الرقابة على الذات والتعبير عن الرأي

2009-07-23

على الساحة العربية ثمة الرقابة الذاتية، أو الرقابة على الذات. وللرقابة على الذات بواعث وأسباب سياسية وخلقية واجتماعية. ومنها التنشئة على الحذر أو الخوف، وأحيانا المغالاة في الحذر، وهي التنشئة التي تنشأ الشعوب النامية عليها، وغلة السلطات الرسمية وغير الرسمية في إنزال العقاب بمن يتجاوزون حدود النطاق المسموح به للإعراب عن التقييم والنقد والتصحيح، وباعث العادة الفكرية المتمثلة في أن يعتاد المرء على مراقبة ذاته. وأحيانا يكون تقدير المرء لقوة هذه البواعث مبالغا فيه، بمعنى أن هذه البواعث لا تستحق القدر الكبير من الرقابة على الذات الذي يبديه المرء.

وأحيانا تبلغ الرقابة على الذات حدا تصبح تلك الرقابة عنده، بسبب شدتها وصرامتها، مثارا للسخرية ونوعا من السخف. ومن الأمثلة على ذلك أن يبث مضيف برنامج شريطا عن حياة الأسماك في أحد المحيطات بينما يتجاهل ذلك المضيف الصراع المحتدم بين الأهالي في المدن وحتى في الشوارع الواقعة على مقربة من محطة التلفزيون التي تبث ذلك الشريط ويتجاهل ذلك المضيف أيضا الصراعات الناشبة طوال عشرات السنين في أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا.

وثمة مجال يختلف ضيقا أو سعة يسمح فيه المسؤولون بعدم ممارسة الرقابة فيه. إنه حيز ما كان يغضب المسؤولين عدمُ ممارسة الرقابة على الذات فيه. بيد أن الذين يمارسون الرقابة على ذواتهم كان في تقديرهم خطأ أن أولئكم المسؤولين كانوا يودون أن تمارس الرقابة فيه. هذه الرقابة هي من قبيل الرقابة التي لعل الناس ما كانوا يلزمون أنفسهم بها لو عرفوا أن عدم ممارستهم لها في هذا الحيز ما كان سيغضب المسؤولين.

ونظرا إلى أن أغلبية أصحاب السلطة الرسمية معنية، في المقام الأول، بالحفاظ على مواصلة تولي السلطة، لا تلتفت تلك الأغلبية أو لا تلتفت بما فيه الكفاية إلى الأهمية الاستراتيجية لرفع سقف الحوار السياسي والاستراتيجي والاقتصادي والثقافي والفكري والفلسفي على المحطات الفضائية وغيرها من وسائط الإتصال الجماهيري.

وليس من السليم، من منظور زيادة المعرفة وإذكاء الوعي، أن تكون بعض الاعتبارات من قبيل إرساء العلاقات الطبيعية مع دول غير صديقة وتلبية رغبات جامحة وغير متزنة لأطراف أجنبية بغية استرضائها سببا في تخفيض سقف ذلك الحوار وعرقلة الانسياب الفكري. ما نشهده اليوم على الساحة العالمية المتوترة والحافلة بالمنازعات والأزمات أن اعتبارات كهذه تسهم في إضعاف الانسياب الفكري وفي الحيلولة دون رفع سقف الحوار السياسي والوطني والفكري.

وأحد الأسئلة الذي يجب أن نتناوله هو: أين تكون تلك الاعتبارات أشد فعالية: في البلدان النامية أم البلدان المتقدمة النمو؟ بلدان الجنوب أم بلدان الشمال؟ ويمكن تقليل أثر تلك الاعتبارات بوسائل منها رفع الوعي لدى الناس، والتنشئة على احتمال الاختلاف الفكري.

وللتقريب بين مواقف أصحاب السلطات الرسمية وأفراد الشعب ولتيسير الالتقاء الفكري بين قطاعات الشعب كافة وللخوض في مواضيع يتهرب المتولون للسلطة من الخوض فيها من اللازم أن تنفق وسائط الاتصال الجماهيري وقتا أطول على التنشئة على إجراء الحوار بين العرب أفرادا وجماعات وشعوبا ودولا، وأن تخصص وقتا أقل كثيرا لبرامج أقل أهمية مثل بعض المسلسلات التلفزيونية الغربية التافهة الساقطة الساعية إلى تحقيق الربح المادي.

ولتقليل الرقابة على الذات ولإشاعة قدر أكبر من حرية الإعراب عن الرأي من اللازم أن توجد في الوطن العربي هيئات تمارس قدرا أكبر من الحرية وتشجع على التخلص من رقابة المفكر أو المثقف على ذاته. ويمكن للمحطات الفضائية العربية أن تؤدي دورا ذا شأن في هذا المضمار. والسلطات الحكومية هي أحد الأسباب الرئيسية في إخفاق قسم كبير من تلك المحطات في النهوض بالقضاء على الرقابة الذاتية. ويتفاوت أثرالمحطات الفضائية العربية في تحقيق غرض القضاء على الغلو في الرقابة على الذات. وتبث محطة الجزيرة برامج يومية وأسبوعية رفعت سقف الحرية في الإعراب عن التقييم والرأي والنقد، وهي تجسيد أمام المشاهدين لرفع مستوى ذلك السقف، وأذاقت المشاهدين مذاق الحرية الفكرية، وأطلعتهم على وجود بدائل فكرية واستراتيجية لطرق تناول وفهم القضايا العربية والإسلامية والإقليمية والعالمية، وأثبتت قوة الفكر العربي وصفا وتحليلا وتفكيكا وتنبؤا، وقدمت صورة مغايرة لصورة المحطات الفضائية في أذهان العرب، وجعلتهم يدركون أن من الممكن للعرب أن يأتوا بأشياء وأن يحدثوا تطورات ذات مضمون مختلف، وأن يتناولوا القضايا تناولا متعمقا واستراتيجيا. إننا، إذ قلنا ذلك، لا نعني بأي حال من الأحوال أننا لا ندرك أن ثمة برامج فضائية عربية تتسم بالتعمق في التحليل وبتناول مختلف المواضيع الاستراتيجية والسياسية.

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved