"جمرة".. هو اسم المجموعة القصصية للقاص شوقي يونس، والأولى التي اتيح لي الإطلاع عليها حين أهدتني اياها شقيقة القاص الشاعرة رفعة يونس، وقد شدني العنوان كثيراً للقراءة في المجموعة التي وجدتها عبارة عن قصص قصيرة وقصيرة جدا، ولكنها ليست جمرة واحدة بل 70 جمرة لاسعة، وقد أخذت المجموعة اسمها من النص الأخير: "هبت الريح فانقشع الرماد، وتشظت جمرة فاشتعل الهشيم"، وقد تميز الغلاف بلوحة تعبيرية حيث اللون الأسود للغلاف وبالوسط نيران مشتعلة والعنوان قاعدة للنيران، وكأن المصمم أراد القول أن جمرة شوقي يونس هي التي ستشعل النيران بهذا العدد من الجمرات التي احتواها الكتاب في 111 صفحة من القطع المتوسط، ويبدأ الكتاب قبل النصوص القصصية بعبارة : "الحق له الف لسان وإن كان أبكم، والباطل أبكم وإن كان له ألف لسان"، فمن هذه العبارات يعطينا الكاتب فكرته لنصوصه والمتلخصة بقول الحقيقة، ولذا أنهى الكتاب بنصه الأخير عن انقشاع الرماد وتشظي جمرة فاشتعل الهشيم، معطيا الإشارة أن جمراته قد اشعلت الهشيم .
لست بصدد الإشارة لكل ما تناولته جمرات القاص اللاسعة فهذا يحتاج مساحة كبيرة من الكتابة، ولذا أشرت لمضامين بعضها وإن كانت كل قصة تشكل موضوعا بحد ذاتها، ولكن لا بد من الإشارة أن مجمل هذه القصص تناولت المجتمع بجوانبه المختلفة مسلطة الضوء بحرفية القاص على جوانب مختلفة قد نشاهدها جميعا، لكن لا نجد من يعلق الجرس والذي سعى القاص من أجل تعليقه لعل أحد يسمع، عاملا على تشخيص الذات المجتمعية والفردية والواقع، ومن هنا ومن خلال قراءة هذه المجموعة القصصية القصيرة جدا بغالبيتها، علينا أن نتجه للبحث في الخصائص التي تميزت بها إضافة للمضامين الفكرية والهموم المجتمعية التي ضمتها في ثناياها، والتعايش مع التجربة الإنسانية لشخوص قصصه مع التأمل بالمناحي الجمالية في كتابة القصص وبين الكلمات، فالقصص القصيرة والقصيرة جدا تختلف مكوناتها عن القصص بمفهومها وأسلوبها التقليدي، فهنا على سبيل المثال يختفي المكان المحدد بالإسم الذي يشكل مسرح القصة القصيرة، كما يختفي مفهوم البطل الرئيس للقصة والشخصيات الثانوية، فالتركيز يكون على الحدث والفكرة المتركزة على شخص يمثل شريحة مجتمعية عامة، ويكون هذا الشخص سيد الحدث بدون تحديد لهوية الشخص أو اسمه أو منحه صفة البطل، ويتم تكثيف اللغة بالقصة لحد كبير بحيث يكون النص عبارات مكثفة توصل القراء للفكرة التي يريدها القاص والتي عادة ما تأتي على شكل صدمة بنهاية القصة، ويتم ذلك بدون الإبتعاد عن البناء الفني للقصة .
