة ونفوذ هذه الطبقة الجديدة .

من عاد من الخليج، قام بشراء الفرن الكهربائي لزوجته وطالبها بالتوقف عن  تصنيع الخبز يدويا في المنزل فانتشرت ثقافة الاستهلاك، وطالبها بالتوقف عن تربية الطيور في المنزل فظهرت عصابات الفراخ البيضاء .

كثيرون باعوا الأرض الزراعية وقاموا بشراء الشقق في المدن والعواصم الكبرى، وتخلوا بكامل إرادتهم عن روابط العائلة وقاموا بزرع عادات جديدة في نفوس الأبناء ومنها قدرة المال علي شراء أي شيء وبأي سعر .

تزامن ذلك كله مع تفشي عدة ظواهر اخرى أكثر شناعة وقدرة علي تدمير البقية الباقية من القيم والأخلاق في نفوس الشباب منها ظاهرة الرشوة والمحسوبية في ظل غياب لأجهزة الرقابة .

لذلك عندما نقر ونعترف ان مصر في مواجهتها للفساد إنما تحمل علي ظهرها أخطاء حكومات سابقة، فنحن هنا نؤكد انها تحارب نظاما عشش في نفوس المواطنين عبر عشرات السنوات ونتمنى لها النجاح في القضاء على هذا الفساد او على الأقل تحجيمه .

ان الدول متحصنة بالأخلاق والقيم العليا لم تستطع وقف التغيير ويدرك كثيرون ان التغيير الذي يحدث في اي مجتمع يرتبط بمنظومة الأخلاق وعبر دراسة لحقيقة الأمر استطاع علماء الاجتماع تحديد بعض عناصر هذا التغيير ومدي ارتباطه بعنصري المال والأخلاق .

ظاهرة التوك توك أحد مظاهر هذا التغيير فهي المثال الأكثر وضوحا على ما تم تسميته بالانحراف الأخلاقي وما ينتج عنه من كوارث مجتمعية تقتل المجتمعات ببطء وحذر شديدين .

ومن أكثر ظواهر التغيير خطورة، هي استيراد تفسيرات خاطئة للأديان، وظهور طبقة جديدة من الدعاة، ممن يستغلون حوائج الناس للسيطرة على عقولهم، وقلوبهم، واختفاء العلماء الحقيقيون، من أمثال المشايخ عبدالحليم محمود وشلتوت والشعراوي وظهور مشايخ الفضائيات، ممن يستحبون مخاطبة الجهلاء، او معالجة قضايا ثانوية لن تفيد المجتمع مثل مناقشة أوقات الحيض عند المرأة، او حكم لعب كرة القدم، وغيرها من القضايا التافهة التي تهمش الفكر وتعلي من شأن الخرافات .

استوردنا دينا جديدا ونصبنا من أنفسنا حكاما على ضمائر الناس، وأخذنا نحلل ونحرم حسب اهواءنا، واكثرنا من الحديث عن عذاب القبر والنار التي تنتظرنا، وتجاهلنا الحديث عن الجنة والحور العين، وانتشر تجار الدين كالنار في الهشيم، وخاصة في القرى والنجوع البعيدة عن أعين الحكومة، فانتشر بين العامة نوع جديد من التدين الظاهري، يقوم على الإدعاء بامتلاك الدين ويبتعد تماما عن الممارسات التي تحترم العقل والإنسان .

هذه الهجمة الشرسة كانت أكثر شراسة من شظايا القنابل، فتدمير العقول يفرز لنا نماذج مشوهة، تفهم الدين بطريقتها الخاصة، ولا تتفاعل مع معطيات هذه الحياة التي نعيشها .

استغرب ممن يطلقون علي أنفسهم علماء، وهم في حقيقة الأمر مجرد أبواق للمخططات المرسومة لتدمير العقول المصرية . الدين الحقيقي الذي لن نفهم غيره، هو دين التسامح والمودة هو ما نادى به محمد صلي الله عليه وسلم من حب الخير لكل البشر، بغض النظر عن لونهم أو ديانتهم، والدين الحقيقي هو دين نبينا الذي صفح عن كفار قريش يوم الفتح وقال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء .

نعم لقد تغيرنا وصرنا أكثر حرصا على الحياة الزائلة لا محال، ولذلك ارى ان العودة لأخلاق الآباء والأجداد والحفاظ على ما تبقي لنا من قيم وأخلاق أمر غاية في الأهمية .
 
ان الشعوب لا تموت اذا ما خسرت حربا فهي تستطيع إعادة بناء نفسها والإنتصار من جديد ولكنها تقتل نفسها عمدا إذا ما خسرت الأخلاق والقيم الحميدة .

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved