إذا كانت المرأة و النشئ في الدول المتقدمة والبلدان التي تلمست من بعدها طريق استقامة الشأن هما محط الاهتمام الأول في لب سياساتها وتوجهاتها وخطبها وفلسفاتها وبرامجها فإنهما في هذه البلاد، وعلى العكس من كل ذلك، الضحية الأولى بالنسبة للنشئ، والمطية الذلول بالنسبة للمرأة . حقيقة تدعمها على أرض الواقع كل القرائن وتبين بها كل الأفعال المصرفة في زمن السياسة و الإعلام الجاريين .
وإن المتتبع للشأن السياسي لا بد أن يلحظ، على مستوى جميع الأحزاب باختلاف عقائدها وخطاباتها، ضعف حضور المرأة "المُنتزع" وكثرة التمثيل الغَرضي المُجامل والمُموه الذي لا ينتقص من الحضور والتصدر "الذكوري" في حراكَ المشهد من القيادة توجيه القرار. حقيقة أخرى لا يغير فيها ما يرتفع من الأصوات المطالبة بمساواتها في الحقوق والواجبات مع الرجل في ظل ما هو قائم لم يتغير من تأثير النظام الاجتماعي التقليدي التمييزي القبلي التراتبي، الاثني الطبقي، الشرائحي المهين والارستقراطي الاستعلائي، نظام انتكاسي يوظف السياسة ويطوعها بشتى الوسائل لمفاهيمه وتراتبيتها المحسوب جزء منها معتبر إدعاء ورياء على الشرع الإسلامي وهو منها براء براءة الذئب من دم يوسف إذ الإسلام دين مساواة وأخوة وألفة ولحمة يهدي للتي هي أقوم ولا فضل فيه لأحد على أحد إلا بالتقوى .
وإذا كان صحيحا أن جزء كبيرا وحيويا من شريحة النساء الموريتانيات يتمتع بحضور طافح على مسرح الحياة فإنه حضور شكلي يديره إلى مآربه ومقاصده حراك "ذُكوري" ضعفت من كثرة الخلافات والنزاعات الجاهلية "رجولتُه" وانكسرت شوكةٌ عنفوانه وتمرغت في الوحل كبرياؤه، حتى تحول في الظاهر وعلى السطح إلى مجتمع "أمُومي" تحركه غريزة الأم ويحتمي في أحضانها عند المصائب والانتكاسات ٍالسياسية يَدفعُها إلى الواجهة لتنتزع له ما زاحمه عليه أترابه بشأن تعينات في الوظائف وصفقات ربحية وفي المناقصات الوهمية وغير ذلك من المكاسب داخل حظيرة تقسيم كعكة المال العام والحضور في مراكز التسيير والقرار.
ولا تجد هذه المرأة، التي يتم إعدادها وتجيِيشها عند المناسبات والمواسم السياسية الكبرى لحمل الألوية والدفاع عن الكيان الانتمائي الحاضن في دفئ ضيقه، مع كل هذا الحضور الذي يرتفع حوله ألف صوت وصوت، لا تجد إذا إلا الذي تُقدم ريعه مجدا ومكانة لذويها من الذكور . فهذا الإعلام كله والمرئي منه على وجه التحديد لا يخصص لها من مادته "الدسمة" القليلة إلا بعض حضور التقديم والتلوين والديكور. وأما البرامج المخصصة لها في العمق فقليلة لا تتجاوز بعض أحرف باهتة كنون النسوة في تمييز تجاوزته أمم إلى فرض ندية المرأة والاعتراف بعطائها؛ برامج خالية من الرافعات إلى أعالي مستويات الإبداع والبذل و العطاء .
وأما النشء فوضعيته الحساسة لا تبين عن استقامة إذ المدارس عاجزة لأسباب يختلط فيها الموضوعي والعبثي عن أداء دورها التربوي القويم وخلق الأجيال المنقاة من أدران الماضي السميكة وإذ السياسة لا تعبأ هي كذلك إلا أن تلقنه ما ينضح به روادها ومتعاطوها في المقامات المتقدمة من:
· انتهازية،
· وحربائية،
· وسعي إلى الوظيفة السامية،
· والمال العام،
· والإفراط في المسؤولية إرضاء لهواجس الجاه و التحكم،
هو إذا نشأ معد سلفا و عن سبق إصرار ليرث الوضع على ما هو عليه ريثما يشتد ساعده على إدارة الكأس. و أما وجهه في الإعلام فقاتم هزيل بل و ضامر غائب، فلا سياسة مرسومة بأهداف و برامج و أطقم و ووسائل تبرز أهمية النشء في الحاضر و المستقبل حتى لا تكاد ترى في كل أوجه هذا الإعلام و منه المرئي بالدرجة الأولى، لما يتمتع به من قدرة على التجسيد في الواقع و الالتحام بالحياة العملية، ما يبين عن أي اهتمام أو توجه إلى هذا الركن الذي لا قيام لبلد بدونه و لا استمرارية. و إن المتتبع و الراصد لمخرجات الإعلام كما هو الحال بالنسبة للسياسة لا يكاد يقف على صناعة إعلام تربوي تسعى إلى تلافي الثغرة الكبرى التي تسببت فيها ميوعة التعاطي الإعلامي السياسي يدعمها الارتكاس الفكري، و البؤرة المتسعة لارتهان الحاضر و ابتلاع المستقبل بسبب الأيدي المغلولة إلى الأعناق عن العمل الميداني الهادف إلى البناء في ظل التغيير الإيجابي الدائم.
و هو ذات المتتبع الذي لا تكاد تقع له عين على دروس نموذجية يحضر مادتها و يلقيها المتخصصون من التربويين و المنهجيين، و لا على رسوم كرتونية هادفة منتقاة، أو ألعاب بالغة الدقة لشحذ الذكاء، أو أية أنشطة أخرى كالمسرح و زيارات المتاحف و المدن الأثرية و المصانع و الورش و الدفاع المدني و لا تنظيم أيام أعمال تطوعية أو إطلالات كشفية.
و بالطبع فإن التعاطي السياسي الصحيح في الدول المتقدمة و في مثيلاتها من سارت على خطاها هو الذي حقق للمرأة و النشء و الشباب المكانة المرموقة و الدرجة الممتازة التي تزدهي بها اليوم و تجني ثمارها وعيا و نضجا و سلامة عقل و قوة بدن و إبداعا ونفاذ بصيرة و مشاركة فعالة و جوهرية في عملية البناء المستديمة و خلق الرفاهية المشتهاة. و أما البلدان التي تخلفت عن هذا المسلك فإنها تعاني من اختلالات كبيرة تنعكس و تؤثر بشكل بالغ على الواقع المتردي و لا تحمل مطلقا بشائر المستقبل الواعد مثل ما هو الحال في هذه البلاد و إن أنكر المرجفون و حاولوا حجب الغابة بالشجرة.
فهل يصحح سياسيو البلد الوضع المختل فيغيبوا في وجهة جديدة آثام ما فات و يطلقوا بشجاعة و بالثلاثة الجاهلية السياسية؟
و هل يسلط الإعلام بما تقتضيه و تفرضه رسالته النبيلة الضوء على الوجه القاتم و السلوكيات المنحرفة في الأداء السياسي و واقع انحرافه و ضيق نظرته إلى المرأة و النشء و حتى بعدما يكشفه و يلغي كل مساوئه فلا يتم التوقيع بالنتيجة على التأخر عن رحلة المستقبل؟
كل الدلائل و المؤشرات لا تبين بقرب حدوث ذلك اللهم أن يحدث زلزال على أرض تبعد كثير جدا عن كل مراكز نشوئها فتحرك راكد الأمور لتنفتح آفاق التغيير و ترفع من جديد القواعد المقاومة لسرح قابل للارتفاع إلى أعالي التحول الإيجابي الذي تتطلبه المرحلة الحرجة.