في نصوص الكتاب إشارت للكثير من مشكلات المجتمع ومعاناة أفراده، والأفراد في هذه النصوص تمثل شرائح مجتمعية نراها ونلمسها ولكن كم شخص يسعى للتغيير مقابل من يمرون بصمت وقد يكتفون بهز رؤوسهم، ففي النص الأول إشارة للأُدباء الذين يمضون بصمت ولا يشعر بهم أحد، وهذه بعض من معاناة الكتاب في مجتمعاتنا فكم كاتب قارب التسول من الفقر أو تعرض للموت ولم يمتلك ثمن العلاج ؟ ومع ذلك فالكثيرون لم ينتبهوا لهم وأنا أعرف بعض الحالات بشكل شخصي ورحم الله من رحلوا، ولعل بدء الجمرات بهذه الجمرة مؤشر قوي على الجمرات التي ستليها بالنصوص، ولذا لا بد من أن أشير للقضايا الثلاث التي دارت حولها النصوص حيث نجد أن القاص بحث في :
قضايا اجتماعية:
كما الحذِر الذي وقع في الحفرة رغم حذره الذي لم يكن شاملا، والمتأسلم الذي يمارس كل الإساءآت ويذهب للصلاة بدون أن يدرك أن الدين معاملة وسلوك قبل العبادات، والعجوز التي تعاني الوحدة فلا تنتبه أن الفراخ طارت فتضع لها الماء بحكم العادة، والطفل الذي بكى بعد ان أكل الكعك بعد أن عضه الجوع بدلا من بيعه، فبكى لأنه شبع وعاد لأسرته خالي الوفاض، وغيرها العديد من القصص مثل : الكعكة/ وداع/ تواتر/ التفاحة/ الزميرة/ السباك/ القطة/ اللمبة/ اللوحة/ أمومة/ تقدُّمي عجيب/ جائع/ حلم/ خسارة/ سوق عكاظ/ صدمة/ صلاة/ فكرة/ في المسلخ/ قطيع/ هشاشة/ محلل سياسي/ مراهقة بائسة/ نذالة/ هيزعة/ كاتب/ الحلاق/ سيناريوهات/ مدلس/ النعال/ سر/ الأرجوحة/ القميص/ الذئب/ ضمان/ خسيس/ تجارة/ ملاك صغير/ رُطب/ الحدث/ جمال .
الأرض والوطن:
ونلاحظ أن القاص في نصوصه المرتبطة بالأرض والوطن اتسم أُسلوبه بالمباشرة والوضوح، وهذا طبعا لوضوح القضية والأحاسيس والفكرة، وبالتالي كانت رؤية القاص واضحة ولكنها في نفس الوقت قائمة على ترابط النص وتماسكه، بحيث اعتمدت في النصوص على التكثيف اللغوي والتركيز على لب الموضوع، ولذا لم تفارق الأرض ولا الوطن القاص وحظيا بالعديد من النصوص منها الأرض وهو نص في قمة التعبير عن حب الأرض، حين يهمس المزارع للأرض أنه يحبها ولكن الحب وحده لا يكفي للخصب، فيزرع محراثه ويحرثها وهو يتألم لاحداثه أثلام الحراثة في جسدها الميت ليحييها، وأيضا نصوص مثل : الخيمة/ العُلبة وهي من أهم النصوص المرتبطة بالوطن في المجموعة/ نفير الكرامة/ قريتي فجرا/ وفيه يهمس القاص لبلدته الجميلة سلواد التي أجبر على تركها طفلا، وهذا النص تميز بوجدانية مغرقة الحنين، وإن ابتعد عن القصة بالمفهوم الفني .
القصص الرمزية:
وهي يمكن إسقاطها على العديد من القضايا، ونلاحظ أن الكاتب ابتعد في هذه المجموعة عن المباشرة بسردياته القصصية لاجئا للرمز، وهو من الأساليب التي لجأ لها العديد من القصصيين، وهذا الأُوب يترك الفرصة للقارئ ليفسر الرمز كما يراه وما يناسب ما يشعر به، ولكن الرمز كما أشرت سابقا هو عملية إسقاط واضحة على الكثير من القضايا المجتمعية والأحداث العامة، وأعتقد ان شوقي يونس لجأ لهذا الأُسلوب لشعوره بضرورة الإبتعاد عن المباشرة بطرح القضايا لأسباب يشعر بها وتخصه، وهذه النصوص كانت : الجزار/ الحافلة/ الدمية/ الدولاب/ الصافرة/ العلق/ القرد/ المسمار/ الوباء/ حرية/ حكيم وهي قصة مستمدة من تراث الحكايات/ خبيز/ عالم هش/ نهاية كلب شجاع/ ربيع/ البعرة/ الطوفان/ جمرة .
