انعكس التنوع البيئي والاثني في العراق غنى في أشكال البلاد الموسيقية، فأنغام سكان الجبال (الأكراد) وألحانهم وطبيعة إنشادهم وآلاتهم الموسيقية تختلف عن تلك التي تنتشر في منطقة أعالي البادية الغربية للعراق، والتي لا تكاد تبتعد عنها غير عشرات الكيلومترات. ففي البادية حيث نمط الحياة البدوية، تبدو الأنغام الخاصة متشابهة مع بقية امتدادات البادية العراقية ولكنها ليست متماثلة تماماً بالذات حينما يخترق نهر الفرات جزءاً منها، لتغدو الأنغام تركيبية وتنسحب الرتابة النغمية المنفتحة على أفق ساكن متشابه، هو أفق الصحراء.
من جهة ثانية لعبت الأنهار والحياة الريفية دوراً في صياغة ألحان الكثير من المناطق. ففي منطقة الاهوار، تبدو الموسيقى غير منفصلة عن طبيعة المنطقة التي تتميز بالصعوبة والضنك، مما انتج غناءً هو اقرب إلى النواح والندب منه إلى الغناء بوصفه شدواً.
ولو وصلنا إلى مناطق أقصى جنوب العراق (البصرة)، لأمكننا تحسس بنى إيقاعية في أنغام تنفتح على أصول إفريقية تارة وهندية تارة أخرى، لانفتاحها على البحر، وما هو سائد في البلدان المطلة على الخليج.
وحينما نصل إلى الحديث عن الحياة الموسيقية في المدن العراقية، ستكون موروثات الحياة البغدادية في مقدمها. فقد ورثت الحياة البغدادية القديمة تقاليد حملتها إليها السيطرة العثمانية ومنها تلك الفسحة التي توفرها الأنغام والموسيقى...
وازدهر الغناء البغدادي مع دخول عالم الاسطوانات وصناعتها إلى العراق.
ومع انهيار التراتب الاجتماعي وبالتالي التراتب القيمي والفكري للمجتمع العراقي بعد انقلاب 14 تموز (يوليو) 1958، وبوصول الرموز «الشعبية» إلى السلطة، وإزاء سيطرة الدولة على مرافق الإنتاج الفكري والفني، ضاعت المبادرة الفردية المبدعة لتنضوي في مهمات تجميل الخطاب السياسي وتصبح تابعا ذليلاً له.
وإذا كان هذا المشهد يتأسس في مجال الغناء الشعبي ، إلا أن مجالات الموسيقى الرصينة ظلت عصية بعض الشيء على «فوضى التحولات» الاجتماعية والذوقية: أولاً لقوة مراس فنانيها، وثانياً لرسوخ الأصالة اللحنية لأشكال موسيقية كالمقام العراقي مثلاً، وثالثاً للتركيبة الحضارية العميقة التي لم تتمكن موجات العنف والإجبار القسري (الثورات الوطنية) من زعزعة انتظامها كلياً - وان بدا إنها تمكنت من ذلك بعض الشيء. لذا، ظلت في العراق أشكال أساسية تنتج الموسيقى والألوان الغنائية وفقها، وظلت مدارس المقام العراقي مع محمد القبانحي، يوسف عمر ناظم الغزالي (الذي أعطى المقام طابع الأغنية الشعبية الخفيفة)، ولاحقاً تلاميذ تلك المدارس من قراء ومؤدي المقام، (حالياً حسين الأعظمي وحامد السعدي).
إن ابرز من عبّر عن البيئة في الأغنية العراقية هما صالح وداود الكويتي اللذان وضعا اكثر اغاني سليمة مراد وصديقة الملاية وزكية جورج. ثم جاء جيل آخر في الأربعينات والخمسينات، هو جيل وديع خوندة (سمير بغدادي)، يحيى حمدي، رضا علي، ناظم نعيم، أحمد الخليل، علاء كامل، محمد عبد المحسن، عباس جميل... وهؤلاء مزجوا بين قالب الأغنية العربية وروح الفن البغدادي الوثيق الصلة بالبيئة العراقية.
بعد هذا الجيل، ترنحت الأغنية العراقية لكنها عادت فاستقامت على يد مجموعة من الملحنين في عقدي ستينات القرن الماضي وسبعيناته: فاروق هلال، طالب القره غولي، محسن فرحان، محمد جواد أموري، جعفر الخفاف وكوكب حمزة ، وهؤلاء عبروا عن ملامح البيئة العراقية.
وإذا كانت الحرب على إيران جعلت الغناء يقف في «خنادق المواجهة»، فإن مرحلة» تلفزيون الشباب» (1993-2003)، شهدت توجّه الأغنية العراقية، تحت إدارة عدي صدام حسين، إلى دفة لم تقم اعتبارا لأي شرط فني في تعاطيها مع الغناء، وشهدت فترة صعود مطربين كثيرين انهوا فعلياً هوية الغناء العراقي. فالأصوات التي روج لها « تلفزيون الشباب» كانت في غالبيتها غير مصقولة، تعاني عيوباً جوهرية في الصوت فضلاً عن جهل في الثقافة الموسيقية، كما في غناء حاتم العراقي، باسم العلي، باسل العزيز، جلال خورشيد ، صلاح البحر، قسم السلطان، حبيب علي وغيرهم ممن خلطوا بطريقة ساذجة بين غناء الغجر وغناء الريف وتقليد الغناء العربي المعاصر القائم على الحان الإيقاعات الراقصة.
وعلى رغم أعمال كاظم الساهر التي أصبحت ظاهرة بحد ذاتها، وموسيقى إلهام المدفعي، وأغاني مهند محسن، وهيثم يوسف، ومحمود أنور ورضا العبد الله، فمن النادر أن يستمع المتلقي إلى صوت يشجي النفوس. بل إن التشويه هذه الأيام اخذ بعداً عربياً مع انتقال مطربي «تلفزيون الشباب» إلى «فضائيات الغناء « في غير بلد. ومع نتاج تلك الأصوات، تعرض الغناء العراقي إلى تعديلين بارزين: الأول في سيادة إيقاع « الجوبي» الذي يكاد يختصر التنوع اللافت في نمط مستهلك ، والثاني في « كلام ساذج ولحن متهافت « كما تعزز ذلك في أغان من نمط «البرتقالة».