وحين نجول في أروقة الكتاب والمضامين التي احتواها نجد أن القاص تمكن من متابعة القضايا الإجتماعية المختلفة التي نجدها في مجتمعاتنا مثل الفقر والجوع والجهل والخلافات الأسرية وقضايا الطلاق والمنازعات والخلافات، وهذا بحد ذاته أعطى للكتاب قيمة خاصة ومتميزة، فلم يكن القص من أجل القص بحد ذاته بمقدار ما كان وسيلة لقرع الجرس، والإشارة لهذه القضايا بشكل لاسع يجعل القارئ يتفكر بهذا الواقع ويفكر كيف يمكن معالجة هذه القضايا، وفي القضايا التي ترتبط بالأرض والوطن نجد مدى التزام الكاتب بقضايا الوطن ومدى ارتباطه الروحي فيه، ونجد ذلك بشكل متميز في قصة العلبة وفي قصة سلواد بلدته، بينما تمكن برمزية غير مغرقة من ترك القارئ يسقط القصص الرمزية على ما يراه أو يشعر به، فتمكن من توجيه القارئ للتفكير والتركيز بالقراءة ليجول بين قضايا اجتماعية وقضايا الأرض والوطن وقضايا أخرى اعتمد الرمزية فيها .
رغم توجه الكثير من الكُتاب للشعر النثري بشكل كبير بحيث رأينا شعراء كثر وقلة في الشعر، وبعدها اتجه معظمهم للرواية بحيث لم نعد نستطيع متابعة هذا النهر الجارف من الأعمال الروائية التي تتفاوت بمستوياتها وقدرات من يكتبونها، ورغم ابتعاد الكثير من الكُتاب عن فن القصة واتجاههم للرواية وبعضهم خسر القصة ولم يبدع بالرواية، بحيث ظن الكثيرون أن فن القصة مات، حتى انه عقدت ندوات ومؤتمرات حول ذلك، إلا أن فن القصة رغم تعرضه للتجديد والحداثة ما زال متألقا ويلعب دوره وله قرائه والمتابعين له، فالقصة القصيرة ترصد الحدث وتعبر عنه بصيغة أدبية وتثير تساؤلات القارئ ولا تقدم حلولا للمشكلات وليس مطلوبا منها ذلك، فهي فن لا يجيده الكثيرون والبعض يخلط ما بين الخاطرة والقصة فيظن ان ما يكتبه قصصا وهي ليست أكثر من خواطر تفتقد الحد الأدنى من مكونات القصص، ولذا كانت مجموعة جمرة للقاص شوقي يونس إعادة احياء لفن أدبي ابتعد عنه الكثيرون رغم أنها جنس أدبي قوي بالتعبير عن المشكلات والقضايا المجتمعية والوطنية والإنسانية، وتتميز عن غيرها من الأجناس الأدبية النثرية بإيقاعها السريع والقريب من النفس بما يتناسب مع تطورات النشر والقراءة وتطورات الحياة وتسارعها وخصوصا بعد الثورة الرقمية، بحيث أصبح الكون ككرة صغيرة بين يدي المتابع والقارئ مما يتيح لقارئ القصة المقارنة والتحليل إضافة للتمتع بأشكال القصة وأساليبها .
من خلال قراءتي المتأنية للمجموعة القصصية "جمرة" أتقد أن الكاتب شوقي يونس تمكن من البناء القصصي بجدارة رغم بعض الملاحظات الواردة بالسياق، فعملية البناء القصصي لها أساليبها وفنها الذي يبعدها عن الأساليب النثرية الأخرى، فالقصة القصيرة فن متميز والقاص تمكن بجدارة واحترافية من تحديد الحدث المولد للقصة وشكله ببنية سردية مناسبة مع ما رواه من أحداث بأشكالها وتصنيفاتها والتي أشرت اليها سابقا، مع ضرورة الإنتباه أن القاص اهتم بسلاسة اللغة السردية والإبتعاد عن اللغة الصعبة والإهتمام بدقة البناء اللغوي وجماله وبساطته في نفس الوقت، والإهتمام بشخوص القصص مع تركها مجهولة وغير معرفة لتكون مناسبة للحدث بمفهومه الأعم ولا تحصره بشخص محدد، وأجد من المهم الإشارة إلى أن بعض النصوص كانت تثير فيّ َالضحك وأمتعتني جدا في نهايتها لخفة دم الصياغة والصدمة المضحكة للنهايات، فكانت المجموعة كما أشرت في البداية مجموعة من الجمرات وليست جمرة واحدة، وأكرر أنه لا مجال للبحث في كل نص من حيث البناء والأسلوب والسرد وفن القصة واللغة، تاركا المجال للقارئ ليتمتع بالتحليق بهذه المجموعة والغوص للوصول إلى الجمال فيها .
"عمَّان 3/12/2020"